ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 11)/ د.مصطفى كبها

-

ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 11)/
د.مصطفى كبها
بعد معركة نور شمس الثانية، أصبح عبد الرحيم الحاج محمد المطلوب رقم واحد في المنطقة. وقد أعلن الإنجليز عن جائزة عشرة آلاف جنيه فلسطيني لمن يدلي عنه بمعلومات تقود لاعتقاله.

ولهذا ومن منطلق الحيطة والحذر عين عبد الرحيم ثلاثة أمكنة أقام فيها قيادات ميدانية تتكون من أشخاص يثق بهم. وكان لكل قيادة أشخاصها وآليات عملها ولم يعرف جميع أفرادها، بطبيعة الحال، بعضهم البعض. في حين كان عبد الرحيم وأخص مساعديه هم فقط الذين عرفوا أعضاء القيادات الثلاث جميعاً.

وقد يكون هذا هو التفسير المنطقي لادعاء أكثر من شاهد وراوي ممن قابلناهم أن المكان الذي عمل فيه كان المكان الأساسي لقيادة عبد الرحيم الحاج محمد. هكذا شعر أهل بلعا أو أكّد أهل كفر اللبد أو رامين. جميع هذه المناطق تشترك في كونها مناطق عالية مشرفة على الشارع العام ( طولكرم - نابلس ) وكان فيها رجال ثقات يمكن أن يزودوا الثوار بالمؤن والحراس وأماكن الاختباء. وقد كان القائد العام ينتقل من مكان إلى آخر من هذه الأماكن كي لا يستطيع عيون الانجليز والمخبرون معرفة روتين تحركاته والأماكن التي كان يحل فيها.

في بلعا كان يحل في بيت محمد الإبراهيم المصطفى وقد كان بيته في أقصى الجهة الشرقية من القرية يشرف من الغرب على منطقة طولكرم والشارع العام، ومن الشمال قرى الشعراوية الشمالية، ومن الشرق قرى مغاريب نابلس.

زرت البيت في صيف 1999 فوجدته مكوناً من طابقين وفوقهما عليّة، كان الطابق الأرضي الذي كان مربوطاً بقبو وسراديب سريّة بمثابة المخزن الأساسي للمؤن والذخيرة وقد كانت مسؤولة عنه بشكل مباشر أم رميح، زوجة محمد الإبراهيم، (اسمها الحقيقي سعاد أبوشريفة ).

يقول الأستاذ صبحي أبو دبسة من بلعا في مقابلة أجريناها معه في 1999.7.11، أن أم رميح سميت بهذا الإسم لأنها كانت تملك كفوفاً ضخمة ويدين طويلتين كالرماح، ونظراً لشجاعتها وجرأتها واستضافتها للثوار كانت تسمى أم رميح. كانت تحمل بندقية وتحرس القائد عبد الرحيم الحاج محمد، وعندما كان يحدث طوق ويأتي الإنجليز، كان الثوار يفرون، أما عبد الرحيم فلأنه كان ذا جثة ضخمة، فأنه كان يختبئ في قبو بيت أم رميح التي كانت تغطي فتحة القبو بالقش حتى يغادر الانجليز ويفكون الطوق.

في الطابق الثاني للبيت كانت تقيم عائلة محمد الإبراهيم وكانت هناك قاعة كبيرة استعملها عبد الرحيم الحاج محمد لمقابلة زواره والناس اصحاب المصالح والشكاوى، كما كانت تقام فيها جلسات محكمة الثورة العليا ومحكمة الاستئناف. في حين كانت العلية المكان الذي كان يأوي فيه القائد للنوم هو وحراسه الشخصيون. وعلى ذكر العلية فقد قابلنا ( أنا وزميلي الدكتور نمر سرحان في طولكرم في صيف 2000 ) إمراة قالت أنها غنّت للقائد عبد الرحيم الحاج محمد أهزوجة قالت فيها:

" هيه يا أبو كمال يا ذهبة عصمليّة
هيه يا دوم مطرحك دوم في العليّة
هيه تمنيت من الله يدوم عزّك
وتفتخر فيك الأهل والذريّة ".

كان صاحب البيت محمد الإبراهيم المصطفى وشخص آخر من بلعا يدعى عبد القادر محمود الحسين مسؤولين عن جميع الإجراءات المتعلقة بمحكمة الثورة في بلعا: كان يبلغان المتهمين أو الشهود، ويوصلان أصحاب الشكاوى للقائد العام وكانا أيضاً يهتمان يتنفيذ الأحكام.

في رامين كان عبد الرحيم الحاج محمد يلجأ إلى بيت مصطفى المحمد الراميني ويقيم في عليته، يستقبل هناك زواره ويبت في الخلافات بين الناس. كان معظم الحراس الشخصيين للقائد من رامين وكان يترأسهم يوسف خليل سنجق ( المشهور بيوسف دحدل )، قابلنا يوسف دحدل في بيته في رامين في 20/05/1999، فقال:" كنت رئيس حرس القائد العام هنا، في " رامين"، وكذلك في"سفاّرين" و"بيت ليد" و"شوفة" و"كفر قدوم" و"بلعا". كنا عشرة من الرجال وكان زيّنا يتألف من حطّة صفراء وعقال وبنطلون وقميص وكنا نلازم القائد العام أينما حل".

ثم حدثنا يوسف دحدل عن قصة سجن الانجليز للحراّس العشرة فقال:" مرة جاءنا خبر يقول إن القائد العام مطوّق في قرية صيدا (قضاء طولكرم) ومن اجل تخفيف الضغط عن صيدا أخذنا نطلق النار في منطقة الشايفات. في صيدا كان مع القائد العام كاتب (سكرتير، أمين سر) إسمه بشير الشامي من سوريا، سقط منه دفتر كانت فيه أسماؤنا، ووصف لبنادقنا وذخائرها وأرقامها. وقع الدفتر في يد الإنجليز الذين جاءوا إلى رامين.

عممنا على ثوار القرى المجاورة ضرورة وضع الحواجز لإعاقة وصولهم. واحدة من سيارات الجيش وقعت في الوادي ولكنهم وصلوا في النهاية بالليل، اعتقلونا وأخذونا إلى كلية خضوري في طولكرم حيث وضعنا في تخشيبة (بركس ). كان عدد المعتقلين قرابة مائتي رجل، أنا ضربوني في السّنجة ( سكين حادة في مقدمة البندقية، م. ك ) قرابة عشرين ضربة. فتشوا الدار وقاموا بالقاء الطحين على الأرض وصبوا فوقه الزيت والزيتون وعبثوا بالفراش.

وبعد أن وجدوا في الحاكورة بعض الفشك، طلب الجنود مني أن استلقي على الأرض وعندما رفضت أمسك بي أربعة جنود وفشلوا في طرحي أرضاً، عندها بدأوا جميعاً يضربونني في السنجة، فأخذ جسمي كله ينزف دماً. بعد أن دمروا معظم الممتلكات أخذونا مرة ثانية إلى طولكرم، مكثنا هناك بضعة أيام ثم نقلنا بعدها إلى سجن المزرعة قرب عكا ومكثنا فيه اثني عشر شهراً ".

في كفر اللبد كان عبد الرحيم الحاج محمد يحل في بيت المختار نايف اسماعيل غزالة وفي بعض الكهوف والخرب المحيطة بالقرية مثل "خربة خميش" و"خربة الشعب".

حدثني عطية نايف غزالة (في مقابلة أجريتها معه في 1999. 3.14 ) عن مجيء القائد إلى بيتهم أيام الثورة فقال:" كان مركز عبد الرحيم في بيتنا، وكان هنا يلتقي مع أبناء عائلته ليطمئن عليهم. كان ابنه كمال يحضر ليأخذ المصروف فكان أبوه يعطيه راتبه الشخصي، وعندما كان كمال يطالبه بالمزيد كان يقول بانه لا يستطيع أن يعطيه أكثر من راتبه لأن هذه أموال الأمة ".

ثم حدثني الراوي عن قصة انضمامه لفصيل عبد الرحيم فقال:" كنت عضواً في فصيل عبد الرحيم الحاج محمد، وقد أعطاني بدلة عسكرية وبوت (حذاء عسكري ) أحمر من الكاوتشوك. تدربت عند خبراء من مسلمي البوسنة على تحضير المتفجرات وقد كان هؤلاء قد حضروا بناءاً على طلب من عبد الرحيم لمساعدة وتدريب الثوار".

ثم يذكر الراوي أحاديث كثيرة حول مركزية قريته في هذه الفترة فيما يتعلق بوضع الأسس للثورة المسلحة التي أثارها عبد الرحيم الحاج محمد في المنطقة، بشكل جعل فوزي القاوقجي، حين قدومه على رأس اربعة فيالق من المتطوعين العرب، يختارها مركزاً لبدء عملياته العسكرية ضد البريطانيين. وعن ذلك سنفصل في الحلقة القادمة......

التعليقات