أسرى الداخل..

-

أسرى الداخل..
كانت حصة باقة الغربية أن قدّمت أربعة شباب هم إبراهيم ورشدي أبو مخ، وإبراهيم بيادسة، ووليد دقة.. كانوا في العشرينيات من أعمارهم فأصبحوا بعد نحو واحد وعشرين عاما في الاربعينيات.. حيث ألقي القبض عليهم في شهر آذار العام 1986.. وجرت محاكمتهم في المحكمة العسكرية في مدينة اللد..

كانت الأجواء في ذلك الوقت «كاهانية»، حيث تغطرس الفاشي مئير كاهانا وصال وجال وهدّد وتوعّد ووصل الى أعتاب أم الفحم مع ثلّة من زعرانه، وحاول في أكثر من مرّة، وحتى من دون مناسبة، أن يقتحم هذه البلدة العربية أو تلك..

وانبرى الإعلام العبري ليصب الزيت على نار العنصرية، فاحتشدت الصحف بالمقالات التحريضية على العرب سكان الدولة العبرية «الذين ينعمون برفاهية غير موجودة وعزيز نيلها في أي قطر من الأقطار العربية».. وحفلت الصحف والإذاعة والتلفزيون بالتحليلات التي تعتبر العرب أعداء وناكري جميل تجب معاقبتهم بل إنزال أقصى العقوبة بهم.. وكان أسعد دقة، أخ وليد، على سبيل المثال، يعمل في محل يهودي قرب نتانيا.. وفي صبيحة أحد الأيام من تلك الفترة العصيبة، وجد صاحب العمل أن أوباشا قد ملأوا جدران المحل بشعارات ضد العرب، مثل «الموت للعرب المخربين».. «هنا يعمل أخ قاتل مخرب».. سنلقنكم درسا لن تنسوه».. وغيرها من التهديدات.

كانت تهمة الشباب الأربعة خطف جندي وقتله.. وكان أن اعترفوا، لكن بعضهم تراجع عن الاعتراف وأكّد أنه إنما اعترف تحت التعذيب المهول الذي مارسه المحققون، وكذلك ليجنّب أهله التحرّشات التي كان الكاهانيون يعتمدونها لاستفزاز الأهل والتشابك معهم علما أن يدهم هي الفوقا إذ أن لهم من يسندهم ومن يحميهم من الجيش والشرطة والسلاح الأوتوماتيكي..

يقول أسعد دقة، أخ الأسير وليد دقة:» عشنا فترة طويلة من الرعب والفزع.. حيث ووجهنا في أروقة المحكمة بتهجمات واعتداءات متكرّرة من ذوي الجندي ومن فاشيي الراب كاهانا الذين وصل بهم الأمر أن رموا المحامي رياض الأنيس بالبيض والبندورة.. هذا عدا التهديدات المتواصلة مواجهة وعبر الهاتف لنا بالويل والثبور..»

لكل واحد من الأربعة عالمه الخاص، والأمنيات والأحلام.. تقول الحاجة أم رشدي، التي دأبت على زيارة إبنها الأسير رشدي والأسير الآخر من العائلة، إبراهيم أبو مخ كونه لا أقارب له سوى أخت تزوجت في القدس: لقد تبنّيت إبراهيم وعاملته مثل إبني رشدي تماما.. إنني أزوّده بكل ما أشتريه أو آخذه لرشدي..». وتحرص الحاجة أم رشدي على زيارة «إبنيها» رشدي وإبراهيم كل اسبوعين كما تسمح إدارة السجون، وهي لم تنقطع عن هذا الواجب ولا حتى مرّة واحدة، سوى وقت منع الزيارات عن جميع الاسرى لمدة سنة كاملة عقابا لهم على الإضراب عن الزيارات وعن الطعام، والخطوات الإحتجاجية التي قاموا بها لتحسين ظروف سجنهم.. حيث حققوا إنجازات داخلية في ما يتعلق بعلاقتهم مع السجان وفي أمور حياتية أخرى داخل السجن، لكن الإضراب فشل في تحقيق أهدافه التي وضعها الأسرى هدفا لهم..

يعاني رشدي أبو مخ من عدّة أمراض تعرّف اليها في أسره.. فقد كان يعمل حدّادا ويملك يدين من ذهب، بحسب أمه الحاجة.. وكان صحيح الجسم قوي البنية لم يشك أبدا من مرض.. لكن السكري داهمه في السجن بسبب القهر والزعل، وكذلك الإلتهابات المتعدّدة، إضافة الى ورم في ظهره حيث اجتثّ أكثر من مرة، لكنه يعود في كل مرة..

لم تلم أم رشدي إبنها العزيز على ما قام به سوى مرة واحدة أثناء الإعتقال.. فقد جاء جوابه عصبيا غاضبا ردعها في ما بعد أن «تفتح له هذه السيرة».. فهو عصبي ولا يفعل شيئا هو غير مقتنع به، وهي لا تريد استثارته بدون طائل.

تمنّ إدارة السجون على الأسرى الأمنيين بأنها تسمح للأسير أن يتصوّر مع والدته إذا ما تخطّى عمرها الستين عاما.. وتصرّ أم رشدي على أن ألتقط لهما صورة معا.. فأحضرت صورة مكبّرة تظهر فيها الى جانب فلذة الكبد وحبيب القلب الذي لا تريد طول العمر الا لأجل أن تشهد حرّيته، وطلبت الي أن أصور الصورة، فمن دون ذلك هي ترفض نشر صورة لها في الصحيفة..
وتضرع أم رشدي الى الله أن يفكّ أسر جميع المساجين كي ترى رشدي حرّا قبل أن توافيها المنية.. تقول إن الموت حق.. «لكنني لا أريد أن أموت قبل أن أرى رشدي في بيته حرا طليقا..». وتلتفت يمنة ويسارا وتسأل: «هل من أمل لحل قريب؟».. وعندما لا يجيب أحد، تنظر مباشرة في عيني وتسألني:» أنت تعرف في السياسة.. هل سيتم الإفراج عن الأسرى؟».. فأعتصر ألمي في قلبي، وأجيب كما آلة :»إن شاء الله يا حجّة، الفرج قريب»..

وجّهت النيابة العامة تهمة التستر على الجريمة ضد رشدي أبو مخ، فهو لم يكن من المنفّذين الذين ادّعي أنهم شاركوا في عملية الإختطاف والقتل.. لكن المحكمة أنزلت العقوبة ذاتها على الشباب الأربعة: الحبس المؤبد مدى الحياة..

وقد توجّه وليد دقة برسائل الى جهات عدّة، محلية وأجنبية، يؤكّد فيها أنه إنما اعترف لأن ما تعرّض له من تعذيب أثناء التحقيق فاق طاقته على الاحتمال.. وكذلك حرصا منه على تقصير فترة المحاكم لئلا يعرّض ذويه لتحرّشات الفاشيين من عصابة المأفون كاهانا الذين دأبوا على حضور الجلسات ومضايقة الأهل والإعتداء عليهم الذي تجاوز السباب الى الإشتباك بالأيدي في بعض الأحيان.. لكن دقة لم يتلق ولو حتى جوابا واحدا على رسائله..

وتعيش الحاجة أم وليد دقة، كما زميلتها الحاجة أم رشدي، على أمل أن ترى وليد يخرج الى حريته ويبني له بيتا وأسرة وتقرّ عيناها برؤية أبنائه قبل أن تنتقل الى جوار ربّها.. هذا هو الأمل الذي تعيش من أجله وليس لها اية طموحات أخرى..

والحاجة أم وليد هي أم لكل أسير لا عون له.. فقد تبنّت العديد من الأسرى العرب كان آخرهم لبنانيا إسمه كايد تم تحريره في عملية تبادل للأسرى مع حزب الله حيث جرت عملية تبادل أسرى لبنانيين في مقابل أشلاء الجندي إيتامار في العام 1998، إذ كانت الحاجة تحرص على زيارته وعلى تزويده بكل ما يحتاج وما يطلب تماما كما وليد.. أكثر من عشرين عاما تخرج الحاجة مرة كل اسبوعين الى الزيارة، ولقد تعرفت على جميع السجون في إسرائيل إذ تنقّل وليد من سجن الى آخر لسبب أو من دون سبب، إمعانا في التعذيب والمضايقة..

ولقد رافقتها، انا كاتب هذه السطور، في زيارة الى وليد في سجنه العام 1997، وانبثق ذكاؤها عن خطّة لإدخالي الى السجن للزيارة، إذ قالت للسجان إنني ابن أختها.. ولقد فحص السجان الهوية واقتنع بالرواية ودخلت الى السجن وزرت وليد للمرة الأولى والوحيدة، حيث لا يسمح الا للأقربين من الدرجة الأولى: أخ أو أخت أو أب وأم وزوجة، ويمنع ما عداهم عن الزيارة.. وتقول الحاجة أم وليد إن هذا التشديد قد جرى في العامين الأخيرين، وقبل ذلك كانوا يسمحون للعم والخال والعمة والخالة بالزيارة، لكن الآن ممنوع..

كانت الفترة الأصعب على السجناء وذويهم هي فترة الإضراب عن الزيارات التي ذكرناها آنفا.. حيث منع الأهل من زيارة الأسرى لمدة عام كامل.. تقول الحاجة إن من أسباب الإضراب مطالبة السجناء للإدارة بإعادة نظام الشبك حتى يتسنى للاسير أن يسلّم على زائريه ولو بالإصبع، فقد رأوا بالنظام الجديد، الزيارة عبر الزجاج الفاصل والحديث من خلال الهاتف، أمرا غير إنساني.. ولقد توّج السجناء الإضراب بإضراب عن الطعام وكان ذلك في فترة الوزير تساحي هنغبي الذي كان وزيرا للأمن الداخلي فقال مقولته العنصرية المشهورة «دعوهم يضربون عن الطعام حتى الموت».. كان ذلك في العام 2004، وقد فشل الإضراب في تحقيق أهدافه المرجوة في كل ما يتعلق بالعلاقة مع الخارج ومع الأهل مثل الزيارة والاتصال بالأهل هاتفيا.. وفشل الإضراب في تحقيق الأهم ألا وهو ما يتعلق بأقسام السجن، حيث أن كل قسم يعتبر عمليا سجنا قائما بحدّ ذاته، حيث فرّغت مديرية السجون، بذلك، قوة الحركة الأسيرة التي استمدّت قوتها من التواصل في ما بين السجناء الذين كانوا يتصرفون كمجموعة منظمة وحققوا بذلك إنجازات كبيرة..

لكن الوضع الآن أن سجناء الـ 48 وسجناء الجولان السوري المحتل يقبعون مع بعضهم في قسم لهم، فيما سجناء الضفة الغربية في قسم آخر، وكذا سجناء قطاع غزة.. حتى أن السجين في قسم معين، إذا ما أراد رؤية صديق له في السجن ذاته ولكن في قسم آخر يترتب عليه تقديم طلب للسماح له بذلك.. وهكذا فقد شتّتت مديرية السجون قوة الحركة الأسيرة بشكل غير مسبوق.. لكن الإضراب نجح في النواحي الداخلية في كل ما يتعلق بالمكتبة وفي التعليم وفي الإكتظاظ في الغرف، وفي مواد التنظيف وغيرها..

حقق وليد دقة اللقب الأول في المدنيات والعلوم السياسية، ولقد خاض معركة شرسة مع مديرية السجون استمرت أكثر من عامين، بل قرابة ثلاثة أعوام حتى أتاحوا له مؤخرا تكملة دراسته للقب الثاني في الموضوع ذاته.. وتقول خطيبته سناء سلامة - دقة، إنهم عاقبوا وليد على خلفية الإضراب، حيث أنه كان واحدا من إثني عشر أسيرا كانوا يفاوضون مديرية السجون حول الإضراب.. ولهذا، فقد نقلوه بين أحد عشر سجنا في فترة شهرين فقط!!..

لم يكن وليد حاضرا لا في عملية الإختطاف ولا في عملية القتل.. لكن هذا لم يشفع له ولم يخفف من حكمه، فكل ما في الأمر أنه كان على علم بالموضوع ولم يخبر ولم يحذّر.. لكن أحدا لم يصدّقه ولم يأخذ بأقواله أنه إنما اعترف لفداحة التعذيب.. فهذا ما كانت تعتمده المحاكم في تلك الفترة.. تحكم على جميع أفراد الخلية بالحكم نفسه، ولا ترى الى من نفّذ ومن ساعد ومن عرف، فالجميع متساوون في الحكم..

ولوليد دقّة قصة فريدة، فقد عقد قرانه على أخت الأسرى سناء سلامة، التي وهبت حياتها خدمة للأسير الفلسطيني اينما كان، تزور وتبعث الرسائل وتستفز الضمائر والجيوب للتبرع لهؤلاء القابعين في غياهب السجون، وذلك عن طريق جمعية أنصار السجين التي تم قبل اسابيع إغلاقها ومنع نشاطها بأمر من وزير «الأمن» رئيس حزب «العمل»، عمير بيرتس.. حيث تؤكد سناء أنها وزملاءها سيجدون الطريقة للإلتفاف على أمر المنع.. فهم لن يتركوا الأسرى وحيدين يواجهون مصيرهم وبشاعة ظلم السجان..

كتب وليد دقة: «أنا لا أعرف عمر أمي الحقيقي.. لأمي عمران، عمرها الزماني الذي شاخ وعمرها الإعتقالي.. أو قل عمر أمي في الزمن الموازي عشرون عاما.

..نحن لمن لا يعرف قابعون في الزمن الموازي قبل انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره الإشتراكي.. نحن قبل انهيار سور برلين وحرب الخليج الأولى والثانية.. عمرنا في الزمن الموازي من عمر الثورة الفلسطينية.. وقبل انطلاقة بعض فصائلها.. قبل الفضائيات العربية وانتشار ثقافة الهمبورغر في عواصمنا.. بل نحن قبل اختراع الجهاز النقال وانتشار أنظمة الاتصالات الحديثة والانترنت.. نحن جزء من تاريخ، والتاريخ كما هو معروف حالة وفعل ماضي انتهى، إلا نحن، ماض مستمر لا ينتهي.. نخاطبكم منه حاضرا حتى لا يصبح مستقبلكم».. التوقيع: وليد دقة.. معتقل منذ 25/ 03/ 1986..

وهو يعكف في هذه الأثناء على كتابة نصوص أو خواطر تحت عنوان «رياحين في مفاصل صخور الدولة العبرية».. وقد تكون رياحين في مفاصل صخور قلوبنا.. نحن الذين أصبحت قلوبنا كحوافر الحمير فلم نعط هؤلاء حقّهم..


"فصل المقال"

التعليقات