مدينة الملوك... قصور مشيدة من الطين المجبول بالدماء

أبومي، أو مدينة الملوك، تنتصب بشموخ على بعد 135 كلم شمال كوتونو العاصمة الاقتصادية لبنين، مدينة تاريخية يتميّز معمارها بنقوش زخرفية توثّق خصوصية المكان، ولمبان احتضنت على مر السنين ملوكا صنعوا تاريخ البلاد.

مدينة الملوك... قصور مشيدة من الطين المجبول بالدماء

أبومي، أو مدينة الملوك، تنتصب بشموخ على بعد 135 كلم شمال كوتونو العاصمة الاقتصادية لبنين، مدينة تاريخية يتميّز معمارها بنقوش زخرفية توثّق خصوصية المكان، ولمبان احتضنت على مر السنين ملوكا صنعوا تاريخ البلاد.

نقوش معمارية وفنّ زخرفي، منحا المدينة إطلالة تحاكي مشهد رسم بلون ترابي، بريشة فنان موهوب يمتلك ذوقا ملكيا بامتياز، فعشرة قصور محاطة بجدران مشيّدة من الطوب باهت اللون، ومخضّبة في بعض أجزائها بلون أحمر داكن بفعل انسياب الزمن وتأثيرات العوامل المناخية.

ويعتقد سكان المدينة، وفقا لأسطورة قديمة، بأن ذلك اللون الأحمر هو دم بشري يعود إلى الأعداء الذين تمّ أسرهم وقتلهم في الغارات والنزاعات القبلية، تمّ خلطه بطين لتشييد القصور.

ويمتد موقع القصور الملكية بأبومي، على مساحة حوالي 48 هكتارا، ولقيمته التاريخية وهندسته المعمارية الأصلية، أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، منذ عام 1985، ضمن التراث الثقافي للإنسانية.

زخرف تجاوز كونه مجرّد تقنية معمارية استخدمها الأسلاف في بنين، فهو يقف شاهدا على الخصوصية الحضارية للبلاد، ليصنع جسرا بين الأجيال، ويكسر القطيعة الحضارية، التي عادة ما قد تتشكل بفعل الزمن وتغيّر الأذواق والعادات، فهناك في "أبومي"، تتوحد الهندسة المعمارية العتيقة والعصرية، بفعل تلك النقوش، لتضفي عليها روحا تتأرجح بين الماضي والحاضر، وتختزن بداخلها رصيد المدينة من الأمثال الشعبية والأساطير، وحتى بعض الحقائق التاريخية المتداولة.

وتعود النقوش الفنية في "أبومي" إلى حقبة ملوك مملكة داهومي (1600 إلى 1894)، وسخرت بديلا للكتابة، وفق الفنان ومهندس الديكور، الخبير بفن النقوش في بنين، داميان توكوداغبا.

"في الفترة التي سبقت الاستعمار الفرنسي، أي قبيل عام 1899، لم يكن الملوك يفقهون القراءة والكتابة، لذا استخدموا النقوش لتمرير رسائل والتعبير عن أفكارهم أو فلسفتهم وحفظها للأجيال القادمة"، تابع داميان.

الفنان البنيني، أضاف في الاتجاه ذاته، أن الملوك كانوا يتوجهون إلى ما يصطلح على تسميته بـ"ديديتو"، أي "الفنانين الرسامين المتخصصين في هذه التقنية الفنية"، لتدوين ما يخطر في بالهم من أفكار.

الـ "ديديتو" كانوا يعيشون داخل القصر الملكي "لخدمة الملك"، بحسب الخبير في فن النقوش، الذي أشار إلى أن الملوك كان بإمكانهم دعوة هؤلاء في أي وقت، نهارا أو في الليل، عندما تنهمر بنات أفكارهم.

ومن جانبه، لفت الأستاذ المساعد في تاريخ الفن في جامعة أبومي- كالافي، جوزيف أداندي، أن "النقوش مستوحاة من المصادر الشفوية المسجلة للمملكة والتي يعود إليها، عند الحاجة، مجموعة من المتخصصين في تاريخ الملوك يعرفون بـ"كبانلنغان"، وهم الأشخاص المعنيون بقراءة إيماءات جميع ملوك داهومي"، مضيفا أن هامش الخطأ غير مسموح "في أدنى كلمة".

الفنان الأول والوحيد بعد جيل الـ"ديديتو"، في هذه المملكة، كان سيبريان توكوداغبا، العسكري السابق في سبعينيات القرن الماضي، بعد أن تخلى عن مهامه بالجيش وتفرّغ للفن الزخرفي بهدف الحفاظ على إرث الأجداد، وفق نجله الفنان الشاب داميان توكوداغبا.

إتقانه لفن النقوش فتح أمام "توكوداغبا" الأب مجال الرسم على مصراعيه، ما مكنه من القيام بجولة عالمية عرض، خلالها، إبداعاته في المحافل الفنية الدولية وحمل راية بلاده في أصقاع الأرض، بحسب داميان الابن، الذي أوضح أن "الجينات الفنية" ورثها عن والده الذي وافته المنية عام 2012.

وبخصوص التقنيات المستخدمة، قال جوزيف أداندي، "في جدار سميك جدا، يحفر الفنانون فجوة أو كوة مربعة الشكل أو مستطيلة في معظم الأحيان، ينحتون داخلها الرسم المزمع إنجازه".

تغييرات طرأت على هذا الفن المتجذّر في ربوع البلاد على مر السنين، دفعت الفنان الشاب للتعليق، بالقول: "في عهد الملوك، النقوش كانت تتم باستخدام صخور صغيرة، والزيت الأحمر، ولب جوز النخيل".

وفي الوقت الحاضر، يستخدم الفنانون "إطارات دائرية مزينة على حسب ذوق الزبون، والحديد الإسمنتي، والرمل البحري، والإسمنت والمسامير والأسمنت الأبيض، من أجل مساعدة النقوش على مقاومة العوامل الجوية"، بحسب داميان توكوداغبا الذي لفت، في المقابل، أن الحرفيين باتوا يتخلون، على نحو متزايد، عن هذه النقوش التي كانت تحظى بطلب كبير في السابق.

اقرأ/ي أيضًا | رقصة "ويذرنج هايتس" تغزو العالم مجددًا بعد 40 عامًا

وأضاف الفنان الذي يمارس هذه المهنة، منذ 18 عاما: "الناس يريدون، اليوم، نقوشا تواكب متطلبات الحداثة وتشي بالفخامة. لذلك، ينبغي علينا استخدام موادا معاصرة"، معربا في ذات الصدد عن أسفه من هذا التوجه "الذي يشوه النقوش ويحرمها من عراقتها، خاصة وأنها رموز للهوية وأعمال تراثية".

التعليقات