يــــــــوم الـــزَرَد بالــــــــــــرُب

يتوافد أفراد العائلة والأقارب والجيران إلى الحاكورة التي ستشهد، كما في السنين السابقة، حراكًا مكثفًا هذا اليوم، يشربون قهوة الصباح ويستعدون للمهمة الجماعية، يمدّ الكبار والصغار يد العون في جَمعةٍ عائلية قروية خاصة قلما نراها في أيامنا هذه، التي حالت فيها قرانا إلى مسخ وغيتووات على هامش التمدّن المشوه والحصار.

يــــــــوم الـــزَرَد بالــــــــــــرُب

- العم جريس يطحن الخروب -

فصل المقال

 

يقوم العم أبو شادي، جريس عيد، في الصباح الباكر بإشعال النار تحت القدور، التي تحوي بداخلها الماء المنقوع بهريس الخروب، من أجل غليها معلنًا بذلك بداية يوم "الزرد بالرُّب"، بعد أن قام باليوم الفائت بطحن 12 شوالا من ثمر الخروب الذي جمعه من أشجار الحيّ بمطحنة عمرها عشرات السنين، قام جدّي بشرائها من أحد رجال قرية عرابة مقابل سخل!
 
اشتم الرائحة من غرفتي فأنزل إلى الحاكورة قبل حتى أستجمع كلّ طاقات صحوتي. يوم "الزرد بالرّب" أصبح بالنسبة للعم أبو شادي تقليد سنوي أصيل، لم تمنعه "الحداثة" ولم ينسه "عصر السرعة" إياه، طقس ورثها عن والديه وأصبحت تعني له هويته الشخصية وتراثه، بالوقت ذاته.
 
يتوافد أفراد العائلة والأقارب والجيران إلى الحاكورة التي ستشهد، كما في السنين السابقة، حراكًا مكثفًا هذا اليوم، يشربون قهوة الصباح ويستعدون للمهمة الجماعية، يمدّ الكبار والصغار يد العون في جَمعةٍ عائلية قروية خاصة قلما نراها في أيامنا هذه، التي حالت فيها قرانا إلى مسخ وغيتووات على هامش التمدّن المشوه والحصار.
 
"القضية مش قضية مهتم بالموضوع أو لا، الإشي هذا انزرع فيي بقدر ما ربيت معو.. جزء من طفولتي وحياتي جول عيلة إعتمدت على الزراعة" يجيب أبو شادي عن سؤالي حول اهتمامه الكبير بإنتاج الرّب بدل شرائه جاهزًا، "بقدر أشتري الرُبّ بدون كل هذا التعب، لكن أُفضل أصنعه بنفسي وأتأكد من نظافته، وإني أحافظ على تراثنا، وبنفس الوقت أنا أعشق كل أشجار بلادي والخروب خصوصًا".
 
- حراكٌ عائليا مُكثفا في الحاكورة -

بالنسبة لأبي شادي الجانب الاجتماعي هو الأساس، "بهذا اليوم بتسود الإلفة والمودة بين كلّ العيلة، الكل بشتغل مع بعض...عمل جماعي"، يقول بينما أرقب حوله جميع أفراد العائلة والأقارب يتداولون آخر أخبارهم ويتبادلون أطراف الحديث، وطبعا لا يخلو الجو من المزاح وإلقاء النكات عن بعض الأشخاص، وصفرة طعام لذيذة مشتركة.
 
تحتاج عملية إنتاح الرُبّ من ثمر الخروب إلى "دزّ" الحطب تحت النار طوال النهار، حتى يغلي الماء المنقوع جيدًا، وفي ساعات العصر تقوم النسوة بصنع كعك "الزرد" لوضعه في القدور ليصبح بما يُعرف "زرد برب"، حيث يجتمعن سويًا في بيت جدتي، أم يوسف، القريب من الحاكورة، لاستغلال الماء المنقوع والمغلي من أجل صنع كعك الزرد.
 
- الزَرد بالرُب -

تشاهد جدتي أم يوسف، كعادتها، المسلسلات السورية، فقد أتعبها العمر ولم تعد تسطيع المساهمة في عمل اعتادت عليه عشرات السنوات، لكنها في نفس الوقت سعيدة جدا لرؤية أبنائها وأحفادها مجتمعين حولها، يدخلون عليها ويخرجون ويعملون سويا، بالنسبة لها هذا اليوم هو من أجمل أيام السنة، ولا تفضل شيئا في الحياة على هذا المشهد العائلي الحميم.
 
"بس حتى اليوم أهون من قبل.. زمان كنا نطحن الخروب وندقو على إيدينا.. لتنو سيدك جاب مطحنة من علي الحسيان من عرابة وأعطاه حقها سخل من الطرشيات، وقام سيدك لَحَم المطحنة وزبطها ومن وقتها واحنا نستعملها"، تروي لي جدتي عن قصص "أيام زمان"، لتصبح قصة المطحنة فصلاً من فصول رواية تهجير أهل عيلبون إلى لبنان وعودتهم.
 
"قومي يا ستي كلي من الأكليات اللي جابتهن عمتك"، تقول جدتي لملك ابنة عمي جريس في الصف السادس، بينما أحاول أن أقتنص منها المزيد من التفاصيل، فقدت تركيزها معي وتركّزت بملك التي تتملكها سعادة فائقة اليوم جدا اليوم "الرّب كتير طيب.. وراح أصير أعمل منو بس أكبر" تقول ملك قبل أن تقوم لتأكل، فتعجبني من جديد فكرة الاستمرارية.
 
 
غسان يوسف، جار وصديق العائلة يعمل مدرسُا للغة العربية في كلية الجليل المسيحية في عيلبون، لكنه يعمل كذلك في صنع الرب مع أبي شادي كلّ سنة، ويعتبر أنّه بالرغم أننا أصبحنا في عصر السرعة، وأنّ أدوات ومواعين صنع الرُبّ ليست بتناول يد جميع الناس، إلا أنّنا يجب أن نفعل كل ما يمكننا فعله للحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا.
 
"طلّع على البلدات الإسرائيلية" يقول الأستاذ غسان، "بسّموا شوارعهن على أسماء أشجار ونباتات اللي هي أشجار ونباتات بلادنا، وبزرعوا الشجر بالحدائق وعلى جوانب الطرق والبيوت.. شو منعرف إحنا اصحاب البلاد عن أشجار ونباتات بلادنا؟"، يتسائل الأستاذ بألم مستنكرًا جواب السلب غير المحكي "ولا إشي"، ويضيف اقتراحًا من عالمه كي يكون كما عوّد من عرفه بنّاءً وإيجابيًا "أنا بعرف منيح إنه مناهج التعليم عنا بتتجاهل هاي المعرفة، لكن من ناحية ثانية، ليه ما بتقوم مجالسنا العربية بزرع شجرة الخروب أو السريس مثلا في جوانب الطرق، هذا شجر جميل وغير مكلف وما تحتاج للميّ، وبتعطي ظل كبير، في جهل مطبق، واجبنا الوطني والأخلاقي معرفة هذه الأمور، هاي شواهد بلادنا وإذا فقدناها راح نفقد ارتباطنا ببلادنا".
 
أما عماد، ابن عمي جريس، وهو طالب في معهد التخنيون، فلم يكن يحب أكل الزرد والربّ أما منذ مدّ يد المساعدة لأبيه فقد أصبح يحبّ بلاده على الأقل، ويحبّ الزرد والربّ لأجلها "ما بحب أشوف أبوي يشتغل لحاله، لازم أساعده، الإشي إنه من لما بلشت أشتغل بالزرد صرت أرتبط أكثر بتاريخ عائلتي وشعبي وبلادي، بهادا اليوم تحديدًا وكمان بموسم الزيتون، بشعر أنه إلي ماضي وبعتز فيه، وبحسّ إنه واجبي أحافظ عليه وأطوره".
في المساء، وبعد الانتهاء من العمل، يقوم شباب العائلة بتحضير لحم الشواء في ختام اليوم الطويل من أجل احتفال السهرة العائلية الممتعة، 
التي ننام بعدها مبتسمين لننتظر أن نتقاسم في الصباح، زجاجات الربّ ونتاج متعة التعب.
 
- "خط انتاج الكعك" -
____________________________________________________________________________________
 
شجرة الخروب
شجرة الخروب شجرة قديمة، زرعت في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط قبل حوالي (4000) سنة وكان اليونانيون القدماء على معرفة بالكثير من فوائدها واستعمالاتها، يعود الفضل في انتشار شجرة الخروب في إسبانيا وشمال أفريقيا إلى العرب، ومن إسبانيا قام أحد المهاجرين الإسبان بنقلها إلى المكسيك وأمريكا الجنوبية، وعمل الإنجليز على نقلها إلى جنوب إفريقيا والهند وأستراليا والاولايات المتحدة.
 
القيمة الغذائية
يحتوي لب قرون الخروب على مواد غذائية عدّة من أهمها السكر بنسبة 55% وبروتين عالي الجودة بنسبة 15% ودهون بنسبة 6% أمّا مسحوق البذور فيحتوي على 60% بروتين وكميات وافرة من الزيوت الخالية من الكوليسترول كما يوجد في ثمار الخروب فيتامينات (أ، ب1، ب2، ب3، د) وعناصر معدنية مهمة مثل: البوتاسيوم ، والكالسيوم، والحديد، والفسفور، والمنغنيز، والباريوم ، والنحاس، والنيكل، والمغنيزيوم، وغيرها، وتخلو الثمار من حمض الأوكساليك (Ox) مما يسهّل عملية امتصاص الأمعاء لهذه المعادن والإفادة منها بشكل كبير.
 
 
القيمة الطبيّة
يحتوي لب ثمار وبذور الخروب على العديد من المواد الفاعلة منها صمغ الخروب الذي يفيد بوقف الإسهال خصوصًا عند الأطفال ، كما يفيد في معادلة الحمضية أو القلوية في الأمعاء، ويثبط نمو بعض الجراثيم، ويستعمل شراب الخروب في الطب الشعبي لتخفيف حدة السعال، وتنصح المرضعات بتناول الخروب أو الشراب المصنوع منه لإدرار الحليب وتعزيز قوته الغذائية ، كما يُنصح المرضى المحتاجين للتخلص من الماء الزائد في أجسامهم. كما يستعمل لحاء شجرة الخروب في وقف النزيف، واشتهر عرق السوس في معالجة قرحة المعدة.
 
الفوائد البيئيّة
تقوم جذور الخروب بتثبيت النيتروجين في التربة مما يزيد في خصوبتها وحيويتها وتشكل ثمار الخروب وأوراقه المتساقطة على الأرض سمادًا بعد تحلله بفعل بكتيريا التربة، ونظراً لكثرة أغصان شجرة الخروب وكثافة أوراقها فإنها توفر بيئة مناسبة وآمنة لتعشيش الطيور وتناسب تجاويف أشجار الخروب الكبيرة جحوراً ملائمة لاختباء بعض الحيوانات مثل السنجاب والدلق. كما تناسب أشجار الخروب الجميلة ودائمة الخضرة لتزيين الطرقات والحدائق العامة.
 
الاستعمالات الأخرى
يتميز خشب الخروب بالقوة والمتانة وسهولة الطلاء، ولهذا فهو مناسب لصنع أثاث المطابخ والأدوات والأواني الخشبية، ويعد الفحم المصنوع من أخشابها من أجود أنواع الفحم .. وتستعمل البذور المحمصة بديلاً للقهوة أو للشوكولاته التي تدخل في صناعة الحلويات، أما مسحوق الخروب وبذوره فيستعمل في الكثير من الصناعات الغذائية، كما يستعمل مسحوق الخروب في صناعة مستحضرات التجميل والمبيدات الحشرية، ويذكر أنّ بذور شجرة الخروب تتشابه إلى حد كبير فيما بينها من حيث الشكل والوزن وقد استعملت في الماضي كوحدة وزن (القراط) من قِبل تجار المجوهرات.

التعليقات