شعبنا المبدع: د. نبيل حنا - آفاق بلا حدود في الغربة وحنين أبداً الى مسقط الرأس

إنك لا تتحدّث عن زيت وزيتون فلسطين بدون ذكر الرامة التي يتباسق زيتونها الى الأعالي وتتجذّر جذوره في تراب الأرض الأحمر.. ولن يصحّ، إذا ابتغيت الحقيقة، أن تتكلّم عن المعرفة والعلم الفلسطينيين بدون أن تفسح مكانا لائقا في الصدر لأبناء الرامة

شعبنا المبدع: د. نبيل حنا - آفاق بلا حدود في الغربة وحنين أبداً الى مسقط الرأس

إنك لا تتحدّث عن زيت وزيتون فلسطين بدون ذكر الرامة التي يتباسق زيتونها الى الأعالي وتتجذّر جذوره في تراب الأرض الأحمر.. ولن يصحّ، إذا ابتغيت الحقيقة، أن تتكلّم عن المعرفة والعلم الفلسطينيين بدون أن تفسح مكانا لائقا في الصدر لأبناء الرامة الذين ينتشرون في جميع أرجاء العالم ينشرون العلم والمعرفة ويبحثون عن وفي المزيد.. بل يتوجّب على أي باحث في مسيرة العلم الفلسطينية أن يتوقّف عند مدرسة الرامة الثانويّة التي شكّلت على مدى عقود من الزمن دفيئة لطالبي المعرفة ممن تبقّوا في الوطن من قرى ومدن الجليل وحتى المثلث.. كذلك من اللازم أن تذكر وتذكّر بمعلّميها الذين جهروا بالصوت الوطني في زمن «المشي الحيط الحيط» طلبا لـ «السترة».. فقد نذكر أعلامها من المدرّسين الذين «شطحوا» عن المنهاج التعليمي ليقولوا لطلابهم شيئا عن الوطن وعن الرواية الفلسطينية وحكاية النكبة والتهجير ونهب الأرض، وعن اللغة التي يرسمون لتغييبها، وعن الهويّة التي يخطّطون لتشويهها..

يعيش منذ ثلاثة عقود ونيّف في الولايات المتحدة الأمريكية.. لكنه ولد في الوطن العام 1943 ونهل تعليمه الثانوي في مدرسة الرامة الثانوية.. والتحق بعد ذلك في الجامعة العبرية في القدس ليدرس موضوع البيولوجيا وليحصل على لقب ال bhd منها في العام 1970عندما لم يكن هنالك عربي واحد يعرف ما تعني البيولوجيا.. بعدها سافر الى أمريكا ليستكمل في الموضوع ذاته في جامعة بوسطن وليحقق الدكتوراة تحت اشراف بروفيسور ليسكوفيتش المعروف الذي ساعده كثيرا في تحقيق تطلعاته المستقبلية التي تبلورت لديه منذ ذلك الوقت والمتعلقة بعلم الحصانة أو المناعة..

بقي هناك عامين كاملين، ثم عاد الى الوطن ليعمل في الجامعة العبرية محاضرا لمدة أربع سنوات.. لكنّ معهدا أمريكيا طلب اليه أن يشتغل على بحث علمي كان بدأ العمل عليه هنا، وكان الحديث عن سنة واحدة يعود بعدها الى مزاولة عمله في الجامعة العبرية..

لكنّهم في أمريكا، وخلال العام المذكور، توجّهوا الى ابن الرامة المحاضر الباحث الشاب نبيل حنا وعرضوا عليه أن يترأس قسم علم المناعة وأن يطوّر أبحاثه في هذا المجال..
لم يكن القرار سهلا لدى الدكتور الشاب، ولذا فقد كانت هنالك حاجة لأن يفكّر مليّا في هذا العرض المغري ولكن الذي سيبعده بالتالي عن الوطن.. فعاد الى البلاد حاملا معه همّا فيه إغراء كبير..

يقول الباحث نبيل حنا في هذا الصدد إنه "من غير شك أن العرض كان مغريا جدا من حيث الموقع ومن حيث الامكانيات الهائلة التي وضعوها تحت تصرفي، مالاً وتقنيات وطاقات جبّارة، فقد كان مغريا أن تجد من يساعدك على تحقيق تطلعاتك ويوفر لك جميع الامكانيات والظروف لجعل بحثك مجديا وأفكارك قابلة لفحصها على أرض الواقع..

"كان رأسي مشوّشا بين حبي للوطن وتعلقي بالأصدقاء والأهل والمكان، وبين مستقبلي وإمكانية تحقيق تطلّعاتي التي لم يكن ممكنا تحقيقها هنا.. وقد غلب لدي في النهاية أمر المستقبل وتحقيق الطموحات فقرّرت أن أقبل العرض وأن ألتحق بمعهد الابحاث هذا وفي قسم علم المناعة وأبحاث السرطان الذي شدّني دائما.. وهكذا فقد قرّ رأيي على طلب عطلة من الجامعة العبرية لمدة عام واحد وهذا ما حصل"..
كنا نستمع اليه يروي حكاية اغترابه وقدومه الى أمريكا على رغم كل الحب الذي يبديه للوطن الكبير وللرامة بالذات.. ولقد أثار هذا العشق "الوطني" لدينا فضولا لاستكشاف أمر قبوله بالاغتراب كل هذه السنين التي امتدت على مدى ثلاثة عقود ونيّف من الاقامة في الولايات المتحدة..


*كيف جرى ان العام الذي قبلتم فيه أن تبتعدوا عن الوطن امتد الى اكثر من ثلاثة عقود؟


***د. نبيل حنا: لقد وفّروا لي شروطا وامكانيات لم أكن أحلم بها ولن أجدها بالتأكيد هنا أو في أي مكان آخر.. فوجدت نفسي أؤجّل عودتي سنة بعد أخرى.. وبعد ثلاثة أو أربعة أعوام عرضوا علي المشاركة في شركة لإنتاج الأدوية ما شكّل لدي نقطة تحوّل من الأبحاث الأكاديمية البحتة الى الإنتاج التجاري، خاصة ان الشركة بدأت بتطوير موضوع علم المناعة الذي هو اختصاصي، مثل أمراض الإلتهابات المختلفة، فبقيت هناك لمدة تسعة أعوام"..

كأن الإنسان يتصالح بعد مدة مع المكان الجديد، وكأنه يتعوّد عليه فيقبل به على رغم تعلّقه بعشق آخر في مكان آخر.. فبعد السنوات التسع في الوظيفة الجديدة والشركة التجارية المنتجة للأدوية، جاءه عرض من شركة أخرى صغيرة تعمل في مجال البيوتكنولوجيا، وتعمل ايضا في مجال علم المناعة وإنتاج الأدوية..

يقول الباحث حنا: توجّهوا الي بعرض مغر لأنهم يدركون مدى إلمامي بموضوع علم المناعة ويقدّرون لي أبحاثي في هذا المجال، خاصة أن الأبحاث نحت الى جهة التركيز على الجانب البيولوجي كدواء وليس المواد الكيماوية.. وتركّزت على الأجسام المضادّة.. فـ "انتقلت حينها الى سانتييجو وترأست الأبحاث حتى بلوغها دواء الى الانسان، أي اكتشاف الدواء وتطويره الى أن يصل جرعة أو حقنة أو كبسولة الى الانسان"..

هكذا اضطلع الباحث حنا بمسؤولية اكتشاف الدواء وتطويره الى أن يصل الى غايته - الإنسان.. فقد كان نائبا لرئيس قسم الأبحاث والتطوير، وبلغ صيته الى كل أرجاء المعمورة، وكان حاضرا في جميع المؤتمرات المتعلقة بموضوع علم المناعة، وله في ذلك أبحاث تعدّت العشرين بحثا تعتمدها الأكاديمية والجامعات المختلفة..


*ماذا أسهمت لتطوير العلم وتخفيف معاناة البشر؟ سألنا..

***د. نبيل حنا: "لقد شاركت وساهمت في الواقع بتغيير مجرى الشركة "الصغيرة" وقد تمت الموافقة على ذلك من قبل الولايات المتحدة والسلطات في اوروبا واسرائيل وفي كل أنحاء العالم، والحديث هو عن جسم مضاد وفعّال جدا في مرض السرطان الليمفاوي وعلى المريض اليوم أن يتناول هذا الدواء مع أدوية أخرى.. ولقد أثبتت الأبحاث الأخيرة أن هذا العقار فعال في أمراض أخرى مثل التهاب المفاصل وهو مرض ليس سرطانيا ولكن هنالك خلايا اساسية ليمفاوية تتحوّل في أحيان الى خلايا سرطانية وتتسبّب من ناحية أخرى في إنتاج أجسام مضادة تهاجم المفاصل، ومن هنا العلاقة.. فهمنّا كباحثين هو إما معالجة المريض من الأمراض المزمنة المختلفة حتى شفائه إذا أمكن، أو منع تدهور حالته الصحيّة والإبقاء على وضع لا يشعر فيه بأوجاع المرض ليعيش عيشة معقولة بلا آلام"..

وهكذا، من عرض مغر الى عرض أكثر إغراء.. ولأن همّه انحصر في كيفية مساعدته للبشرية، بقي الدكتور نبيل حنا في الولايات المتحدة حيث الإمكانيات الهائلة التي يستطيع بها مزيدا من الإفادة.. وهكذا بقي حنا في الغربة، يحن الى الرامة وصفد، مسقط رأسه، والى الناصرة حيث الأصدقاء الكثر الذين يحرص على التواصل معهم وعلى الاجتماع بهم في زياراته الكثيرة الى البلاد.. بل إنه يتذكّر جميع طلاب صفّه من الثانوية وتصل سعادته القمة إذا ما التقى أحدهم..


*ونسأل حنا، أنه بعد أكثر من ثلاثين عاما على غربتك.. كيف تعرّف نفسك؟..

***يقول الباحث الكبير في علم المناعة: "إنني عربي بالطبع وأنا أفتخر بذلك وأحن الى الوطن والى الرامة والناصرة وصفد مسقط الرأس والى مراتع الطفولة.. لكن الأهم بالنسبة لي أنني باحث تبلغ راحتي ذروتها إذ أفيد الإنسانية جمعاء بأمر ما أو دواء ما أتوصّل اليه وأقدّمه ليخفّف من معاناة البشر أي بشر خاصة في أبحاث مرض السرطان.. فلا فرق في الأبحاث أو لدى الباحث بين القوميات والأديان ولون البشر..

برغم ذلك، فقد تظل في القلب زاوية دافئة للرامة حيث ترعرعت، وللقدس حيث أن لي أصدقاء كثيرين هناك.. ولقد حافظت على الرابطة الوثيقة بالأهل والأصدقاء وأحرص من ناحيتي على دوام الاتصال والمودّة معهم..
تجيء زيارة الباحث حنا الى البلاد هذه المرّة لغرض فحص إمكانية تعاونه مع مركز الابحاث التابع لجمعية الجليل في شفاعمرو، ومشاركته في تطوير أبحاث المركز وإغنائها بتجربته العظيمة في هذا المجال.. ولهذا الغرض، فقد نظّمت الجمعية يوما دراسيا شارك فيه الدكتور حنا في محاضرة عن "اكتشاف وتطوير دواء الريتوكسان لعلاج سرطان الليمفوسيتات والتحديات المستقبلية امام تطوير العلاجات البيولوجية" استمع اليها جمع من الباحثين والمهتمين.. واطلع حنا على أقسام وأبحاث المركز وأبدى تقديره لما راى مقدّما نصائحه ورؤيته الى إمكانية تطوير المركز وتطوير أبحاثه..

وحول سؤال عن انطباعه عن عمل الجمعية والمركز وعن إمكانية التعاون أو مشاركته في الأبحاث، قال حنا:
"إن انطباعاتي فيما يتعلق بالطاقم أن هناك بذرة لباحثين مؤهّلين جدا لتطوير أبحاث ممتازة، لكن من الواضح أن هنالك نقصا في التمويل حيث أن الابحاث تتطلب تمويلا هائلا كي تستطيع أن تجاري أبحاثا أخرى لجهات ومعاهد أكبر وأعرق.. بالنسبة لي فأنا على استعداد لتقديم أي مساعدة ممكنة، فالجولة هذه جاءت للتعرف على الإطار العام للعمل وما يلزمه..

فبعد سنوات طويلة في الأكاديميا والأبحاث استطيع بلا شك أن أزوّد المركز والباحثين فيه بآراء وأفكار تفيدهم في أبحاثهم وتوجّههم الى المفيد، وفي إقامة علاقات مع معاهد وشركات في الخارج وأكاديميات تساعدهم ليس فقط في الناحية التمويلية وإنما في المشاركة العلمية ايضا.. هنا أرى مساهمتي العلمية والاستراتيجية في دعم مشاريع وابحاث المركز"..

لقد سجّل الباحث إبن الرامة نبيل حنا أكثر من عشرين براءة اختراع، مع زملاء له في مواضيع علم المناعة.. ويشهد على نفسه أنه يؤمن بالعلوم، ويؤمن أن لكل معضلة حلا علميا يجب المثابرة في البحث للتوصّل اليه وذلك بتوفير الظروف والموارد وتكثيف مجموعات العلماء والباحثين لتبادل الخبرات والأفكار..


كانت درب العالم الباحث نبيل معبّدة وسهلة نسبيا إذ كانوا في أمريكا بحاجة له ولمقدراته، لكن المغترب إليها يعاني عامّة من صعوبات في التأقلم وإيجاد العمل والتواصل مع الناس وغيرها.

* ما الصعوبات التي تواجه المغترب، الفلسطيني تحديدا؟؟

***د.نبيل حنا: إن الإستيعاب في أي بلد غريب يكون صعبا بالضرورة.. لكن تهون هذه الصعوبات اذا ما كان الانسان مستفادا منه على أي مستوى وإذا ما فرض احترامه واحترام امكانياته على ذوي العلاقة.. لقد واجهت صعوبات كثيرة، كفلسطيني وكباحث، وحققت نجاحات كما ذقت طعم الفشل..

حاليا وبشكل عام، فإن الفلسطيني والعربي بعد الحادي عشر من سبتمبر يتعرّض الى ردود فعل سلبية حيث تردّت العلاقة مع المواطن الأمريكي الذي أضحى يتخوّف من العرب بعد هذا اليوم المشؤوم في تاريخ الأمريكان"..

كان من الصعب "سحب" العالم الباحث نبيل حنا عن التفكير بالمختبرات والبيولوجيا والأكاديميا وشركات الأدوية الى جهة أخرى، لكننا إذ حدسنا أنه لا يخرج من الرامة غير ذوّاقة للشعر والأدب وغذاء الروح، سألنا حنا إذا ما كانت لديه "زوّادة" أخرى غير البحث والعلم يطرّي بها قيلولة أو ساعة استرخاء وراحة، أجاب: "حتى العام الفائت عندما خرجت الى التقاعد، علما أن العالم لا يتقاعد إذ يبقى عليه أن يتابع المجلات العلمية وما توصّلت اليه الأبحاث المختلفة، لم أفلح في إيجاد الوقت الكافي لتلبية شغفي بالأدب.. ولكن منذ التقاعد أصبح بإمكاني أن أجد وقتا لقراءة المتنبي ونزار قباني والأدب الرفيع من العصر العباسي والجاهلي والأموي.. وأقرأ لمحمود درويش، ولغيره من الشعراء المعاصرين الكبار، فأنا أميل الى الشعر أكثر.. وأقرأ في الفلسفة وأعتبرها هي الأخرى غذاء روحيا افتقدته لسنوات طويلة"..

تقع الرامة في قلب الدكتور الباحث حنا، وهو يعتبرها المعشوقة الأولى والوطن الصغير الذي يدأب على العودة اليه و"شمشمته" في كل متاحة.. وهو يذكرها ايام كان طفلا يرتع وأترابه في حواريها.. ولقد تغيّرت الرامة وبدّلت الايام حالها.. وما بين الأمس واليوم، يرى العاشق حنا اليها، على رغم انها ليست مسقط الرأس فقد ولد في صفد، جميلة خلاباً طقسها وموقعها وهي البلد الذي يجد فيه أصدقاء ومعارف وأهلا..

ويعترف حنا أن للبلدة الجليلية موقعا عظيما في نفسه، وهو يشعر بانتماء مهول اليها وبفخر عظيم أنه أحد أبنائها البررة.. ما يبعث على الأسف لدى حنا هو أن الغول الطائفي اشرأب عنقه في الرامة كما في كل بلداتنا المختلطة، لكأن الإنتماء تحوّل من انتماء الى البلدة الى انتماء الى الطائفة وهذا لم يكن واردا في المواضي..

عاد، أو غادر الباحث العلامة نبيل حنا الى حيث يقيم ويبحث ويستزيد في الولايات المتحدة الأمريكية على رغم أنه بدأ في الآونة الأخيرة يكثر من زياراته الى الوطن.. لقد عاد الى حيث زوجته الفاضلة، غيداء الحلبيّة - من مدينة حلب السورية - التي كانت نزحت الى أمريكا في العام 1964، فتعارفا وتزوّجا قبل نحو عشرين عاما، برغم ما عرف عنه من عداوة لمشروع الزواج، فقد ألحّ عليه الأهل والأصدقاء الى أن نجحوا بـ "الإيقاع" به..

 

التعليقات