الحرية للاسير المناضل وليد دقة

" ليرحل المحتلون وليطلق سراح اسرانا البواسل ـ رغم القيد لم ننكسر واملنا بالحرية اكبر من ايمان شارون بقتلنا "

الحرية للاسير المناضل وليد دقة

بقلم وليد دقة

السبت 5 حزيران 2004


هناك مسافة نحافظ عليها عندما نكتب بين الحدث – القضية وبيننا، مسافة من الزمان والمكان بل والحالة النفسية، وبالتالي هناك مسافة أيضاً بين ما نكتب وما نكتب عنه .. فلا يمكن أن نكتب عن الموت أو الجوع أو الخوف ونحن نعيش هذه الحالات باللحظة ذاتها .. فمهما كانت كتابتنا صادقة متفاعلة مع الحدث – الحالة، لا يمكنها أن تكون هي الحالة. لا أحد يكتب بمداد الأمعاء عن الجوع ولا أحد يكتب بمداد الدم عن القتل والموت .. لا تصدّقوا هذه المبالغات فهي ليست سوى محاولات بلاغية للإقتراب في كتابتنا من الحالة أو أقرب ما يمكن إليها .. لكنكم أبداً لن تجوعوا عندما ستقرأون عن الجوع ولن تموتوا أو تخافوا عندما تقرأون عن الخوف .. فلو كان الأمر كذلك لما قرأتم إلا إذا كنتم مشوسيون، وما دمتم تقرأون بنهم أو بمتعة فأنتم على أكثر تعديل ساديون.

الكتابة عن الإعتقال – السجن كحالة فقدان الحرّية تختلف بهذا المعنى عن الموت أو الخوف أو الجوع، فأنت بإمكانك أن تكتب عن حرّيتك المسلوبة وعن تجربة الأسر وأنت في الأسر، أن تعيش اللحظة وأن تصفها معاً، في حالة فقدان الحرّية تؤكد لي بأن الحرّية أقلّ أساسية من الوجود المادي للإنسان الذي يتهدده الموت أو الجوع. والقول بأنه "ليس على الخبز وحده يحيا الإنسان" يتصارع مع القول بأنه "لا توراة بدون قمح"

.. وعندما تكون الكتابة ممكنة عن فقدان الحرّية في لحظة فقدانها يعني بأن الكتابة ستكون أكثر دقة وقرباً لصورة الواقع .. والقدرة على الكتابة عن فقدان الحرّية في لحظة فقدانها ممكنة لأن الكتابة هي حالة تسلل خارج أسوار السجن ووسيلة هروب للوعي خارج زنازينه حتى لحظة الكتابة عن الزنازين. وبهذا المعنى أن تكتب وأن تعيش الحالة تغدو الحرّية أو فقدانها هي حالات ذهنية أو فكريّة واعية تمارس من خلال الكتابة أو الحديث عنها بمعزل عن الحالة المادية للجسد المأسور والمعزول عن العالم الخارجي .. وفقدان الحرّية أو توفرها ليسا حالة قانونية، فوفقاً لوضعي القانوني، أنا أسير لا يمكنني الوصول إلى سريري إلا بفتح ثمانية أبواب ..

لقد أوصدت هذه الأبواب منذ ثمانية عشر عاماً وبقيت أرفضها وأرفض مترتبات تصنيفي كأسير، هذه ليست حالة إنفصام عن الواقع وإنما رفضاً له كما لو كان قدراً .. رفضاً مبنيّاً ومؤسسّاً على قناعة بأنه واقع لكنه ليس الواقع، وهو حياة أعيشها لكنه ليس الحياة .. لقد حاولت طوال سنوات الأسر أن أوسّع مساحة حرّيتي ووسائل توسيع مساحة الحرّية متعدّدة، فالقراءة هي إنتقال إلى عالم غير عالم السجن، والتلفاز وسيلة مهمّة لكنه وسيلة رخيصة سريعة تعطّل الخيال الإنساني الطبيعي، فأنت لست بحاجة لأكثر من ضغطة على زر المتحكم وزوج عيون تتابع بهما الشاشة. الهروب خارج الأسوار عبر الخيال الإنساني الطبيعي يحتاج إلى قدرات ذهنية وإلى لعبة دماغية خاصة وممتعة. أنت، بعكس التلفاز، أنت الذي تختار المشهد وتطوّراته، تختاره حسب حاجتك ورغبتك .. الرواية تأتي ما بين التلفاز والتخيّل الحرّ في الرواية، تأخذ صورة مشهد أوليّ ولكنك تطوّره وتضيف عليه ما تشاء وكيفما تشاء .. والحرّية بهذا ليست تخّيل وخيال بل هي حقيقة دماغية تقرّرها أنت وتنقلها خطوة أخرى إلى الأمام إن أردت .. إن الكتابة هي خطوة أولى في نقل الحرّية المتخيّلة إلى واقع، ففي البداية حروف وكلمات ومن ثم أفكار وخطوات عمليّة، والحرّية على كل حال ليست حالة ذهنية كقول أحمد شوقي "كن جميلاً ترى الوجود جميلا" لكنها بنفس الآن ليست محكومة بالواقع المادي، قد تكون هي الحالة الإنسانية بزئبقيتها أو غازيتها متهرّبة متسللة. كم هم كثر أولئك الذين يعيشون خارج الأسوار وحرّيتهم تتهرّب وتفلت منهم ويعيشون في سجون محكمة.أنا الأسير وليد نمر دقه من فلسطينيي الداخل – 48 من مواليد باقه الغربيه عام 61، كنت قد التحقت في بداية الثمانينات أنا ومجموعة من شباب الداخل في صفوف إحدى فصائل الثورة الفلسطينية (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) .. تم تنظيمنا في مجموعة عسكرية مؤلفة من سبعة عناصر ثلاثة منها من قرى الجليل وأربعة من منطقة المثلث .. وفي عام 1984 تم فرز ثلاثة من أعضاء المجموعة للقيام بتدريبات عسكرية وأمنية ليقوموا لاحقاً بتشكيل ومتابعة جهاز عسكري يعمل داخل إسرائيل وقد ترأس هذا الجهاز الرفيق الشهيد إبراهيم الراعي من سكان مدينة قلقيليه الذي اعتقل وتمت تصفيته جسدياً في زنازين سجن الرملة وقد إدعت إدارة السجون بأنه قام بالإنتحار. وقد كنت واحداً من الثلاثة الذين تم اختيارهم، حيث تقرّر تسفيرنا سراً بجوازات مزوّرة إلى سوريا بعد أن سافرنا إلى دول أوروبية مختلفة كمحطة مؤقتة نتسلم بها أوراقنا وهويتنا الجديدة .. وفعلاً أجريت لنا التدريبات اللازمة في إحدى المعسكرات التابعة للجبهة الشعبية في سوريا قريباً من الحدود الأردنية، حيث استمرت التدريبات شهر تقريباً تلقيت خلالها تدريبات مختلفة على الأسلحة الخفيفة والمتفجرات بالإضافة لدورة نظرية في كيفية جمع المعلومات .. وقد التقيت هناك بمسؤول فرع الأرض المحتلة في حينه أبو نضال الذي كان واضحاً من حديثه بأن مهمّتنا كجهاز عسكري تتلخّص بثلاث نقاط .. الأولى جمع المعلومات حول قادة ومسؤولين إسرائيليين لهم علاقة بأحداث لبنان عموماً ومجزرة صبرا وشاتيلا خصوصاً والثانية القيام بعمليات عسكرية لتصفية هؤلاء المسؤولين والثالثة اختطاف عسكريين بهدف مبادلتهم بأسرى فلسطينيين وعرب معتقلين في السجون الإسرائيلية. وقد عملت وأعضاء الجهاز لمدة عامين تقريباً إلى أن تم اعتقالي عام 86 بتهمة خطف وقتل جندي إسرائيلي ومحاكمتي بالسجن المؤبد حيث أمضيت حتى الآن ثمانية عشرعاماً.

لم تتح لي فرصة الدراسة الجامعية فقد التحقت بسوق العمل مباشرة بعد إنهائي الدراسة الثانوية في عام 79 حيث عملت في ورش البناء والمطاعم والفنادق في تل-أبيب .. وقد وفرت لي سنوات الإعتقال فرصة للدراسة الذاتيه بل وفرصة لخوض تجربة عملية نادرة للمشاركة باعتقادي بأصعب وأشق جبهات المقاومة، حيث كان مطلوباً، في ظل الإعتقالات الواسعة أثناء الإنتفاضه الفلسطينيه الأولى، إعادة تنظيم وترتيب صفوف هذا الجيش الفلسطيني، الذي وصل إلى ما يزيد على 13 ألف معتقل، فكانت فرصة لنقل ما اكتسبته من دراسة وفهم نظري عبر إكساب هؤلاء الشباب ما كنت قد اكتسبته من أسرى الرعيل الأول الذين أمضوا سنوات طويلة داخل الأسر أمثال الشهيد عمر القاسم الذي توفي في السجن بعد أن أمضى ما يقارب ال 20 عاماً إثر مرض عضال .. لقد كان بالنسبة لي الإلتحاق بجامعة تل-أبيب المفتوحة، حيث حصلت على شهادة الباكالوريوس في العلوم السياسية وأعمل الآن على إنهاء دراستي لشهادة الماجستير في الديمقراطية، محاولة لتطوير أدوات النضال لجانب التجربة العملية واليومية، بل ولجانب ضرورة الحفاظ على الذات من التآكل نفسياً ومعنوياً جرّاء سنوات الإعتقال الطويلة فالسجن يأخذ مني كل يوم وأحاول تعويضه بالدراسة والتواصل مع شعبنا من داخل الزنازين .. فأخطر ما قد تواجهه الحركة الوطنية الأسيرة هو أن يتحوّل عناصرها إلى أناس يتركزون فقط بهمومهم الشخصية ويعيشون محنة الأسر والحرمان من الحرية ويغدون كالمرضى متركزين بمرضهم وشكواهم بدل التركيز بواقع شعبهم وهمومه وقضاياه ففي هذه الحالة يتحوّل المناضلون إلى هم بدل أن يكونوا حاملي الهم الوطني وإلى كم مفرغ بدل أن يمثلوا نخبة النضال والمقاومة.

لقد كان للدمار الذي خلفه الإجتياح الإسرائيلي للبنان وخصوصاً مذبحة صبرا وشاتيلا الأثر الكبير عليّ وعلى نفوس الكثيرين من الشباب من أبناء الشعب الفلسطيني داخل ما يسمى بالخط الأخضر وقد دفعتنا هذه الأجواء للإلتحاق بفصائل المقاومة الفلسطينية في محاولة منا لحسم التناقض الذي عاشه المواطن العربي في إسرائيل، وجيلنا عاشه بتكثيف عال بفعل ما أفرزته الحرب من مآس. وهذا التناقض باعتقادي أيضاً تعيشه فئة الشباب اليوم بتكثيف عال أيضاً خاصة في ظل ما يقوم به الإحتلال من جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. إن التناقض الذي كان وما زال بين كوننا ننتمي للشعب الفلسطيني ونحمل الهوية القومية العربية بهمومها وأحلامها، بآمالها وآلامها، وبين كوننا نحمل المواطنة الإسرائيلية والتي تتيح لنا قانونياً أن نبقى في وطننا وعلى أرضنا ومواطنين في دولة تعرّف نفسها بأنها دولة اليهود .. أمام هذا التناقض حسمنا في حينه خيارنا لصالح فلسطينيتنا وعروبتنا بالإلتحاق بفصائل المقاومة في الوقت الذي كنا به فاقدين لأي صبغة سياسية أو نظرية أو حتى قانونية تمكننا من تطويع التناقض بالنضال بين انتمائنا الوطني والقومي وبين مواطنتنا .. إلا أن حسمنا هذا، الذي قد يكون حلاً فردياً ممكناً، لا يمكنه أن يكون حلاً لشعب بأكمله وليس حلاً لمليون ومئتي ألف عربي من المواطنين العرب في إسرائيل .. لقد اختلطت علينا الأمور ولم نعرف كيف نتعامل مع مفهومي المواطنة والوطنية ولم يوفر لنا أي حزب أو قوة سياسية عربية فهماً أو إطاراً يتيح لنا مساحة كافية من النضال نحافظ من خلالها على هويتنا القومية ونمارس واجبنا الوطني من جهة .. ومن جهة أخرى نحافظ على وجودنا وأن ننزرع في أرضنا ونطالب وبجدية بمواطنتنا الكاملة .

لقد اعتقدنا كما حاولت أطروحات القوى والأحزاب العربية واليهودية إقناعنا بأن نختار بين المواطنة والهوية الوطنية لكننا نعتقد اليوم بأن الحسم لأحد الخيارين عبر شطب الخيار الآخر يعني في ظروفنا، كأقلية قومية، وفي ظل واقع سياسي وقانوني ذو خصوصية مركبة، بأننا نفقد الخيارين معاً. فما معنى المواطنة على حساب الهوية القومية؟ يعني مواطنة مجزوءة، مواطنة غير كاملة تستجدي الحقوق ولا تحصل على فتاتها كما تعني بالتالي الأسرلة، وما معنى أن نحسم الخيار كما فعلنا في حالتنا لصالح الإنضمام لإحدى فصائل م.ت.ف يعني فقدان المواطنة، وفقدان المواطنة في حالتنا كعرب في إسرائيل يعني اللجوء وفقدان الوطن، بل ويعني توفير المناخ والمبرّرات لمنظري الترانسفير لمزيد من مصادرة حقوقنا كأصحاب الأرض الأصليين .. وهذا كما قلت قد ينفع لحسم حالة التناقض لدى الأفراد لكنه لا يمكن أن يكون مشروعاً نضالياً للأقلية القومية العربية في إسرائيل وخصوصاً بعد أن قفزت إتفاقيات أوسلو عن هذا القطاع من الشعب الفلسطيني بل وقفزت عنا كمن التحقوا في صفوف المقاومة الفلسطينية، حيث اعتبرت قضية الإفراج عنا كسائر المناضلين في إطار إتفاقيات أوسلو مسألة لا علاقة للمفاوض الفلسطيني بها وإنما هي شأن إسرائيلي داخلي .

التعليقات