عناقُ شقيقتين بعد 64 عامًا!

حملت شقيقتها في أيام التهجير إلى لبنان، عادت لتعيش قرب بيتهما المنهوب في صفورية وبين أسى البعد عن أقرب الناس، لكن الأيام حملت في جعبتها لقاء لمّ الشمل ونبش الذكريات، تقول الحاجة ريمة: "رائحة أمي لا زالت تزكمُ أنفي.. ولا زال صوت أبي اسمع صداه"

عناقُ شقيقتين بعد 64 عامًا!

 

حملت شقيقتها في أيام التهجير إلى لبنان، عادت لتعيش قرب بيتهما المنهوب في صفورية وبين أسى البعد عن أقرب الناس، لكن الأيام حملت في جعبتها لقاء لمّ الشمل ونبش الذكريات، تقول  الحاجة ريمة: "رائحة أمي لا زالت تزكمُ أنفي.. ولا زال صوت أبي اسمع صداه"

 حنينٌ بين الضلوع شدّها إلى حضنِ شقيقتها بعد 64 عامًا من رحلة العذاب في الغربة...

الحاجة رسمية عبد الحميد ولدت قبل النكبةِ بعامين، وفي عامِ ثمانيةٍ وأربعين، كانت محمولة بين ذراعيْ شقيقتها ريمة، التي لم تتجاوز الـ 14 عامًا وكانت مخطوبة لابن بلدتها أمين ابنُ الـ 18 عامًا. صغارًا كانوا عندما هجرّوا إلى لبنان، وذاقوا رحلةً مريرة في الطريق من بلدة صفورية إلى عين الحلوة، وفي الطريق كانت أم خالد وزوجها ومعهما الأبناء يرتاحون قليلاً من القصف الإسرائيلي والتهجير، لعلّها أيام ويعودون إلى ديارهم في صفورية، وحين وصلوا إلى عين الحلوة، كانت الطفلة الصغيرة التي لم تكمل عامها الأول قد جفّ حلقها، عطشًا وجوعًا، ففارقت الحياة.

أبو خالد، استقرَ في غرفةٍ بسيطة، تحسس جيوبه فوجد مفتاح البيتِ والدكان ما زالَ معه، فارتاحَ باله قليلاً.

رسمية عبد الحميد أو أبو صلاح، على اسم عائلتها قبل الزواج، جاءَت قبل أسبوعين تقريبًا للقاء شقيقتها ريمة ابنة الـ 77 عامًا، لكنّها تجاوزت المائة عام من الحزن بغيابِها عن عائلتها. رسمية وريمة كانتا معًا قبل أن تُقرر عائلة خطيب ريمة، حلومة، أن تزوجهما ليعودا بعد أشهر قليلة إلى صفورية، راحت أم خالد مع ابنتها لتشتريا بدلة عرسها، واحتياجاتها الخاصة، ثم ودعتَ أهلها وعادت مع زوجها لتقضي شهر عسلٍ، في الوطنِ الذي تعشق.

ذكريات لا يمكن نسيانها، وصفحاتٌ من تاريخٍ يشهد على هولِ التهجير، الذي مزّق الأوصال وجعل الأخوة يشتاقون والآباء يموتون حسرة، للقاء الأرض والأبناء، ولأولِ مرةٍ منذ أن ولدتا شعرت الشقيقتان ريمة ورسمية أنّ روحهما رُدت إليهما، يوم التقتا في بيتِ ريمة (ـم عادل) حلومة ولم تكونا تصدقان أنّ الغائبين سيعودوا يومًا إلى الديار.

جاءت رسمية من ألمانيا، للقاء شقيقتها وقد شدها الحنين، وكانَ القلبُ "يغلي" لهفًا على احتضان شقيقتها التي كان لها الفضل الكبير عليها، يوم حملتها ومشت بها إلى لبنان، وهي اليوم أمها بعد رحيلِ الأحباء الذين ماتوا في غيرِ أرضهم... اللهم إلا شقيقهما خالد، أبو فؤاد الذي أقعده المرض بعد أن تجاوز الثمانين عامًا.

تجلسان معًا، اليوم، دون حواجز، وجهًا لوجه، لم تستطع صواريخ الجيش الإسرائيلي في ما مضى، ولا مجازرها التي مرمرت حياة عائلة الفلسطينيين، بمن فيهم رسمية، ولا حتى عذاب اللجوء السياسي، مِن تحقيق الحلم، وتجميع الأوصال المشتتة

نيسان 2011، جاءَ ربيعًا مزهرًا أنعش قلبيهما... تقول رسمية: "شعرتُ أنّ الأرض "مش حاملتني"، لا أعرفها، لم أنجح بتخيلها، عانقتُ جميع النساء، لعلهن حبيبتي ريمة، ثم جاءَ حضنها، دافئًا، كحضنِ أمي، شممتُ فيها رائحة أمي، عطر أمي الذي عبءَ المكان".

أما الحاجة ريمة فتعود بها الذاكرة إلى يوم التهجير، كانت تحملُ رسمية بين ذراعيها، وتدوس الأرض، أكثر من مرة كادت تقع، فكانت تمسك بذيل امها، لكي لا تسقط هي وشقيقتها... فتقول: "في الطريق كانت الطائرات تضرب، كنا نركض قليلاً، ونتعب كثيرًا، أقمتُ عند أهلي في عين الحلوة، بمدينة صيدا، ثم جاءَ أهل خطيبي أمين، إلى البقاع، وقرروا تزويجي، بضعة أشهر رافقتني أمي خلالها قبلتني كثيرًا، وأوصتني بالعودة إلى البيت، والحفاظ على ما تركنا بانتظار عودتهم جميعًا. غابَت عني، لكن ظلّت في خيالي حتى اليوم، عدتُ مع زوجي وشقيقه وشقيقته".

تقول الحاجة ريمة (أم عادل): "الله لا يذوقها لحدا هاي المرارة والحسرة اللي ذقتها، كنت لوحدي، لا أب، أقول له يابا، ولا أم توخدني بحضنها، ولا أخ يشفق علي"، وتتابع: "عمتي شقيقة زوجي كانت تعاملني أحسن معاملة، فصبرتني وآنستني، أنجبتُ تسعة أبناء، ملؤوا حياتي، وأسعدوني، وحين كبروا أنسوني همي (6 بنات) و(5 أبناء)، إلا أنّ رحيل ابني عادل، كسر ظهري، الحياة تصبّر لكن الراحلين لا يُنسوْنَ أبدًا، سعيدة مع أبنائي وأحفادي".

"يوم الرحيل، كانت أمي توصي أبي، (فوّت الغراض عن البلكون وسكّر)، أقفل الدكان، هربنا من ضرب الصواريخ، فلاحقتنا الصواريخ عند دخولنا لبنان".

"ماتت شقيقتنا ابنة الـ 7 أشهر، وهي جائعة وعطشى، دخلنا إلى عين الحلوة، كنتُ نتحدث إلى اللبنانيين فلا يفهمون ماذا نريد، بعد خمسة أشهر جاءَ أهل خطيبي، يريدون أن يزوجوني، أبي كان يريد الانتظار، لكنّ أمي قالت إن الانتظار طويل، وأصرّ دار عمي على تميم مراسم الزواج، كيف لا وقد دفعوا مهري 250 ليرة... تزوجت لكنّ دموعي لم تجف بفراق أهلي".

 معاناة ام مروان من لبنان إلى المانيا

أما رسمية (ام مروان) فتقول: "أمي الاخرى كانت تضل تعيّط، وتقول ريمة ما إلها حدا، كيف عايشة؟ نفسي اضمها، لكنها توفيت بعد 5 سنوات، ماتت حسرة على اقتطاع قطعة من قلبها، ابنتها، وقبل 5 سنوات توفيت شقيقتي غزالة...، أمي كانت تحدثني عن رسمية أنها الوحيدة التي دخلت المدرسة وتعلمت في مدرسة الراهبات في صفورية، وتعلمت التطريز والخياطة".

تتابع ام مروان: "توفت أمي، وتزوجت سنة 1966، سكنت مع زوجي وهو أيضًا لاجئ فلسطيني أمه صفورية وأبوه حيفاوي استشهد عام 48، مات ابني الأول، ولأنجبت ثلاثة آخرين، سكنا في مخيم شاتيلا، وحين وقعت المجزرة تركناها وانتقلنا إلى تل الزعتر، وهناك أيضًا وقعت مجازر، وقررنا عام 1973 اللجوء إلى ألمانيا، وفي ألمانيا رحل زوجي بعد 5 سنوات، حسرة على والدته التي ماتت جراء هدم بيتها في الحرب، وأنجبت طفلين آخرين... جميعهم حملوا الجنسية الألمانية، حياتي لم تكن سهلة في ألمانيا، لم أستطع زيارة أهلي في لبناني إلا بعد 18 عامًا، أوائل العام الحالي، حين توفي شقيقي، رغم حصولي على الجنسية الألمانية قبل خمسة أعوام، لكن الظروف الاقتصادية ومرضي حرماني من لقاء اشقائي الذي توفوا قبل رؤياهم، وها أنا آتي للقاء شقيقتي، وأتمنى أن أظل قربها العمر كله".

 أم عادل امرأة عصامية

أما أم عادل، الجميلة حتى اليوم، البيضاء والشقراء، والحنونة، كانت تصنع السلال والتطريز والأشغال اليدوية حتى ساعدت زوجها، الذي أحبها، رغم معاناتهما معًا، فهو رغم عودته الى الديار، ظلّ يصارع الحكومة ورجالها، يقذفونه إلى لبنان فيعود صباحًا، ورغم طلقات الرصاص التي أكلت رجليه، لكنه ظلّ قويًا وشامخًا، هكذا وصفته زوجته، التي ربت أبنائها الـ 11 بعرقِ جبينها، ثم استقرَ الزوج في بيته عام 57، بعد حصوله على الهوية، جواز إقامته في وطنه، وزوّج الأبناء والبنات، وظلّ هو وزوجته يتحديان السماسرة الذين أرادوا أن يجبروه على بيع أرضه في صفورية، لكنه مات دون أن يبصم أنه تنازل عن شبرٍ منها.

تقول الحاجة رسمية: "كنتُ كلما سمعتُ زائرًا من لبنان إلى البلاد، أقصده، دون معرفة سابقة، لأسأل عن أهلي، ماتَ أبي وهو يتمنى الموت على تراب فلسطين، ورغمَ القسوة والشقاء، كانت الحياة أهدأ بالاً واهنأ".

"لا زالَ حلم زوجي وشقيقته وأهلي يسكنني، أن يقبلوا تراب صفورية، لو حبوًا على الأرض".

"أخذوا أرضنا وحرثوها، ونُهبوا البيت، حين عدتُ إليه ذات يومِ ووجدتُ صرة ملأى بالملابس مربوطة بفستان أمي، بكيت بحرقة...، سرقوا البيت والدكان، ولم يتركوا شيئًا، لكنّ رائحة أمي لا زالت تزكمُ أنفي.. ولا زال صوت أبي اسمع صداه، سنلحق بكِ سنعود قريبًا".

التعليقات