التربية الجنسية: نحن وأسئلة أبنائنا المُحرجة!

ماذا تقولون لأبنائكم وبناتكم إذا سألوكم يومًا: بابا، ماما، من وين إجيت؟.. غالبية مجتمعنا تخاف طبعًا من هذا السؤال وتنهر الطفل أو الطفلة بغضب، لأننا نخاف من الجنس ولأنه بالنسبة لنا "بُعبُع" يجب مطاردته والقضاء عليه وعلى ذكره بأسرع وقت وبأقسى الطرق! * العاملة الاجتماعية رفاه عنبتاوي- بنّا من "المنتدى العربي الفلسطيني لجنسانيّة الفرد والأسرة"، لا تخاف من الجنس، بل على العكس: تتحدث عنه بصراحة ومن دون تأتأة...

التربية الجنسية: نحن وأسئلة أبنائنا المُحرجة!
بعد عشرين عامًا من اليوم سيسألني ابني العزيز، والذي لا يتعدّى اليوم كونه فكرةً أو طموحًا في أحسن الأحوال، سؤالاً وُجوديًا من شأنه أن يحدّد طبيعة علاقتنا منذ ذلك اليوم -الآتي لا محالة- فصاعدًا. سيقول: "بابا، بابا"، وسأقاطعه بنظرة عتاب غاضبة فيستدرك: "يابا، يابا"، فأبتسم بسمة رضىً آذِنًا له بمتابعة حديث "الرجل إلى الرجل الصغير"، فيتابع: "أنا كيف جيت عَ العالم؟"، فأُصعق وألعن الساعة التي وضعتني في هكذا موقف محرج، وأشعل سيجارتي الأولى بعد انقطاع دام أكثر من خمسة عشر عامًا.

أفكّر قليلاً أمام انتظاره المُلحّ، وأقرّر أن أقول له الحقيقة كاملةً. سأقول له: "يا ولدي العزيز، القضيّة وما فيها أنّني وأمّك الحبيبة (التفاؤل ضروري..) فعلنا إكسًا ووايًا وزدًا في لقاء حميمي لطاقة الحب المشتعلة فينا، فانفجرت هذه الطاقة وتكوّنتَ أنت يا حبيبي". سيُذهل ولدي على ما اعتقد، وسيرمي حبّة البوظة في وجهي لاعنًا أمّي وأم أمّي واصلاً جدّتي الأولى: "أنتِ عملت هيك لأمّي؟!" سيصرخ وسيهرب من البيت لساعة أو لأكثر، ثمّ سيعود معتذرًا: "كل ما أردت يا يابا هو أن أعرف بعض التفاصيل عن يوم ولادتي، في أيّ مستشفى وأية ساعة وأمور كهذه، وأنت تحدّثني عن علاقاتك الحميميّة!! ومع أمّي أيضًا؟! أتظن أنّني أنتظر محاضرتك السخيفة لأعرف هذه الأمور؟ نحن أولاد القرن الواحد والعشرين يا رجل، لسنا متخلّفين مثلكم!"...

أسامحه في سرّي على هذه الإهانة الصادقة، فأنا، كأبناء جيلي، نشأتُ في زمن "الخطوط الحمراء"، زمن خسرتُ فيه أعزَّ أصدقاء الطفولة (الصف الرابع) عندما تجرّأتُ وشرحتُ له أنّ أمه وأباه يمارسان الجنس، وأحيانًا لهدف الولادة. فغضب منّي وشتمني وخسرته لأنّني اتّهمت أمّه بـ "السفالة"، وهي، كما تعرفون، الكلمة الطفوليّة المرادفة لكلمة جنس- هكذا علّمونا في المدارس!

عفوًا أعزائي القرّاء، إذا كنتُ بالغتُ في سرد قصصي المستقبليّة والماضية، وأعود بكم إلى زمننا هذا، لنذهب معًا في رحلة أقلّ ما يقال عنها إنّها "جنسيّة"- بالمعنى الأيجابي الجذاب للكلمة. قضية "التربية الجنسيّة" هي قضيّة مُجتمع بأسره، فنحن -وهذا اعتقاد شخصي بالتأكيد- من أشدّ الشعوب المنشغلة بموضوع الجنس، كونه من المحرّمات تداولاً وممارسة. فأجدني جازمًا بأنه إذا تنكّرت التربية -الأسريّة والمؤسساتيّة التعليميّة- لموضوع الجنس وحاولتْ ضربه في جذوره ولجمه في منابعه، فإنّ ما ستصل إليه في معظم الحالات هو مَسخه وتشويهه. ذلك أنّ المراهق إذا سأل ولم يجد التجاوب والجواب فسيبحث عن الجواب في مكان سيقدّمه له مُشوّهًا منقوصًا مجبولاً بالفظاظة والسخرية، وسنبقى كمجتمع، نراوح مكاننا في كبت هذه الأمور الحياتيّة الأساسيّة، "ويا دار ما دخلك شر"، والشر هو هو، رفيق دربنا المتخفّي بستة وستين قناعًا!

ليس خفيًا على أحد أنّنا كمجتمع عربي "تقليدي" و"محافظ" (وأنا لا أعرف على ماذا نحافظ بالتحديد!!) نتجاهل ونبتعد عن موضوع التوعية الجنسيّة كلَّ الإبتعاد. إلا أنّ هناك، والحمد لله، من يهتم بهذا الموضوع بالذات، ويخصّص له جُلّ نشاطه واهتمامه، وأنا أتحدّث عن "المنتدى العربي الفلسطيني لجنسانيّة الفرد والأسرة" (جنسانيّة: عبارة عن دمج لكلمتيْ "جنس" و "إنسانيّة" وهو التعريف العلمي للمصطلح sexuality)، والذي ينشط منذ أكثر من سنتيْن في حقل المدارس والمؤسّسات التربويّة، ويقوم بتنسيق عمل ميداني يتمثّل في عشرات ورشات العمل والأيام الدراسيّة في المدارس والأنشطة المتنوّعة داخل النوادي الشبابيّة والنسويّة.

ألتقي العاملة الإجتماعيّة رفاه عنبتاوي- بنّا، وهي إحدى المرشدات المؤهّلات الناشطات في المنتدى، لنتحدّث عن عمل المنتدى وأهدافه وعن تقبّل المجتمع لهذا النشاط وعن أمور أخرى تدور كلها في فلك هذا الموضوع الشائك.

- بداية، حدثينا عن المنتدى؟

عنبتاوي-بنا: "المنتدى العربي الفلسطيني لجنسانيّة الفرد والأسرة هو إطار قطري تطوعي يشكّل مرجعيّة مهنيّة مؤهّلة تلبّي حاجات وتطلّعات المجتمع بكافة فئاته فيما يتعلق بجنسانيّة الفرد والأسرة. يمكن تصنيف أهداف المنتدى بحسب ثلاثة محاور: 1) رفع الوعي: تعزيز الوعي الجنساني لدى فئات المجتمع المختلفة من خلال بناء مناهج دراسيّة، ورشات عمل، أيام دراسيّة، مؤتمرات وغيرها؛ 2) تأهيل كوادر: تدريب وتأهيل وتطوير كوادر مهنيّة في مجال الجنسانيّة والعمل على إقامة إطار تعليمي رسمي؛ 3) تقديم خدمات: تقديم استشارة في مجال الجنسانيّة للأفراد، الأزواج والمجموعات من فئات الجيل المختلفة، من خلال مركز استشارة مهني مؤهل؛ دعم وتوجيه وإثراء المهنيّين والمهنيّات من المؤسّسات الرسميّة وغير الرسميّة؛ وإصدار منشورات ومواد تثقيفيّة تتعلق بالجنسانية.

"في بداية العام 2000 بُوشر العمل على مشروع تحت عنوان "إفتحوا الأبواب في المجتمع العربي" ضمن برامج "جمعية تنظيم الأسرة التابعة للإتحاد العالمي لجمعيّات تنظيم الأسرة". وبما أنّ المجتمع العربي آنذاك كان يفتقر للكوادر المهنيّة المدرّبة لإدارة مركز استشاري إرتأينا أن نصبّ جهودنا في بناء بنية تحتيّة مهنيّة تقوم بدورها برفع الوعي الجنساني وتعزيز الصحّة الجنسيّة داخل المجتمع الفلسطيني في البلاد، ومن هناك كانت الانطلاقة.

"في العام 2002 كان عدد الخرّيجين العرب من الدورات تجاوز المائة والعشرين وكان لا بد من خلق إطار أو مظلّة مهنيّة بهدف احتواء هذا الكادر وتقديم المشورة والدعم المهني لضمان استمراريّة عطائه داخل المجتمع. من هنا جاءت فكرة إقامة المؤتمر الأوّل للخريجين والذي انتخبت خلاله لجنة تضمّنت مندوبات عن كل مجموعة تدريبيّة بهدف التنسيق على المستوى القطري. بعد سلسة اجتماعات وفي المؤتمر الثاني المنعقد في بداية العام 2003، أُعلِن عن تأسيس المنتدى العربي لجنسانيّة الفرد والأسرة."

- ما هي الخدمات التي يقدّمها المنتدى؟

عنبتاوي- بنا: "إلى جانب الأبحاث العلميّة القطريّة التي تستند إلى استطلاع رأي كبير لم تُنشر نتائجه بعد، ترتكز نشاطاتنا في مجاليْن أساسيّيْن هما "الباب المفتوح" وورشات العمل.

"خدمة "الباب المفتوح"، وهي مراكز استشارة للفتية والشبيبة في كل ما يتعلق بحيواتهم الجنسانيّة، متوفّرة في الرملة والناصرة وفي حيفا ( هاتف رقم: 8392424، يوميْ الأربعاء والجمعة بين الساعات 17:00و 20:00)، وتعمل على تقديم خدمات المشورة بالهاتف ووجهًا لوجه للمتوجّهين العرب من الفتية والشبيبة والأهل في أجواء مهنيّة وسريّة. وتقام ورشات العمل مع مجموعات من النساء والفتية المراهقين والشباب والأهالي في العديد من المواقع داخل الأطر الرسمية وغير الرسمية. مثال: عدد الورشات التي عقدت خلال العام 2004 تجاوز الـ 220 ورشة عمل بمعدل 18 مشارك/ة في كل ورشة.

"في كل عام نختار مدرسة لإقامة فعّاليات تهدف إلى تعزيز الصحة الجنسيّة لدى طلابها. في العام الماضي اخترنا مدرسة "راهبات الناصرة" في حيفا، حيث استمرّت الفعاليّات على مدار يوميْن، عملنا خلالها (حوالي 12 متطوّعة) مع جميع الطلبة من الصف الثامن وحتى الصف العاشر. وتضمّنت الفعاليّات خلال البرنامج الصباحي أربع ورشات عمل لكل صف حول مواضيع مختلفة ومسرحيّة دمى ومسابقة رسم. أما البرنامج المسائي فجرى بمشاركة أولياء الأمور وتضمّن عرضًا لمسرحية "طفل النور"، ومداخلة لعمر هادي، وهو مريض بالايدز، ليحكي قصّته. وقبل أسبوعين أقمنا فعاليّة شبيهة في المدرسة الشاملة "أ" في شفاعمرو، سبقتها فعاليّة في مدرسة "المتنبي" في حيفا استمرت لثلاثة أيّام شاركت فيها جمعيّة السوار."

في بداية مشروع المنتدى اقتصر العمل في المدارس على إجراء أيّام دراسيّة تتناول موضوع الجنس بشكل عام وموسّع، أمّا اليوم، ومع توفّر الكادر المهني، أسلوب العمل المتبع هو إقامة ورشات عمل مصغّرة تضم 15 طالبًا كحدٍّ أقصى يرشدهم مرشد مؤهّل من طرف المنتدى، في محاولة لطرق هذا الباب الذي تتجاهله المؤسّسة التعليميّة بشكل منهجي، إلاّ في بعض الحالات التي لا تتعدّى تقديم محاضرة علميّة بيولوجيّة عن سن البلوغ.

وتسبق ورشات العمل استمارة استطلاع رأي تُوزّع على الطلاب تفحص المواضيع التي يرى الطلاب أنّ هناك حاجة لنقاشها (العلاقة مع الأهل في مرحلة المراهقة، الأمراض الجنسيّة، العلاقات الجنسيّة، الصداقة، الفراق، العادة الشهريّة، العادة السريّة...). كما تفحص الإستمارة المصادرَ التي ساهمت في إثراء معلومات الطالب الجنسانيّة (الأم، الأب، الأخ/ت، المعلم/ة، الأصدقاء، الفيديو، الكتب، المجلات، الإنترنت). ولا تنسَ الإستمارة سؤال الطلاب عن كيفيّة تقديم الورشة، أي أمام جمهور مختلط أو غير مختلط. والطلاب عادةً يفضلون الورشات المختلطة...

- ما هي أكثر المواضيع تداولاً حسب اختيار الطلاب؟

عنبتاوي- بنا: "موضوع العلاقات الحميميّة والجنسيّة في جيل المراهقة هو أكثر المواضيع نقاشًا. ونحن بدورنا نقول للمراهقين إنّ هذا أمر طبيعي كموقف أولي، ثمّ نشرح لهم مميّزات وصفات جيل المراهقة وبالتالي نسأل السؤال: هل هذه المميّزات تؤهّلكم لإمكانيّة الإرتباط؟ الجواب هو لا، لأنّ هذا الجيل يتميّز بالتقلّبات والتغييرات النفسانيّة والجسديّة، ومع هذه التغييرات تأتي التغييرات في الرغبات... نحن ننصح الطلاب بأن يعيشوا هذه الأمور ضمن حدود المعقول وضمن العادات والتقاليد."

- لكن "العادات والتقاليد" التي تتحدّثين عنها مناقضة لهذه "العلاقات".

عنبتاوي- بنا: "نحن لم نأتِ لتغيير العادات والتقاليد في المجتمع العربي. بالمناسبة، هذه إحدى التهم التي تُوجّه إلينا من رافضي فكرة المنتدى والتربية الجنسيّة. لكنّنا، استنادًا إلى توجّه علمي مدروس، نطرح أمام الأهل و"الكبار" حقيقة أنّ المجتمع يمرّ كل الوقت بتغييرات في مركزها الإنفتاح غير المحدود على وسائل الإعلام، كالإنترنت والتلفزيون، وأمام زخم معلوماتي كهذا، لا يجوز أن نرفع راية "الممنوعات" التي تفرضها عاداتنا وتقاليدنا. على الأهل أن يلائموا أنفسهم لتغيّرات العصر؛ فأيّ رفض من طرفهم للإجابة على سؤال من ولدهم المراهق في موضوع العادة السريّة مثلاً سيزيد الفجوة فيما بينه وبينهم، ذلك لأنّ باستطاعة المراهق أن يستقي الأجوبة من مصادر أخرى، ليست صحيّة بالضرورة. على الأهل أن يلتزموا الصراحة مع الأولاد، وأن يرشدوهم إلى مصادر معلومات جيّدة، لما في ذلك من حفاظ على تطوير مفهوم صحي وأيجابي للجنس عند ولدهم، بعيدًا عن "الكبت" الذي يولد عادة طابعًا هاجسيًا مُلحًا بأمور الجنس."

- هل هناك ترحيب من المدارس لمثل هذه الفعاليّات؟

عنبتاوي- بنا: "بما أنّ الموضوع الذي نطرحه هو جديد وعليه "تابو" اجتماعي معيّن؛ فهناك تخوّف نابع من اعتقاد خاطئ بأنّ الطلاب لا يعيشون موضوع الجنس، بمعنى أنّ المدرسة كجهاز تفضّل الإمتناع عن الخوض في هذا الحقل لئلاّ يلفتوا نظر الطلاّب لمواضيع الجنس، ويتركوا للعامل الزمني أن يقوم بمهمّة التوعية!.. كما ونصادف عند المدارس تخوّفات من ظهور حالات ومشاكل هُم في غنى عنها، لعدم توفر كوادر مهنيّة تربويّة تعالج هذه الحالات، كما أنّ بعض الإدارات تخشى معارضة الأهل لمثل هذا النشاط ونحن بدورنا نقترح دائمًا أن نقدّم دورات توعية للأهل أيضًا."

المواضيع التي تطرح في ورشات وفعاليات المنتدى هي كثيرة ومتشعّبة، وتناولها حبرًا على صفحات جريدة ليس واقعيًا، لاعتقادي بأنها أمور حسّاسة لن نستطيع أن نوفيها حقّها كاملاً، وبالتالي نخشى أن تُطرح منقوصة. الحديث يدور عن مواضيع تُظهر استطلاعات المنتدى أنّ أولادنا بحاجة لتوعية وإرشاد بصددها، مثل: العادة السريّة والعادة الشهريّة والزواج المبكّر وغشاء البكارة والعلاقات الجنسيّة في سن المراهقة أو في داخل المدرسة وشرف العائلة والإستغلال الجنسي داخل العائلة ونكاح المحارم وازدواجيّة المعايير عند الذكور فيما يخصّ الإنفتاح الجنسي (لي مسموح، لأختي غير مسموح) وأساليب الوقاية ومنع الحمل، والقائمة طويلة جدًا.

للختام نذكّر بأهمية الجوّ الذي ينبغي أن يتم فيه الإرشاد الجنسي في إطار العائلة أو المدرسة، فالمناخ الحواري بين الوالدين والأولاد أو المعلّمين والطلاب هو شرط أساسي من شروط التربية الجنسيّة الصحيحة، وهو كفيل بحدّ ذاته بأن يساعد هؤلاء على السير في طريق العلاقة الناضجة التي هي مقياس للممارسة الجنسيّة المكتملة. والتربية هذه لا تقوم على قمع طاقة الحب في المراهقين، عبر قمع النزعة الجنسية فيهم، وعبر الممنوعات دائمة التجدّد، كما هو شائع في التربية التقليديّة، إنما تقوم على تنمية هذه الطاقة، لأنّ التنمية كفيلة بحدّ ذاتها بضبط الجنس وبتهذيبه أمام عشوائيّة الغريزة وأنانيّتها!

التعليقات