أحشفاً وسوء كيله؟!../ رافي مصالحة

كان جديرا بالموقف للحظةٍ أن نجهز شريطا يقصه رئيس المجلس أمام الكاميرات وباقة ورد يقدمها طالب من الذين تتلمذوا تحت الأغصان، وأن يقوم منتخبنا الوطني للدبكة الشعبية بحصته في مهرجان "الكرافان"، وأن نعلن الواحد والعشرين من كل سنة عيدا وطنيا نسميه عيد الكرفان، نعطل فيه الدراسة، ونقفل الحوانيت لنمضي زمرا إلى مهرجان الكرفان الوطني الخطابي السنوي

أحشفاً وسوء كيله؟!../ رافي مصالحة
تفاصيل واقع المأساة
 
في مطلع السّنة الدراسية الحالية درس طلاب الإعدادية في دبورية تحت الشجر في ساحات المدرسة لعدم وجود غرف تدريسية تؤويهم. ولما علا الامتعاض من حناجر الأهالي سارع القائمون على المدرسة بارتجال الحلول فابتدعوا صفاً في ممر للطلاب لا شبابيك له ولا تهوية ولا لوح للكتابة ولا هو مهيأ ليكون صفاً أصلاً، وهو يقابل غرفتي مرحاضٍ تقعان أمام الطلاب تماماً، وكلّ من يود المرور أثناء الدرس من طلاب لقضاء حاجته الطبيعية فهو يمر من بين طلاب هذا الصف. ولكم ان تتصوروا حجم الفوضى الناتجة عن ذلك الوضع.
 
بعدها، أُفرغت غرفة أسموها سابقا "بالمكتبة" (ولا نعلم سبب التسمية) ليدرس فيها الطلاب، فوضع فيها حطام مقاعد وطاولات كانت مرشحة للرمي في القمامة، ولم يكن فيها أي شباك واحد صالح، ولا قابس كهرباء واحد صالح، ويحاذيها مجمع للمياه العادمة التي تفوح رائحتها النتنة من بعيد.
 
بعد ساعة واحدة من المكوث في هذا الصف اضطر الطلاب للهرب الى بيوتهم باكين مكتئبين.
 
نحن نتحدث عن مدرسة تملؤها القذارة، لم تُجر فيها أعمال صيانة (كالدهان على الأقل) منذ سنين. وفيها يدرس طلاب التاسع في غرفتين تاريخيتين تساقطت قطع القصارة من سقفها على رؤوس الطلاب. المنافع لا تليق للاستعمال البشري، لا تحظى بالتنظيف ولا بأوراق المراحيض.
 
تنعدم في المدرسة الحاجيات الأساسية اليومية كأوراق الطباعة والحبر والأقلام ومواد التنظيف وتجهيزات الرياضة البدنية. لا مكتبة في المدرسة. تنقطع الكهرباء باستمرار، وخلال الشهر الأول للدراسة انقطعت المياه لأيام. تيار الكهرباء الضعيف لا يقوى على تشغيل أي شيء ولذا فلا مكيفات في المدرسة مثلا. في المدرسة 40 مدرسّة يحظين بغرفة مرحاض واحدة، والسرد قد يطول ويطول ورغم ذلك نغفل عن تفاصيل أخرى للمأساة.
 
تاريخ المأساة
 
معاناة المدرسة بدأت منذ حوالي 8 سنين. لقد أرسلت عشرات الرسائل التي تنذر بالحاجة الماسّة الى الغرف الصفّية، وإلى النقص بالمرافق مما يعيق أي حياةٍ دراسيّة سليمةٍ، وكان مصيرها التناسي. في سنة معينة، بنى الأهالي غرفتين بأموال التبرع، لكنهما لم تحلا أيّ أزمة.  
 
من الطبيعي أن كارثة النقص بالغرف لحد اللجوء إلى الطبيعة الأم والعودة بأبنائنا الى عصور ما قبل الميلاد (حيث لقن أرسطو وأفلاطون تلاميذهم من العلوم بين ظلال الأشجار) كانت متوقعة ومعروفة لدى أي مسؤول. ولكن المجلس المحلي في القرية لم يتحرك لحلها كما ينبغي، وآثر الاحتماء بدفع المسؤولية نحو وزارة التجهيل بحجّة أنه في تلك الجريمة (بالذات !) غير مذنب.
 
ولكن الذي يثير الحفيظة أنه بتاريخ الرابع عشر من رمضان الأخير (أسبوعين فقط قبل افتتاح الدراسة!) أرسل المجلس رسالة مقتضبة من سطور قليلة يلتمس فيها ويتضرع لمد يد العون في إرسال غرفتين من البناء المؤقت لحل الأزمة! لقد توقف الخيال المبدع عند الغرف المؤقتة ولم يرتق أبدا إلى مستوى الطموح للسعي إلى بناءٍ لائق يتعلم فيه الطلاب كأترابهم في سائر البلاد.
 
 والأدهى هو أنه تبين أن المجلس المحلي الذي طمأن الناس الذين لوحوا بعصا الإضراب والتظاهر بأن "الحل" في الأفق ولا حاجة للإضرابات، لم يوقع الاتفاقية التي بموجبها ستحضر المباني المؤقتة إلا بعد أيام من بث الوعود، مما أعاق تنفيذ الحل الذي اعتبر سخيفا في نظر جميع الآباء الساخطين على تقصير هذه المؤسسة السقيمة في حق أولادهم. رغم أنفك يتبادر الى ذهنك في هذا السياق مساعدو الملك الفاسدون في مسرحية "المأساة الإسبانية" للكاتب كيد توماس، الذين برعوا في تزييف التقارير المرفوعة إلى الملك بغية تضليله.
 
ذروة الكوميديا و"الوعد الصادق" !
 
بتاريخ 21 أيلول ليلا، وصلت المباني المؤقتة. وكان في استقبالها وفد المجلس المحلي من رئيس وملحقاته وعدد من المراسلين المزودين بالكاميرات اهتم مسؤولوا المجلس أن يدعوهم لتوثيق هذه اللحظة التاريخية.
 
وعندما حطت تلك العلب البشعة على أرض ساحة المدرسة المعتمة الكئيبة، ارتسمت على وجوه كامل أفراد جوقة المجلس ابتسامة عريضة، هي أشبه بابتسامة الانتصار. نعم، إنه الانتصار على عقلية المواطن والإبداع في إخفاء الجريمة التي ترتكب كل يوم في حق الأجيال في دبورية، وهو ذات الإبداع الذي اغتال مدرسة ثانوية خدمت بنجاح مذهل أجيالا من طلاب القرية.
 
وزعت الحلوى، وانطلقت التصريحات بحمد الله على تحقيق "الوعد الصادق"، إلا أنها كانت موزونة فلم تصل حد الوعد بورق المراحيض وما بعد ورق المراحيض أو ما بعد بعده. تخيلوا للحظة كيف جرى الحديث عن إنجاز تصدر المواقع الاخبارية الرخيصة التي تنشر ما يملى لها من أكاذيب حسب الطلب، وعودوا رحمكم الله إلى السطور الأولى اعلاه لتعرفوا حجم مصيبتنا في مسؤولينا، وتفننهم بالتلاعب بعقول العامة، فمع تقصيرهم الفاضح والمخزي، يتباهون بإنجاز وهمي يخجل له كل ذي ضمير.
 
 كان جديرا بالموقف للحظةٍ أن نجهز شريطا يقصه رئيس المجلس أمام الكاميرات وباقة ورد يقدمها طالب من الذين تتلمذوا تحت الأغصان، وأن يقوم منتخبنا الوطني للدبكة الشعبية بحصته في مهرجان "الكرافان"، وأن نعلن الواحد والعشرين من كل سنة عيدا وطنيا نسميه عيد الكرفان، نعطل فيه الدراسة، ونقفل الحوانيت لنمضي زمرا إلى مهرجان الكرفان الوطني الخطابي السنوي.
 
من السخيف أن نرضى بيننا بمؤسسة طفيلية، تعيش على حساب غيرها لتخدم نفسها. إن المجلس المحلي في دبورية هو كيان يخدم نفسه فقط: همه الأول هو تحصيل المعاشات الشهرية لموظفيه. وعلى مستوى الخدمات فلا يشعر بوجوده أحد، اللهم إلا في مداهمات الشرطة للبيوت لابتزاز الضريبة بغير حق، إذ لا مقابل نجتزيه إزاء تلك "الخاوة" التي ندفعها. لقد تاجر المجلس بالمدارس فباعها لشبكة "عمال" فضاع التعليم. تحولت القرية إلى مجمع نفايات وأصبح هواؤها فاسدا إثر حرق المزابل في كل يوم وليلة فضاعت صحة الناس. لم يتجدد أي مشروع في أي مجال منذ سنين طوال فضاعت آمال البشر. ضاقت الأرض بالسكان فلا مجال للبناء والسكن فتلاشت أحلام الشباب بغد مشرق.
 
قرية الأشباح
 
ماذا ننتظر؟ أما زلنا ننتظر قدوم "جودو" على نسق مسرحية الإيرلندي صامويل بيكيت العبثية الشهيرة، ونحن موقنون أن هذا الوهم لن يأتي يوما ليخلصنا من عقدة التنكيل بذاتنا حتى نضحي حطاماً؟
 
تضرعت إلى الله في ليلة القدر الأخيرة أن يتاح لي طلب واحد فقط. وهو أن يُسمح لي بأن أغرس على مدخل قريتي إعلاناً أكتب فيه: "أيها الزائر الكريم، أنت تدخل مقبرةً جماعية، يموت الناس فيها وهم سائرون على أقدامهم، فاصرخ كما تشاء، فلن يسمعك أحد!".

التعليقات