لماذا تمتلئ شوارع أوروبا بالمتشرّدين؟ وكيف بدأت هذه الظاهرة؟

يمكن إرجاع ظاهرة التشرّد في أوروبا إلى أوائل القرن العشرين، عندما أدّت آثار الحرب العالميّة الأولى إلى زيادة كبيرة في الفقر وفقدان الناس لمساكنها، ثمّ ساء الوضع خلال الحرب العالميّة الثانية، والّتي شهدت نزوح ملايين الأشخاص في جميع أنحاء

لماذا تمتلئ شوارع أوروبا بالمتشرّدين؟ وكيف بدأت هذه الظاهرة؟

(Getty)

يتزايد الحديث مؤخرًا حول ازدياد معدّلات التشرّد في أوروبا وخاصّة إنجلترا، وذلك بعد أربع سنوات من انخفاض أعدادهم، فبحسب أحدث الدراسات التي أجريت ما بين تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأوّل/ ديسمبر، فإنّ هناك زيادة بنحو 26٪ مقارنة مع عام 2021، وهو ما يشكّل أكبر ارتفاع سنويّ في معدّل التشرّد منذ عام 2015.

ويعتبر التشرّد قضيّة اجتماعيّة معقّدة تؤثّر على الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في إنجلترا، وغالبًا ما يتّسم هذا الوضع بالفقر ونقص الإسكان والإقصاء الاجتماعيّ، ففي أوروبا، ظلّ التشرّد مشكلة مستمرّة لعقود من الزمان، مع تزايد عدد الأشخاص الّذين لا مأوى لهم بشكل مطّرد على مرّ السنين.

ويقول خبراء وباحثون، إنّه يمكن إرجاع ظاهرة التشرّد في أوروبا إلى أوائل القرن العشرين، عندما أدّت آثار الحرب العالميّة الأولى إلى زيادة كبيرة في الفقر وفقدان الناس لمساكنها، ثمّ ساء الوضع خلال الحرب العالميّة الثانية، والّتي شهدت نزوح ملايين الأشخاص في جميع أنحاء أوروبا، كما شهدت فترة ما بعد الحرب إنشاء أنظمة الرعاية الاجتماعيّة في جميع أنحاء أوروبا، والّتي تهدف إلى تقديم الدعم للمحتاجين، ومع ذلك، ففي السنوات الّتي تلت ذلك، أدّى الركود الاقتصاديّ وعدم الاستقرار السياسيّ والتغيّرات الاجتماعيّة إلى زيادة أعداد المتشرّدين وظاهرة التشرّد بشكل عام.

إحدى العوامل المهمّة الّتي ساهمت في ارتفاع معدّلات التشرّد في أوروبا، كانت عدم وجود مساكن ميسورة التكلفة، وذلك على مدى العقود القليلة الماضية، حيث ارتفعت تكلفة الإسكان بشكل كبير، ممّا جعل من الصعب على الأفراد والأسر ذوي الدخل المنخفض العثور على منازل ميسورة التكلفة، وقد تفاقم هذا بسبب حقيقة أنّ العديد من الدول الأوروبّيّة قد خفّضت استثماراتها في الإسكان الاجتماعيّ، ونتيجة لذلك، فقد ازداد عدد الأشخاص غير القادرين على تحمّل تكاليف السكن، ممّا أدّى إلى ارتفاع معدّلات التشرّد.

(Getty)

العامل الآخر الّذي ساهم في زيادة التشرّد هو الطبيعة المتغيّرة للعمل، إذ أدّى نموّ اقتصاد الوظائف المؤقّتة والعمالة غير المستقرّة إلى عدم قدرة العديد من الأشخاص على تأمين وظائف ودخل مستقرّ، وقد جعل ذلك من الصعب عليهم الحفاظ على مساكن مستقرّة، وزاد من تعرّضهم للتشرّد، بالإضافة إلى ذلك ، كان لوباء COVID-19 تأثيرًا كبيرًا على الاقتصاد العالميّ، ممّا أدّى إلى فقدان الوظائف على نطاق واسع وعدم الاستقرار الاقتصاديّ، وقد أدّى ذلك إلى تفاقم قضيّة التشرّد في أوروبا بشكل عام، وهو ما يظهر بشكل واضح في ارتفاع أعداد المشرّدين.

وبحسب خبراء، فقد كان الاستبعاد الاجتماعيّ عاملًا مهمًّا آخر ساهم في زيادة التشرّد، إذ إنّ عددًا كبيرًا من المشرّدين في أوروبا كانوا مهمّشين ومستبعدين من المجتمع، وقد جعل ذلك من الصعب عليهم الوصول إلى الخدمات والدعم، مثل الرعاية الصحّيّة والتعليم والتوظيف، وغالبًا ما يكون التشرّد مصحوبًا بمجموعة من المشكلات الصحّيّة، بما في ذلك مشكلات الصحّة العقليّة وتعاطي المخدّرات وغيرها، وهو ما يفاقم هذه المشاكل ولا يقدّم لها أيّ حلول، بسبب وصمة العار والتمييز الّتي يواجهها الأشخاص الّذين لا مأوى لهم، ممّا يجعل من الصعب عليهم الحصول على المساعدة الّتي يحتاجون إليها.

وفي السنوات الأخيرة، اتّخذت العديد من الدول الأوروبّيّة خطوات لمعالجة قضيّة التشرّد، وقد أدخلت بعض البلدان سياسات وبرامج تهدف إلى توفير مساكن ميسورة التكلفة ودعم المشرّدين، على سبيل المثال، فقد طبّقت فنلندا نهج الإسكان أوّلًا، والّذي يوفّر للمشرّدين السكن الدائم وخدمات الدعم، ونجح هذا النهج في الحدّ من التشرّد في فنلندا، وقد تبنّته دول أوروبّيّة أخرى.

(Getty)

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الجهود، فلا يزال التشرّد مشكلة كبيرة في أوروبا، إذ يستمرّ عدد الأشخاص الّذين لا مأوى لهم في النموّ، وقد سلّطت جائحة COVID-19 الضوء على الحاجة الملحّة لمعالجة هذه المشكلة، حيث كان للوباء تأثير غير متناسب على الأشخاص الّذين لا مأوى لهم، والّذين هم أكثر عرضة للإصابة، ويواجهون تحدّيات أكبر في الوصول إلى الرعاية الصحّيّة وخدمات الدعم الأخرى.

وحسب رأي متخصّصين ومراقبين لقضيّة التشرّد، فإنّ هذه الأزمة تتطلّب استجابة منسّقة من الحكومات والمجتمع المدنيّ والقطاع الخاصّ، وفي حين تمّ إحراز بعض التقدّم في معالجة هذه المشكلة، فإنّه لا يزال هناك الكثير من العمل الّذي يتعيّن القيام به لضمان حصول المشرّدين على سكن آمن ومستقرّ وبأسعار معقولة، ويشدّد باحثون على أنّ هذا الأمر يتطلّب معالجة مشكلة التشرّد من خلال اتّباع نهج شامل يتضمّن تدابير لمعالجة الأسباب الجذريّة للتشرّد، فضلًا عن السياسات والبرامج الّتي تهدف إلى توفير السكن والدعم والخدمات للمحتاجين.

وفي السياق العربيّ، فقد حذّرت مفوّضيّة الأمم المتّحدة للاجئين، من أنّ الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسورية مؤخرًا، قد يكون تسبّب في تشريد أكثر من 5 ملايين شخص في سورية، التي تعاني من نزاع دامٍ منذ نحو 12 عامًا.

وقال ممثّل المفوّضيّة في سورية، سيفانكا دانا بالا، خلال مؤتمر صحافيّ، إنّ "ما يصل إلى 5.3 مليون شخص قد يصبحون مشرّدين جراء الزلزال"، مشيرًا إلى تقديرات أوّليّة للأشخاص الذين سيحتاجون إلى مأوى في كلّ المناطق المتضرّرة.

التعليقات