أولاد رنــــا.. في انتظــــار الأب

سألتُ الطفليْن يزن ولوجيْن عن والدهما الغائب فردّ يزن: "أبوي في مصر وإحنا هون، بقدرش يجيي لإنه معوش بسبور ولا وثيقة سفر"، أما لجيْن فقالت: "حابة اشوفو لأبوي أعبطه وأبوسه، وأقوله إني بحبك كتير، لإنه بشتريلي اشياء كثيرة، ألعاب.."، قاطعها يزن ليقول: "بس انا زعلان كتير لأنه كل اولاد صفي بيجي أبوهن بزورهن في المدرسة وأنا لاء".

أولاد  رنــــا.. في انتظــــار الأب

يحلم يزن ولجيْن بلقاء والدهما رامي، الفلسطينيّ القاطن في مصر بلا هوية أو جواز سفر، الذي تزوجته رنا بعد قصة حبٍ أحبطها القانون الجائر 

 

 

يتمنى الطفلان يزن (6 سنوات) ولجيْن (4 سنوات) عدوان، قبل المنام كُلَ ليلةٍ، أن يستيقظا وقد صار حُلمهما  واقعًا، وأنّ والدهما رامي أصبح جزءًا مِن حياتهم اليومية، وأنه في البيتِ يرعاهما ويحتويهما.

سألتُ الطفليْن يزن ولوجيْن عن والدهما الغائب فردّ يزن: "أبوي في مصر وإحنا هون، بقدرش يجيي لإنه معوش بسبور ولا وثيقة سفر"، أما لجيْن فقالت: "حابة اشوفو لأبوي أعبطه وأبوسه، وأقوله إني بحبك كتير، لإنه بشتريلي اشياء كثيرة، ألعاب.."، قاطعها يزن ليقول: "بس انا زعلان كتير لأنه كل اولاد صفي بيجي أبوهن بزورهن في المدرسة وأنا لاء".

رامي، الأب المحروم من الحياة مع لبنه وابنته، الزوج المغرم على البعد عن زوجته وحبّ حياته، ولِد في غزة أيامًا قليلة قبل أن يختارَ والداهُ الانتقال مِن غزةَ إلى مصر، ولم يُسجلا اسمَ طفليهما في سِجِل الولادات في مدينة غزة، وعبرا الحدود المصرية لتستقبلهما جدةُ رامي المصريةُ الجنسية المقيمة في مدينة حلوان، حيثُ استقرت العائلة هُناك.

رامي ورنا؛ اللقاء في غزة
بلهفةٍ لمعرفةِ التفاصيل، سألتُ رنا: كيفَ التقيتهِ؟! :"كنت في زيارة لأخوالي وخالاتي في غزة، في العام 2000، دُعينا لوجبة عشاءٍ في مطعمٍ بالمدينة، كان يعمل كنادلٍ في المطعم منذ ستة أشهر، يومها كان اللقاءُ برامي والحُب مِن أول نظرة. بعد سنةٍ اضطُر للعودة الى القاهرة حتى يُجدّد تأشيرة إقامته المصريّة، لكنه لم يَعُد بعدها إلى غزة. أخذ قلبي معه إلى حيثُ يُقيم في القاهرة، واستمرت العلاقة بيننا حتى العام 2005، كانت علاقة "هاتفية" ثم أصبحت "إنترنتية"، أبي وامي رفضا هذه العلاقة، بسبب ما قد يسببه جواز سفري مِن مآزق لا نهاية لها".

"كان لقاؤنا في غزة آخرُ لقاءٍ لي بأقاربي الذين يعيشون في غزة، بعدها أُغلقت الطريق تمامًا بين الفلسطينيين المشطورين المجزئين، واندلعت الانتفاضة، أما أنا ورامي فارتبطنا بوعدٍ قريبٍ باللقاء".

الزواج في القاهرة
"استمرت علاقتي به وزاد تعلّقي، وحاولتُ طوال الوقت إقناع أهلي بالزواج، لكنهم لم يقتنعوا أبدًا باحتمال أن أتزوجه وتستقرُ حالنا، وفي خطوةٍ لتسريع فكرة الزواج، سافرَ أحد أخوالي (المقيم في غزة) إلى القاهرة وهُناك التقى برامي وتحادثا أكثر وعرف تفاصيل عنه، فاقتنع به وبحبه وصدقه تجاهي، ثم هاتف أهلي وطلب منهم دعمَ هذا الزواج، بعدها سافر والداي إلى القاهرة، عام 2004، وأرسلَ رامي محبس الخطوبة مع أبي وأمي".

"واستمرَ اتصالنا الانترنتي والهاتفي، حتى قررنا إبرام عقد الزواج، قامَ رامي بتكليف تيسير خطيب (ابنُ خالتي)، وقد وصلت ورقة التوكيل بواسطة عائلة ميعاري، وتمّ تصديق (عقد الزواج) أو (كتب الكتاب) في المحكمة الشرعية وأقمتُ سهرة عرسٍ في أواخر شهر أيلول عام 2005، ثم سافرتُ إلى مصر، حيثُ أقيم احتفال جمعني برامي بوجود أشقائي ووالديْ في الأول من تشرين أول-أكتوبر، وتمّ التصديق عليه في مصر".

"كنتُ سعيدة جدًا بزواجي، وقضيتُ هناك ثمانية أشهر، حملتُ بيزن، لكنّ فترة الحمل كانت صعبة جدًا، فكنتُ تحت رقابة طبيبٍ خاص، والعلاج على حسابي، علمًا أنني أجهضتُ قبل أن أحمِل بيزن ووصلت التكاليف إلى 2500 شيكل. وكان كشف الفحص 200 جنيه (يقارب الـمائتي شيكل)، لكنني لم أكن أحظَ بتأمينٍ صحي، ولأنني أُعتبر أجنبية، كنتُ أدفع مئات الجنيهات، بينما يدفع زوجي والآخرين قروشًا بسيطة".

قسوة القاهرة وإفشال الهجرة
"لم أستطع ان اتأقلم في المجتمع المصري، فطوال الوقت كُنت مراقبة، كُنتُ أخشى أن يحاسبونني على هويتي المفروضة عليْ "إسرائيلية"، لم أكن اجرؤ على شراء كيس حليب، أو السير بمفردي، ولا يمكنني إيجاد عملٍ هناك، وحين كبر طفليْ وصارا بحاجة لمدرسة، كان عليّ ان اختارَ مدرسة وبيتًا دافئًا، وفي مصر لا يسمحون لأطفالي بالتعلم في المدارس العادية، بينما يُسمح لهم بالتوجه الى المدارس الخاصة، التي تُكلف آلاف الدولارات، ولا قدرة لي ولزوجي على دفعها، وهو الذي يحصل على أجرٍ لا بأس بِه نسبة إلى المعاشات هناك (3 آلاف جنيه)، لكنه يعمل (ورديتين وأكثر)، على اعتبار أنه مديرُ مطبخ مطعمٍ في مدينة نصر بالقاهرة".

"حتى فكرة السفر إلى الخارج فكرة لا يمكن تنفيذها، فهو لا يملك جواز سفرٍ وليس هُناك مِن معارف يمكن أن يكفلوا رامي، باختصار الأبواب جميعها مغلقة، فكرتُ بالهجرة الى أيةِ دولةٍ أجنبية، لأطلب اللجوء إليها واستدعي زوجي، لكنّ الامر سيتطلب أن انتظره كلاجئة لمدة سنة ونصف، ريتما تنتهي معاملات زوجي، فماذا سأفعل أنا مع أطفالي في بلدٍ أجنبي؟! لا لغة، ولا معارف، لا أعرف شيئًا هناك ولا يشبهونني بشيء".

"والفلسطيني في مصر كما في كل العالم، لا يملِكُ حقوقًا أسوةً بسائر البشر، في مصر سُمِح لرامي بالأكل والشرب، لكنه مُنع من فتح حسابٍ في البنك، مُنع من امتلاك شقة، مِن إقامة مشروعٍ باسمه، الا اذا كان له شريكٌ مصري، فكان الحلُ بالنسبة لكليْنا أن يأتي إلى وطنه، خاصةً أنّه بالأصل لاجئٌ ابنُ لاجئٍ مِن منطقة مجيدو".

"لا يملك جنسية"
"عُدتُ إلى البلاد وأنا حامل في الشهر الرابع، ومباشرةً اجريتُ اتصالاتٍ مع محامٍ مختص بقضايا لم الشمل، وفي تلك الفترة كان الحديث عن نجاح أحد المحامين بلم شملِ الزوجة السورية بزوجها الفلسطيني المقيم في البلاد، وبدأت المعاملات بانتظارِ دخول زوجي الفلسطيني، إلى البلاد، لكنّ الطرق ظلّت مسدودة، وكلما توجهنا الى الداخلية كانت هناك ادعاءاتٌ في مواجهتنا، فهو لا يملك "جنسية"، ليس فلسطيني الجنسية ولا مصري الجنسية، إنه ليس ليبيًا ولا أردنيًا، لا يملك سوى وثيقة سفر مصرية، تسمح له بالإقامة والعمل لا أكثر، لا حقوق تضمن بقاءه أو غيابه.

وحين فتش المحامون عن تفاصيل زوجي رامي في غزة، لم يظهر له أيُ وجود، فهو غير مُسجل كمواطن غزاوي، وتوجهنا إلى القُدس ، لتقديم طلب لم شمل، وبين تحركاتي هذه كانت ولادتي ليزن، وقد تلقينا رفضًا لطلبنا، ثم استأنفنا، وبعد عامٍ ونصف ايضًا لم رفض الطلب، حيثُ ادعت المحكمة أنّ زوجي كان في غزة في سن 12 عامًا، وهُناك ألقى بالحجارة على الجنود، ورغمّ أنّ ابنُ الثانية عشرة لا يُحاكَم، لكنّ القانون الاسرائيلي اعتبره مُخالِفًا للأمن".

"واصلت محاولاتي للم الشمل، فطلبوا مني "ورقة حُسن سلوك"، في مصر يسمونها "فيش وتشبيش"، بالإضافة إلى شهادة الميلاد وعقد الزواج لتوثيقها في السفارة الإسرائيلية بمصر، لكنّ السفارة الإسرائيلية رفضت استقبالي، لأنّ أوراق زوجي رامي فلسطينية، فقالوا مِن المستحيل أن يوضع الختم الإسرائيلي على أوراقٍ فلسطينية، فرجعتُ كما ذهبت".

أمل؟
"رغم الصعوبات التي مررتُ ولا زلتُ أمرُ بِها لكنني متفائلة، وسأظلُ أكافح حتى يأتي رامي إلى بيته في المكر، مُقيمًا بين أهله، فلسطينيَ الجنسيةِ سيكونُ بيننا، حتى لو كانَ بلا وثيقة إقامة. إنّ إصراري هذا ليسَ مجرد وهمٍ  أعيشُهُ بل إنهُ حُبًا مُعمِّرًا، ولّد طفليْن بريئيْن، لا ذنب لهم أن يولدوا بعيديْن عن حضنِ والدهما".

ندم؟
"تسألينني عن الندم؟! لم أندم على اختياري لرامي، لكنني نادمة على الخطوة نفسها، تلك الخطوة الصعبة التي وضعتني في موقعٍ لم أكُن أنتظره، وفتحت مواجِعَ لم أكُن أشعرُ بِها، وجعلتني أفهم ما معنى اللجوءِ والغُربة في بلادٍ تتباهى بالوحدة والمؤازرة. نعم تسرعْتُ، لكنّ الندم لم يعد ينفع، صار أمرًا واقعًا، لكنني سأبدو أقوى، مما هو بداخلي، يجب أن أكون قوية، أمام أطفالي على الأقل، حتى لا يفقدوا الأمل بلقاءِ والدهم يومًا ما، لا أريد أن أحكم عليهما بالشقاءِ بعيديْن عن أبيهما".

سألتها لماذا لم تكتفِ بيزن، قالت: "بعد ولادة يزن، قلت لن أنجب بعده، لكنّ غلطة أنجبت طفلتي الحلوة لجيْن، الحمد لله، إنها نعمة ليس بعدها، اليوم اعمل في مدرسة للتعليم الخاص، وأطفالي يذهبون إلى مدارسهم، لكنهم كل يومٍ يعبرون عن اشتياقهم لوالدهم، ولولا وقوف أهلي إلى جانبي ودعمهم المادي والمعنوي لما كنتُ لأقف على رجليْ، ويزداد ايماني بتحقيق المستحيل".

نصيحة وحسرة
"خلال مشاركتي في تظاهراتِ ضد قانون لم الشمل، التقيتُ بفتياتٍ بعضهن عبرن عن رغبتهن بالارتباط بشبانٍ مِن البلاد العربية، نصحتهن بالتفكير مليًا وعدم التسرع، أخاف عليهن أن يتحسرن على ما يجرين لهن مثلي، رغم اني أحب "رامي"، لكنني اندفعتُ ورأيتُ ما لا يراه الآخرون، رأيتُ بيتًا جميلاً، وأطفالاً يكبرون في أحضانِ والديهم، لكن الواقع جاءَ مختلفًا".

"أتصدقين أنّ رامي يشعر في كل مرةٍ ألقاهُ فيها، بالحسرةِ، وبأنهُ ظلم أولاده، وفي كل مرةٍ يقول لي إنني ظلمتك، تركتك تربين الأولاد لوحدك، لكن كلانا مظلومان في هذه الحياة القاسية، فقصتي هي الأصعب، وما يَسُهل تنفيذه في قصص لم الشمل الأخرى، بسبب القرب الجغرافي، يَصعُب علينا تنفيذه كونه لا يملك سوى تأشيرة دخول إلى بلدٍ ليسَ فيهِ وطنٌ
لأسرته الصغيرة!".

شوق، فرحة عيد وقانون جائر
وآخر ما قالته رنا قبل أن أودعها: "المعاناة في السفر مِن وإلى مصر ليست بسيطة أيضًا، لذا كان من الأسهل لقاؤه في طابا، لذا سيأتي رامي إلى وطنه، وكُلي إصرار على حقي بالحياةِ قُرب زوجي وبين أطفالي، إنها القسمة والنصيب التي جعلتني أرضى بالحياةِ ما بين البلاد ومصر، لكنّ الأصعب على أطفالي عندما يأتي العيد ولا يقبلون والدهم ولا يأخذون منه عيديتهم، ولا يشاركهم الفرحة، لكنهم أطفالٌ كِبار، يفهمون ما يجري، مِن تشريد وتشتيت للعائلة، بفعلِ قانون إسرائيل الجائر".

التقياه آخر  مرةٍ في نيسان الماضي، كما كُل عامٍ سافرت رنا بصحبة الأبناء لتلتقي زوجها رامي في طابا، أمضيا معًا فترة جميلة، احتضن الأب ولديه وشاركهما اللعب برفقة أمهما رنا، وعادوا دونه إلى البيت في قرية المكر، لكنّ شيئًا مِن الواقع لم يتغير، لا تزال العائلة مُجزأة، مشطورة بين بلديْن، وقلوب ملّت الانتظار. "كنت بدي اظل مع ابوي، بحب لما يقرأ لي قصة في كتابي، ويمسك ايدي وإيد لجيْن ونمشي مبسوطين"، قال يزن،  قاطعا=اه لجيْن: "بحب البابا كتير كتير، مع انو بيجيش بزورني، انا مشتقتله".

____________________________________________________________________________

قالوا عن تعديل قانون المواطنة العنصري

صادقت المحكمة العليا في قرارها الصادر 11.01.2012، على قانون المواطنة العنصري الذي يمنع الفلسطينيين مواطني إسرائيل من ممارسة حياتهم العائليّة في إسرائيل، في حال تزوجوا من فلسطينيين من سكان الأراضي المحتلّة أو مواطني الدول التي يعرفها القانون الإسرائيلي كـ “دول عدو”، وهي العراق وسورية ولبنان وإيران. المحكمة المؤلفة من 11 قاضيا صادقت على القانون بأغلبية ستة اصوات مقابل خمسة، وقال القضاة في حيثيات الحكم انهم «يعترفون بحق لم شمل الأسر الذي يتعلق باحترام حقوق الإنسان»، ولكنهم يعتبرون ان «هذا الحق يجب تقييده في إسرائيل».

النائب جمال زحالقة - رئيس كتلة التجمع الوطني الديمقراطي: "هذا القرار يتنافى مع الحق في إقامة العائلة، الذي اعترفت به كل القوانين والمواثيق الدولية، وحتى المحكمة في جنوب إفريقيا في عهد الأبرتهايد البائد. إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم، التي سنت مثل هذا القانون العنصري، الذي يستهدف المواطنين العرب الفلسطينيين دون غيره".

النائبة حنين زعبي - التجمع الوطني الديمقراطي: "المحكمة العليا، تشرع مبدأ يقول إن حق الفلسطيني هو خطر على الدولة، بهذا تغلق تقريبا المنافذ على روادع داخلية تكبح التدهور العنصري والفاشي في إسرائيل... بعد سلسلة من الأحكام الإشكالية والمتناقضة تماما مع حقوق الإنسان، تنضم المحكمة العليا بشكل رسمي إلى مؤسسات الدولة التي ترى في المصلحة القومية اليهودية أساسا وأولوية على كل شيء..”

المحامي زاهي نجيدات، الناطق الرسمي باسم الحركة الإسلامية: "هذا القرار يهدف إلى تشتيت لم شمل عائلاتنا في الداخل الفلسطيني، وهو يتماشى تماماً مع روح العنصرية التي باتت تنخر حتى النخاع في جسد الأفراد والمؤسسات الإسرائيلية".

النائب محمد بركة - رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة: "هذا القانون يفرض بشكل عنصري مقيت، مقاييس لحياة الفرد الشخصية، ويحرم الإنسان العربي من حق اختيار شريك حياته".

حسن جبارين وسوسن زهر من مركز “عدالة”: “هذا قانون لا يوجد له مثيل في أيّ دولة ديمقراطية في العالم، حيث يمنع هذا القانون المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل من حقهم في إقامة حياة عائلية في إسرائيل فقط بسبب قومية الزوج أو الزوجة. يثبت هذا القرار أن حقوق المواطنين العرب في إسرائيل آخذة بالتدهور بشكل خطير".
 


التعليقات