وما يستوي الأعمى والبصير .. ولا الظل والحرور../ حسين أبو حسين

-

وما يستوي الأعمى والبصير .. ولا الظل والحرور../ حسين أبو حسين
صدر منتصف الأسبوع المنصرم قرار المحكمة العليا في قضية الاستئناف المقدم من قبل أهالي أم الفحم على قرار محكمة الناصرة المركزية، الذي صادق في حينه في إطار قضايا التسوية على مصادرة 200 دونم تمَّ استملاكها في حوض 20420 لمصلحة الاستيطان عام 1953.

تعود جينات القضية إلى عام 1953، حيث تمت مصادرة أراضي هذا الحوض وباقي أراضي اللجون وأراضي مئات القرى العربية بموجب قانون استملاك الأراضي، والتي لم تكن في حينه قد صودرت ملكيتها بموجب قانون أملاك الغائبين.

تمت هندسة بنود القانون وفقاً لرغبة الحكومة ومؤسسات الاستيطان الصهيوني لابتلاع ما تبقى من أملاك الفلسطينيين في البلاد.

لقد استعرت كلمة „هندسة” من قاموس المهندسين والمعماريين، لكونها التعبير الأكثر ملاءمة لتوصيف حال استلاب الأراضي وسرقتها وفقاً للقانون. عندما ننوي إقامة مبنى، يشير علينا المهندسون بكمية الحديد والطوب والإسمنت والمواد الأساسية المطلوبة ولمراحل تنفيذ العمل، وغالباً إذا تقيدنا بإرشاداتهم، يتم إنجاز العمل وفقاً للخرائط المعدة سلفاً.

يوم سقطت اللجون بأيدي لواء "جولاني"، أسبوعين بعد الإعلان عن إقامة الدولة، أي في 30.05.1948، بعد قتالٍ دام أكثر من أسبوعين، سقط خلاله 12 شهيداً من أبناء القرية وَجُرِحَ آخرون. وعلى الفور قامت القوات الغازية بطرد أهالي القرية ثم نسفت منازلها، ولم يسمح للأهالي بالعودة إلى بيوتهم ومزارعهم، ومن ثم تم نقل حق التصرف في كافة أراضي اللجون لما يسمى "دائرة الإنشاء والتعمير" .

بعد ذلك أنشأت إسرائيل مستعمرة „يوسف كبلان”، التي سميت لاحقاً كيبوتس „مجيدو” على بعد نصف كيلومتر تقريباً شمالي شرق موقع القرية، ووضعت تحت تصرف المستعمرة أراضي رحبة من ضمنها الحوض المذكور.

يوم 17.11.1953 أصدر وزير المالية، ليفي اشكول، مرسوماً يقضي بمصادرة الأراضي، بموجب صلاحيته المعطاة له في القانون المذكور بعد توفر ثلاثة شروط:

إنَّ الأرض لم تكن تحت تصرف أصحابها يوم 1 نيسان 1952، وأنها خُصِّصَت لغايات الاستيطان في الفترة الواقعة ما ين 14 أيار 1948 و- 1 نيسان 1952، وأنها ما زالت مطلوبة للغايات المذكورة.

نعم، ها نحن نرى كيف شرَّع مهندسو القانون الصهيوني قانون استملاك الأرض، بحيث يتلاءم مع الواقع الذي سعوا إليه من خلال عمليات الطرد والإبعاد وبين رغبتهم في شرعنة سرقتهم.

لم يكن قانون أملاك الغائبين، الذي بدأ سريانه يوم 20.03.1950، بعد إلغاء أنظمة الطوارئ المؤقته وأربعة قوانين أخرى، تجيب على متطلبات مهندسي القانون الجدد لإضفاء الشرعية على كافة أنواع السرقة، فأتوا بقانون الاستملاك لعام 53، وطبعاً لم تكن في ذلك العام الأرض تحت تصرف مالكيها، لأنهم رُحِّلوا عنها عنوةً، ومُنعوا من الخروج من قراهم دون إذن من الحاكم العسكري، الذي استند إلى قانون آخر يخوِّله فرض منع التجول على سكان المناطق التي يرتأيها لغايات الأمن وتيسير السرقة المستقبلية.

نعم، هذا كان حال أهالي اللجون والروحة وكفر برعم وإقرث ومعلول ومجدل عسقلان وزهاء 250 قرية عربية أخرى، تم مصادرة ممتلكاتها بموجب مرسوم نشر يوم 29.10.1953، حيث أُبعد أهاليها عن أرضهم، بفعل قوة السلاح، يأتي القانون لاحقاً ويعتبر عدم تصرفهم في الأرض عشية تشريعه سببًا موجبًا لاستلابها.

يتساءل الأهالي ما سر بروز هذا الحوض، وما الذي يميِّزه عن عشرات الآف الدونمات التي صودرت من أراضي اللجون، وتم لاحقاً تسويتها ونقلها لملكية أراضي إسرائيل، ولماذا تبحث هذه القضية 60 عاماً بعد تهجير اللجون.

كل ما في الأمر، أنَّ الدولة نسيت تحويل ملف هذا الحوض للتسوية، وبقي طي النسيان إلى أن فَزَّت الدولة مذعورة من نومها في سنوات الثمانين وطلبت من الأهالي تقديم الدعاوي لتسوية „الحقوق المتنازعة”، ومن ثم نقل الملف للمحكمة للبت في الأمر. أمرٌ جديدٌ آخر.

ان إسرائيل أصبحت „ولحسن حظنا” دستورية بعد العام 92، بفعل قانونين، تم تشريعهما مطلع تسعينيات القرن الماضي، ويكفل أحدهما حق الملكية ويعتبرها حقاً دستورياً. تقدم محامو أهالي أم الفحم بإدعاءات دستورية أمام المحكمة، واستندوا في ذلك إلى سوابق قضائية، صدرت بخصوص حقوق مواطنين يهود، تقضي بإلغاء مصادرة أرض مرَّ عليها الزمن، ولم تستغل لغايات المصادرة الأصلية.

دون وجل وخجل، ردَّت المحكمة العليا إدعاء أهالي أم الفحم، معتبرة قانون استملاك الأراضي بمثابة جزء من الموروث القانوني القومي، الذي نشأ عليه الكيان، وأتاح المجال أمام مؤسسات الاستيطان القومية تهيئة البنية التحتية لإقامة „الدولة الفتاة”، وليس من العدل بمكان تطبيق قوانين الملكية الدستورية الجديدة عليها.

بمعنى آخر، إنَّ الأراضي التي صودرت من محمود خليل جبارين وآخرين في اللجون، ومن عبد الله دهامشة في كفر كنَّا وأندراوس مخول واخوانه في قرية المكر، ومن المرحوم عوني سبيت واخوانه في اقرث وكفر برعم- وجميعهم لجأوا إلى المحكمة طالباً الغاء المصادرة، وتم رفض طلبهم- وآلاف مؤلفة من الفلسطينيين مثلهم، يسري عليهم قانون السرقة المشرعنة، وليس من المجدي استنادهم إلى دستور تمَّ تشريعه لغيرهم.

إلى هنا تحدثنا عن السرد القانوني الجاف، وهنيئاً غير مريءٍ لهم بفعلتهم وبدستورهم، إلا أنَّ ما يستفز العقل والشعور ما جاء على لسان القاضي روبنشتاين، الذي انضم لقرار الأكثرية، وطلب الرد على ادعاء أهالي أم الفحم أن الأرض المذكورة تستخدم لغايات التحريج وليس لغاية الاستيطان.

جاء في قرار روبنشتين، أن التحريج جزءٌ من غايات الاستيطان والتطوير واطال في الإقتباس من المصادر التوراتية والفقهية اليهودية والأدبيات الصهيونية، التي تتحدث عن أهمية الاخضرار والتشجير، مشيراً الى أنه كان له ولزوجته، دورٌ في إزهار الأرض اليباب والصحراء المقفرة.

لحسن حظنا، أنّ الله أنعم على بعض آبائنا وأجدادنا طول العمر وموفور الصحة، وهم ما زالوا أحياءً، يحدثونا عن جنة الخلد التي عاشوها في اللجون وفي كافة أنحاء فلسطين.

سعادة القاضي روبنشتاين، فلتعلم أن أرضنا لم تكن يباباً بل كانت مخضرةً، مثمرةً، مزهرةً بألوانها، عامرةً بأهلها، والقرآنُ يزخر بوصف الشجر والإخضرار، وكذلك تراثنا الشعري والأدبي، أما اللجون، الواقعة بين وادي اللجون ومرج ابن عامر، كانت محاطة بعيون وينابيع عديدة، منها „عين الخليل” و”عين الحجة” و „الست ليلى”، وسكن فيها العرب منذ الفتح الإسلامي في القرن السابع، وفي العام 1931 وصل عدد سكانها من المسلمين والمسيحيين 855 نسمة، وفي 1937 أنشئ عليها مدرسة ومركز طبي، وفي العام 1945 بني فيها مسجدٌ بالحجر الأبيض، وعشية النكبة كانت بها سوق صغيرة وست طواحين للحبوب وشركة باصات، ووصل عدد سكانها 1280 نسمة.

نعم أيها القاضي، لقد إعتاد أهالي اللجون زراعة „التل الأسمر” بالقمح والشعير والعدس، أما „مُزهري البريَّة”، فقد سعوا لاحقاً إلى حفره وبيع حجارته من أجل تعبيد الشوارع، وحولوا مسجدها إلى مشغل نجارة.

التعليقات