عكــــــــا ويـافــــــــــا: حكاية تهويد

-

عكــــــــا ويـافــــــــــا: 
حكاية تهويد
لا تزال المدن الساحلية، المسماة «مختلطة»، تشكل عنوانًا لمشاريع التهويد، أو ما يمكن وصفة بـ «إعادة الاحتلال من قبل مستوطنين يهود». هذه الظاهرة ليست جديدة، لكن حدّتها ازدادت في السنوات الاخيرة على اثر تفكيك الاستيطان الإسرائيلي في غزة وتنامي نشاط جمعيات استيطانية في المدن المختلطة مثل عكا ويافا. وعلى الرغم من أوجه الاختلاف بين الحالتين، الا أن أوجه الشبه في الاهداف والادوات بينهما عديدة.

ثمّة عدد من المتغيرات التي أثرَّت على معادلة الوجود والبقاء العربي في عكا ويافا. فبعد تهجير وطرد معظم سكانهما في العام 1948، نجح قسم صغير من السكان الفلسطينيين الأصليين في البقاء، ثم تنامت، في العقود الاخيرة، ظاهرة انتقال أزواج عربية شابة الى هاتين المدينتين، وخاصة عكا. ويمكن تفسير هذه الظاهرة بعدة عوامل، منها:

تقع عكا، شمال غرب البلاد، قريبًا من التجمعات السكانية العربية في الجليل التي تعاني شحَّ الأراضي ومناطق البناء ومن ظروف اقتصادية صعبة. حوّل هذا الواقع الصعب مدينة عكا، الى ملاذٍ لهجرة أزواج عربية شابة تبحث عن العيش في أجواءٍ أقرب ما تكون الى أجواء المدينة في منطقة قريبة جغرافيًا من قرى النشأة حيث العائلة والأهل، فيمكِّن ذلك من المحافظة على الخصوصية الشخصية والابتعاد عن اجواء البلدات العربية ومشاكلها الاجتماعية والاقتصادية، من ناحية، كما يمكّن من الحفاظ على العلاقة الوطيدة مع الأهل ومسقط الرأس، من ناحية أخرى.

منحت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ سنوات عديدة، إعفاءات ضريبية لسكان عكا، مما حفّز مواطنين عربًا على الانتقال اليها للاستفادة من التسهيلات الضريبية.

أمّا مدينة يافا، فميزتها الأساس أنَّها تقع في المركز الاقتصادي والصناعي والخدماتي في إسرائيل. لهذا السبب، ونظرًا الى اضطرار عددٍ لا بأس به من السكان العرب الى البحث عن اماكن عمل والاستقرار في منطقة المركز، يتجه عدد منهم للاستقرار في مدينة يافا، كونها المكان الأقرب إلى البيئة الطبيعية للعربي في منطقة المركز الإسرائيلي، ففيها مدارس عربية، وأطر ثقافية عربية وتجاور مدينتي اللد والرملة حيث ما زالت تعيش أقلية سكانية عربية لا بأس بها.

في المقابل، لم تشهد تلك المدن، تقريبًا، حالة هجرة عربية إضافية بعد التهجير القسري العنيف الذي قامت به اسرائيل في العام 1948. ولهذا، لم ينجح المخطط الصهيوني بـ «تنظيف» تلك المدن من السكان الأصليين. وفي حالة عكا ويافا، كان السكان اليهود الذين استوطنوا فيهما من الطبقات والشرائح اليهودية الضعيفة، بالاخص من اليهود الشرقيين، الأمر الذي لم يحوِّل تلك المدن الى مكان سكن يجذب الطبقات الوسطى والشرائح المقتدرة في المجتمع الاسرائيلي. لهذا نشأت الحاجة الإسرائيليّة الملحة الى التفكير في إنتاج انواع جديدة من الاستيطان تغري شرائح سكانية يهودية للانتقال الى تلك المدن بغية إكمال عملية التهويد، التي بدأت في العام 1948، بل وقبل ذلك.
لم تنجح المشاريع الاسرائيلية الهادفة الى تهويد الجليل بشكل عام، وعكا بشكل خاص، بالشكل المرغوب إسرائيليًا. فمنذ النكبة سعت المؤسسة الصهيونية إلى قلب المعادلات الديمغرافية في الجليل ورسمت لذلك خططًا، أبرزها مشاريع التهويد في سيتينيات وسبيعنيات القرن الماضي، وحملات مصادرة مساحات شاسعة من الاراضي العربية وبناء مستوطنات صغيرة (مناطر) على قمم الهضاب والتلال في الجليل، ومشاريع إقامة مدن جديدة في الشمال.

على الرغم من شراسة هذا المخططات التهويدية، بلغ عدد السكان العرب في لواء الشمال، في بداية سنوات الألفين، وفقًا لمعطيات دائرة الاحصاء الإسرائيلية، 636 الف نسمة مقابل 568 من السكان اليهود، أي أنَّ السكان العرب ما زالو يشكلون قرابة 53% من لواء الشمال.

أمّا في مدينة عكا فقد بلغ عدد السكان العرب قرابة 15 الف نسمة من مجموع 50 الف نسمة يعيشون فيها. ليس هذا فقط، بل إن هناك قلقًا اسرائيليًا، حسب المفاهيم الصهيونية، من وضع الهجرة اليهودية السلبية من الجليل والشمال بسبب الاوضاع الاقتصادية السيئة هناك مقارنة بمناطق المركز الاسرائيلي.

وتشير معطيات دائرة الاحصاء المركزية إلى استمرار ميزان هجرة سلبي من لواء الشمال، وأن عدد السكان الذين تركوا مدينة عكا في العام 2007 بلغ قرابة 1500 نسمة، مقابل هجرة وافدة بلغت 1000 نسمة فقط. وتتشكل معظم الهجرة من مدينة عكا من السكان اليهود (هذا في حين لا نملك معطيات رسمية عن هوية الوافدين الى المدينة).

هذا الوضع دفع الى التفكير في أساليب لزيادة أعداد اليهود المنتقلين الى عكا وانتاج نوع جديد من الاستيطان او إحياء انواع استيطان قديمة لتعزيز كفة الميزان الديمغرافي في الجليل عامة، ومدينة عكا خاصة، لصالح اليهود.

من هنا كانت الطريق الى تبنّي الاستيطان الديني والاستعانة بالحركات اليهودية اليمينة المتطرفة، قصيرة. ترى تلك المجموعات في العقيدة الدينية ومفاهيم الخلاص المسيحانية وعلاقتها بالأرض وتحريرها من الأغيار أساسًا للاستيطان، ولا تميل الى استعمال الاغراءات المالية والاقتصادية لتعزيز الاستيطان اليهودي. وفي تقرير للجنة الشعبية (العربية) في عكا، التي أقيمت في أعقاب الاعتداءات على السكان العرب في المدينة في الصيف الماضي، صدر في أيار 2008، جاء ان بذور الاستيطان الديني المتطرف الحديث يعود الى العام 1997، حيث أقيمت «نواة أومتس (جرأة- بالعربية)» من قبل مجموعة مستوطنين من خريجي «يشيفات هيسدير» من مدينة الخليل.

على إثر ذلك استوطنت مجموعة مؤلفة من عائلات شابة في مدينة عكا بغية «تهويد المدينة». بعدها بدأ عدد متزايد من المستوطنين الشباب بالانتقال إلى عكا ليشكلوا نواة دينية- قومية تقود عملية السيطرة على الاحياء العربية.

وبعد اعادة الانتشار الإسرائيلي على حدود غزة قبل 4 سنوات، وتفكيك المستوطنات هناك انتقل جزء من المستوطنين اليهود في قطاع غزة الى مدينة عكا حيث الارضية الخصبة المهيئة لاستقبالهم.

من جهة اخرى، تعمل الحكومة الإسرائيلية بواسطة بلدية عكا وشركات حكومية بالتضييق على المواطنين العرب ومحاولة السيطرة على منازلهم، خاصة في احياء البلدة القديمة في عكا. ومن المعروف ان السكان العرب في البلدة القديمة هم من الشرائح الضعيفة والفقيرة، يعيش معظمهم في منازل معرفة وفقا للقانون الإسرائيلي على أنها «أموال متروكة» تعود ملكيتها لشركة «عميدار».

في السنوات الأخيرة تسعى هذه الشركة بوسائل «قانونية» وأخرى تعتمد التحايل والغش إلى إخراج السكان العرب من منازلهم وبيعها ليهود، من بينها: منع السكان العرب من ترميم منازلهم القديمة المتآكلة، والمهددة «بالانهيار»، وتعلن عن مناقصات لبيع المنازل وعقارات اخرى.

وعادة يتقدم لشراء تلك المنازل والعقارات سكان يهود او اصحاب رؤوس أموال يهود من إسرائيل وخارجها، يعرضون مبالغ طائلة لشراء تلك العقارات. وفي بعض الحالات تقف جمعيات صهيونية وراء عمليات الشراء، حتى لو دفعت مبالغ أعلى من القيمة الإقتصادية الحقيقة للعقار، بهدف منع السكان العرب من فرصة امتلاكه.
أما في مدينة يافا، فبالاضافة إلى أنماط الاستيطان الديني واليميني الايديولوجي المعمول به، تلجأ المؤسسة الإسرائيلية الى نوع جديد من آليات طرد السكان العرب والسيطرة على أملاكهم، وهو الاستعانة بجهات من السوق الخاص، وعلى وجه التحديد من قطاع البناء والاسكان، لتسيطر على المنازل والأراضي العربية بواسطة إغراءات مالية، من جهة، وبواسطة التضييقات الرسمية من جهة أخرى.

ابتكار هذا النوع من آليات التهجير جاء ليتماشى مع بيئة وخصوصية مدينة يافا الواقعة في المركز الإسرائيلي وتعتبر جزءًا من مدينة تل ابيب. فعلى عكس الوضع في مدينة عكا التي لا تشكل منطقة جذب لرأس المال الخاص للاستثمار وجني الارباح الخيالية، تعد يافا من المناطق المغرية جدًا لروؤس الأموال، خاصة في مجال جذب يهود من خارج إسرائيل لشراء منازل وعقارات في قلب الدولة.

في هذا الصدد نشر موقع «يافا» الالكتروني تقريرًا جاء فيه: «تجري مؤخرًا في مدينة يافا عملية يكتنفها كثير من الصمت والهدوء، تنقلب معالم المدينة ويتحول أشهر أحيائها العجمي إلى «جنة الأغنياء الجديدة» (والقصد الاغنياء اليهود)، يهرب الأغنياء من أماكن أخرى من خارج يافا ومن خارج البلاد ولا يجدون مكانًا إلا مدينة يافا، وتحديدًا حي العجمي.»

«اما بلدية تل-أبيب يافا، والتي توفر التسهيلات التخطيطية والبنى التحتية لهذه العملية تدعي أنّها تعمل على تطوير المدينة لصالح كافة سكانها. لكن السكان العرب في يافا يعتقدون أنَّ الاهداف مغايرة تمامًا. ففي يافا يتخذ التطوير معنى آخر بالنسبة للسكان العرب، يصل إلى حد الطرد والتشريد، في عملية تهويد «هادئة» وبطيئة، في عملية زحف على معالم المدينة، تهدم البيوت التي يمنع أهلها العرب من ترميمها، وتدفع مبالغ خيالية لا تصدق أحيانا، تصل إلى نصف مليون دولار لبيت متواضع للغاية، أما الشرط فهو بسيط للغاية، «اقبض واترك».

ويضيف الموقع، «السكان العرب في حي العجمي وفي الأماكن الذي تخطط بلدية تل أبيب وشركة تطوير يافا أن تحولها إلى امكان سياحية جذابة، في هذه الأمكنة السكان العرب تركوا لوحدهم. في حالة يافا التي تباد معالمها العربية وعلى رأسها السكان تتوفر كل الشروط لاستكمال مخطط التهويد.

السكان العرب يواجهون عملية منهجية للتهجير والطرد، ويمنعون من ترميم منازلهم، تحاصرهم وتطاردهم البلدية، ولا تمنحهم رخص البناء. وفوق كل هذا تعرض عليهم إغراءات مالية تصل إلى حد الخيال لترك منازلهم لإقامة مجمعات سكنية للاغنياء، الاغنياء اليهود فقط.»
يسكن مدينة يافة قرابة 17 ألف عربي، يشكلون ثلث سكان يافا. لكن الديموغرافيا في المدينة تتغير بسرعة، فهناك على الأقل 32 مشروعًا فاخرًا تتواجد في مراحل بناء مختلفة، وتتركز معظمها في الأحياء العربية في المدينة. وبحسب التقديرات فإن عدد السكان اليهود سيتضاعف في العقد القريب.

على العكس من مشاريع مشابهة أخرى في باقي أنحاء البلاد لا تُمنح لعرب يافا إمكانية الحصول على بيت في العمارات الفخمة المقامة على ركام منازلهم أو مقابل قطعة الأرض إذ يشترط عليهم المشترون شرطا واضحًا وغير قابل للتأويل: أن يأخذوا المبلغ ويتركوا المكان، وذلك بحجة تخوف المبادرين من إبتعاد الأغنياء، من الألفية الأولى على سلّم الثراء الإسرائيلي، من السكن في الأبراج الفاخرة في حالة سكن عرب فيها.

التعليقات