قبل أن يصوت البرلمان الإسرائيلي على توصيات لجنة برافر../ د. منصور النصاصرة*

على الرغم من موافقة الحكومة الاسرائيلية على توصيات لجنة برافر أهل النقب لن يتنازلوا عن مطالبتهم الشرعية بملكيتهم التاريخية لأراضيهم في قضاء بئر السبع

قبل أن يصوت البرلمان الإسرائيلي على توصيات لجنة برافر../ د. منصور النصاصرة*
توصيات لجنة برافر والتي أقرتها الحكومة الإسرائيلية بإحدى جلساتاها الأخيرة تنادي بترحيل 30 ألفا من عرب النقب عن أراضيهم التاريخية، وتركيزهم في قرى التوطين القسري. هذه الخطوة هي عبارة عن الحلقة الأخيرة من مسلسل تهجير أصحاب البلاد العرب من النقب، والذي ابتدأْ من عام 1948 حيث أن اكثر من ثلثي العرب البدو القاطنين في لواء بئر السبع والبالغ عددهم آنذاك حوالي 90.000 نسمه قد هُجّروا من موطنهم التاريخي الأصلي ليصبحوا لاجئين في الدول العربية المجاورة. وتشير الإحصائيات إلى أنه ما يقارب 12,500 من عرب النقب بقوا تحت ظل الحكم الإسرائيلي بعد عام 1948، حيث أن غالبيتهم ُطردوا من النقب الغربي إلى منطقه السياج، وتحولوا إلى مهجرين في وطنهم.
 
منذ عام 2007 تصاعدت مداولات حكومية مختلفة، بداية من لجنه جولدبيرغ، والآن لجنة برافر لاقتراح حلول مختلفة لتسوية الصراع على ملكية أراضي النقب. حيث يطالب العرب في النقب بالاعتراف باحقيتهم بملكية 600 ألف دونم كجزء بسيط من أراضيهم التاريخية في القضاء الجنوبي. وبالمقابل أشارت توصيات لجنة جولدبيرغ تسجيل ثلث الأراضي المُتنازَع عليها تحت ُملكية عرب النقب، وكذلك أوصت بالاعتراف ببعض قراهم غيرالمعترف بها كخطوة جديدة في القاموس الإسرائيلي. إلا أن لجنة برافر المُكلفة بتطبيق توصيات جولدبيرغ قد اقترحت مؤخرا على المواطنين العرب في النقب بحصولهم على ملكية جزء بسيط (قدرت بـ 27%) فقط من الأراضي التي يطالبون بها، والتي ترجع لجزء من ملكيتهم الخاصة منذ عهد الدوله العثمانية.
 
إن تطبيق توصيات برافر ستؤدي إلى تهجير معظم سكان القرى التاريخية غير المعترف بها عنوة إلى البلدات العربية القائمة في النقب دون الإصغاء لتوصيات لجنة جولدبيرغ التي أوصت بالاعتراف بعدد من القرى في النقب وببعض ادعاءات الملكية التي التمس بها العرب في النقب إلى المحاكم الإسرائيلية منذ عام النكبة. هذا السيناريو يعيدنا إلى ذاكرة تهجير آخر لأكبر عدد من أهل النقب في بداية الثمانينيات من القرن الماضي من أهل "تل الملح" بعد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر حين هجر ما يقارب ال 5000 من أصحاب البلاد من تل الملح إلى مدن التوطين القسري.

توصيات برافر تشكل فشلا ذريعا وخطأً تاريخيا أخفقت فيه الحكومة الإسرائيلية بالاعتراف بحق المواطنين العرب بملكيتهم على أراضيهم على غرار ما كان في فترتي الدولة والعثمانية والانتداب البريطاني. فلو قامت اللجنة بعملها كما يجب، لاكتشفت بأن موظفي السلطات العثمانية، الانتداب البريطاني وكذلك التابعين لدوله اسرائيل نفسها أقروا بالاعتراف سابقا بملكية أهل النقب لأراضيهم كما يتبين من بحث أكاديمي شامل أجريته ليس منذ زمن في الأرشيفات البريطانية والإسرائيلية بل ومن خلال المقابلات الشخصية العديدة التي أجريتها في بريطانيا، وكذلك مع موظفين إسرائيليين من حقبة الحكم العسكري ومع أهل النقب أنفسهم.
 
على سبيل المثال في المقابلة التي أجريتها في بريطانيا عام 2008 مع اللورد اكسفورد- نائب حاكم قضاء بئر السبع في عهد الانتداب البريطاني بين الأعوام 1943-1945، أوضح بأن سلطات الانتداب البريطانية أقرت بملكية عرب النقب على أراضيهم، حتى لو أنها لم تتم عن طريق تسجيل رسمي حين قال "لم نعارض على ملكية عرب النقب لأراضيهم، ولم نجبرهم على تسجيلها بالدوائر الرسمية". وقال اللورد اكسفورد، كما جاء على لسانه أيضا "إنهم (البدو) كانوا راضون من طريقة الاعتراف المتبعة لديهم بأراضيهم، لذلك اعتقدنا بانه ليس من اللائق إجبارهم على عمل لا يرغبون به ويؤدي إلى معارضتهم". كما أقر أكسفورد أيضا بملكية أراضي بئر السبع كونها ملكية لقبيلة العزازمة وهذا ما ذكرته وثيقة عثمانية من عام 1901 حين اقتنى الأتراك جزءا من أراضي بئر السبع من الشيخ حسن الملطعة.
 
شهادة اللورد اكسفورد والذي وافته المنية في كانون الثاني عام 2011 تتناقض كليا مع الرواية الإسرائيلية، والتي تدعي بعدم وجود أي ملكية تاريخية لعرب النقب للأراضي التي سكنوا عليها لأجيال عدة.
 
 وهنالك وثائق بريطانية وعثمانية عديدة تشهد بأن العرب في النقب دفعوا الضرائب المستحقة على تلك الاراضي مما يثبت ملكيتهم القانونية. مثالا على ذلك في تقرير من كانون الثاني لعام 1940 كتب مالكلوم ماكدونالد والذي شغل منصب سكرتير دوله لشؤون المستعمرات، أنه اعترف بأن ضريبة (“tithes”) والتي دفعت على يد المواطنين العرب في لواء بئر السبع تشكل شهادة على ملكيتهم للأراضي. بالإضافة إلى وثائق منذ العهد العثماني والتي وجدت في الأرشيفات البريطانية تشهد على دفع العرب البدو في قضاء بئر السبع للضرائب في قضاء بئر السبع منذ العام 1907 مما لا يترك شكا في ملكيتهم القانونية لأراضيهم.
 
دليل آخر ومؤرشف وواضح كل الوضوح هو ما ذكرته مستندات مركز المحفوظات البريطاني أن ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني قام بزيارة إلى النقب، واجتمع مع المشايخ في بئر السبع عام 1921 واعترف بملكية أراضيهم دون أن يطلب منهم تسجيلها في الطابو. فهل اعتراف تشرتشل لا يكفي لإقناع المحاكم الإسرائيلية بملكية العرب البدو لأراضيهم في النقب؟
 
 
يُشار إلى أن الاعتراف بشرعية ملكية عرب النقب لأراضيهم استمر حتى بعد العام 1948. على سبيل المثال ففي عام 1952 كتب ميخائيل هنيغبي الحاكم العسكري لمنطقة النقب رسالة سرية آنذاك وجهها لوزارة الأمن ولديوان رئيس الحكومة قائلا إنه "خلال الأعوام 1950- 1952 تمت جباية مبلغ 19,000 ليرة إسرائيلية كضريبة أراض من العرب في النقب من قبل الحاكم العسكري ومشايخ النقب. حيث دفع العرب آنذاك في النقب مبلغا مقابل كل دونم معترف به بملكيتهم". ولذلك فإن قيام هنيغبي بكل هذا الجهد لجبابة الضرائب المستحقة على أراضي الملك، ليس إلا اعترافا بملكية عرب النقب القانونية لأراضيهم- الأمر الذي تجاهلته لجان جولدبيرغ وبرافر. ففي سنوات الخمسينيات، دفع معظم المواطنون البدو الذين بقوا في النقب ضرائب الأرض المستحقة للدولة، والتي قد جُمعت عن طريق الحاكم العسكري أو المشايخ البدو أنفسهم. وتجدر الإشارة هنا بأن الضرائب التي ُدفعت للسلطات البريطانية والإسرائيلية تشمل أيضا الأراضي المتنازع عليها اليوم بين البدو والدولة.
 
شهادة مشابهة وجدت في أرشيف الدولة (القدس) تابعة لـ يوسف فايتس والذي كان له دور بارز لاحقا في إقامة ما ُيسمى بـ"دائرة أراضي إسرائيل". ففي عام-1952 عين فايتس على رأس لجنة حكومية لفحص ادعاءات الملكية للمواطنين العرب في النقب، حيث توصلت اللجنة الى نتائج مهمة. "التقرير الذي قدم أشار إلى أنه على الرغم من أن قسما من العرب الباقين في وطنهم بعد عام 1948 سُلبت أراضيهم التاريخية وتم تركيزهم في منطقه مغلقه- فان السلب لم يحرمهم من الملكيه على أراضيهم، وأكد التقرير أن العرب في النقب اعتبروا كل الأراضي التي استصلحوها للزراعة أراضي بملكية خاصة ولم يقدم التماس ضد هذا الادعاء".
 
لجنه فايتس اقترحت أنه وعلى الرغم من ذلك يمكن منع الاعتراف بحقوق العرب بملكيتهم على أراضيهم حتى ولو أثبت أنهم استصلحوها لسنوات عديدة، وذلك عن طريق وقف فتح مكتب لتسجيل الأراضي في بئر السبع، الأمر الذي سيمنع العرب في النقب محاولة التسويه بشكل رسمي.
 
يُشار إلى أن أعضاء اللجنة (والتي ضمت أيضا طوليدانو مستشار رئيس الحكومة للسكان العرب آنذاك) طالبوا الحكومة بالإسراع بإقرار قانون شراء الأراضي "من أجل المساعدة بعملية نقل الأراضي التي استصلحت بالماضي من قبل العرب في النقب لسلطات التطوير، وكذلك اقترحت اللجنة دفع تعويضات في الحالات التي ينجح فيها عرب النقب بإثبات ملكيتهم على الأراضي.
 
من هنا نستنتج أن اللجنة أقرت الحقيقة التاريخية أن العرب البدو سكنوا النقب قبل قيام الدولة من خلال اعترافها باستصلاح الأراضي من قبل المالكين البدو وتوصياتها بتعويضهم في حال صودرت أراضيهم. فهذا دليل على اعتراف لجنة فايتس بشكل قاطع بملكية أراضي البدو في قضاء بئر السبع التاريخي.
 
بدلا من التوصيه بتهجير 30 ألف مواطن من عرب النقب، كان يجدر بلجنة جولدبيرغ وبرافر فحص كل السجلات المسبقة في الأرشيفيات الاسرائيلية منها والبريطانية حول ملكية الأراضي للمواطنين العرب في النقب، ولو قاموا بذلك، بالإضافة لو أنهم استمعوا جيدا لمطالب البدو أصحاب الأراضي لما كانوا قد أقدموا على مثل هذه التوصيات التي هي بعيدة عن الواقع ولا تستند إلى أي قوانين عثمانية أو بريطانية للأراضي قبل العام 1948.
 
وعلى الرغم من موافقة الحكومة على توصيات برافر، فإن المواطنين العرب في النقب لن يتخلوا عن مطالبتهم بملكيتهم لأراضيهم التاريخية، وسيبقون رافعين لواء الاعتراف بحقوقهم حتى يظهر الحق. ودليل ما شهدناه مؤخرا في النقب –ربيع النقب- من مسيرات سلمية عديدة والتوجه الى المؤسسات العالمية لإثناء الحكومة الإسرائيلية عن قرارها ما هو إلا خطوة صحيحة من النضال المستمر لرفض مخطط برافر وإفشاله. فإذا استمرت جهود أصحاب البلاد بمسيراتهم السلمية ووقفاتهم الاحتجاجية سوف تتكلل بالنجاح وسيعود الحق التاريخي لأصحابه.

التعليقات