عروس البحر تذكر بيت النجّادة

دق كيّال المنزل الذي سكنته عائلة من أصل مغربيّ، وأدخلهم لرؤية المنزل، وصعد لتحضير بعض التضييفات، وعندما عاد كانوا قد غادروا مسرعين. سأل القاطنين في البيت عنهم قالوا إنهم مع رؤية الغرفة الأولى بكوا بشدة وهربوا، هربوا من الصورة، ومن الواقع.

عروس البحر تذكر بيت النجّادة

بيت النجّادة عام ١٩٤٨

في أواخر سنوات الثمانينيات، فوجئ مبدّا كيّال، مالك بيت النجّادة منذ العام 1986، عند مدخل البناية بعائلة تقف مرتجفة على باب الطابق الأول من البناية، والدموع تترقرق في مآقيهم.

بادر كيال إلى السؤال عن سبب وجودهم في المكان، وكان الجواب صاعقا. فالعائلة التي تقف على أبواب البيت هي صاحبة البيت الذي هُجّرت منه خلال نكبة فلسطين. وأكد أبناء العائلة ملكيتهم للبيت من خلال الوصف الدقيق لكل غرفة وكل جدار وكل ركن فيه.

 وتردد كيال في سؤال أبناء العائلة لماذا لم يطرقوا الباب ويدخلوا، إلا أنه سارعوا إلى الإجابة بأن السبب هو مزيج من خوفين: الأول الخوف من رؤية الواقع الذي سلب، والثاني هو الخوف من المستعمر.

دق كيّال المنزل الذي سكنته عائلة من أصل مغربيّ، وأدخلهم لرؤية المنزل، وصعد لتحضير بعض التضييفات، وعندما عاد كانوا قد غادروا مسرعين. سأل القاطنين في البيت عنهم قالوا إنهم مع رؤية الغرفة الأولى بكوا بشدة وهربوا، هربوا من الصورة، ومن الواقع الذي لم يقووا على تحمّله. 

إنه المضمون الفعليّ لبيت الشعر الذي كتبه الشاعر الحيفاوي، احمد دحبور: 'عرشت حيفا على الأجفان فيا جمل المحامل سر بنا، ومتى وصلنا، قل لنا: ابكوا. فبكوا.

في حيفا سينطق الحجر يوماً، وتشهد الجدران على ما حل بها وبساكنيها، فما زال بلاط المطبخ في وادي الصليب ينتظر، وشبابيك البيوت التي غطّت طبقات الغبار معالمها ستنطق بما شهدته من قصف وتشريد وأسرار واجتماعات ومقاومة، إلّا أن 'عروس البحر' ذاتها، إن نطقت فستذكر بيتاً واحداً في شارع صلاع الدين ارتبط مصيرها به، فدافع عنها، وعندما سقط بتاريخ ٢٢٤١٩٤٨، سقطت معه حيفا.

على الجانب الأيسر للطريق الرئيسي المؤدي إلى حيفا من بوابتها الشرقية، وتحديداً البناية رقم ٢٩ في شارع صلاح الدين، يتمركز مركز الإصلاح الأهلي لمدينة حيفا، وهو أكثر البيوت أهمية في المدينة قبل النكبة. وهو بيت مكوّن من ثلاثة طوابق وشرفة كبيرة على السطح تطل على البحر، وطريق لبنان، وكان يجلس فيه مختار المدينة وجاهات الصلح. 

كمنت أهمية مركز الإصلاح الأهلي- حيفا قبل النكبة، أنه كان عنواناً لشكاوى السكّان، ولتأهيل الأحياء العربية وترميمها، بالإضافة إلى أنه كان عنوان المتخاصمين، وديوانا لحل أزمات السكّان من مشاكلهم التقنية حتى الخلافات الداخلية بين العائلات، بالإضافة إلى أن وجهاء حيفا وقيادتها الاجتماعية والسياسية كانت تستقبل الوافدين من الأهالي فيه.

أمّا محيطه فكان عبارة عن سور يحيط المنزل على جانب الطريق، وبعض قصور أغنياء المنطقة والعرب، وكان منها قصر ملك الأردن السابق حينها، الملك عبد الله، الذي كان يستجّم فيه أيام الصيف نظراً لموقعه البحري والإستراتيجي، وقامت السلطات الاسرائيلية، لاحقا، بهدمه لبناء جسر جديد يوصل بين مدخل حيفا الشرقي ومنطقة الهادار، فبقي المركز وحيداً تحيطه الجسور والطرقات من كافة الاتجاهات.

لم يكتف مركز الإصلاح الأهلي بأن يكون في هذا القدر من الأهمية بالنسبة لمدينة حيفا قبل النكبة، بل أراد أن يكون منقذاً فتحوّل إبان عدوان العصابات الصهيونية على المدينة من مركز الإصلاح الأهلي إلى بيت النجّادة، والنجّادة هم القادمون بهدف النجدة، فقدّم البيت ذاته لنجّادة فلسطين والمقاومين العرب الوافدين بهدف الدفاع عنها، وتحوّل لبيتهم الذي يحميهم ويحمي المدينة. 

ثلاث معارك:

عندما ذكرنا سابقاً، أن حيفا ستشهد على سقوطه وليس العكس، لم يكن ذلك مجرّد تشبيه بعيد من الواقع، فالمصير كان واحداً للعروس وبيت نجدتها. فقد أدركت العصابات الصهيونية أن حيفا لن تسقط إلّا بسقوط بيت النجّادة، نظرا لموقعه الإستراتيجي وشرفته التي شكّلت مطلًا على طريق لبنان، طريق السلاح والمقاومين، وجدرانه التي كانت سداً يحمي المقاومين العرب وبعض القيادات، بالإضافة إلى العلاقة المتبادلة مع حي الحليصة، حيث شكّلت الحليصة حامية خلفية للبيت، وشكّل بدوره برج مراقبة ومركزاً لإمدادها بالسلاح جعل من سقوطه شرطاً لسقوط حيفا. 

المعركة الأولى:

شنّت العصابات الصهيونية، وتحديداً الكتيبة 22 من 'الهاجاناه'، هجومها الأول على بيت النجادّة بالمدفعيات من منطقة النبي شعلان، وسقطت قذائف 'المورتر'، التي أطلقتها الهاغاناة من تلال الكرمل على الحليصة. وبعد أن هاجمت الكتيبة 22 المنزل من منطقة الهادار، دافع عنه النجّادة وسكّان الحليصة، إلّا أن الهجوم المباغت والشرس كان أشرس ويزيد بكثير عن طاقة المقاومة على صده، وبالتالي تمكنت قوّات الهاغاناة من الاستيلاء على المنزل للمرة الأولى، وقتل الكثير من المقاومين فيه. 

المعركة الثانية:

فقدت المقاومة الفلسطينية مركزاً مهماً لها، وجسراً يربط ما بين البوابة الشرقية ومنطقة الهادار وقصر الخوري الذي كان بيت النجادة يمدّه بالسلاح، ونظراً لأهميته قرّرت القيادة العربية أن تهاجم المعتدين، الذين تمركزوا في البيت. فأغار المقاومون العرب على العصابات الصهيونية التي تمركزت في البيت، من بيوت الحليصة وشوارعها التي لم تسقط بعد، واستطاعوا استرجاعه وتحريره من جديد والتمركز فيه، وقتلوا أفراد العصابات الصهاينة الذين تمركزوا فيه، واستعاد العرب بذلك الموقع الإستراتيجي والطرقات المؤدية التي تربط الحليصة بباقي مناطق المقاومة. 

المعركة الثالثة:

خططت الحركة الصهيونية وقيادتها العسكرية، للاستيلاء على بيت النجّادة مرة أخرى لضمان سقوط المدينة، فدمجت بين خطة المقص 'مسبارايم'، ومعركة البيوت، وهدفت للاستيلاء على بيوت الحليصة. نصّت الخطة على احتلال البيوت العربية في الحليصة بيتا تلو الآخر ابتداء من البيت الأحمر الملاصق للحليصة من منطقة النبي شعلان حتى بيت النجادة، بهدف محاصرته وجعله وحيداً بعد سقوط الحليصة.

استطاعت العصابات الصهيونية الاستيلاء على البيوت في الحليصة بيتا تلو الآخر حتى أقرب بيت من بيت النجّادة، الذي ظل وحيداً في حي هجّر بأكمله، فدكّته بقذائف المدفعية والرصاص.

حاول المقاومون حمايته بكل ما ملكوا من قوة، حتى أغارت عليه صبيحة يوم ٢٢٤١٩٤٨، العصابات الصهيونية من كافة الاتجاهات، فقتلوا كل من كانوا فيه.

سقط بيت النجادة وسقطت حيفا. ولا يزال المبنى حتى يومنا هذا واقفاً يطل على البحر بشبابيكه وشرفته ويافطة كُتب عليها 'مركز الإصلاح الأهلي'.

البيت بعد النكبة: 

لم تكتف الحركة الصهيونية بالانتقام من السكّان الأصليين في البلاد بعد تهجير أهلهم، بل انتقمت من البيوت والشوارع والأحياء التي شكّلت مراكزاً مقاومة أثناء النكبة، وبيت النجّادة كغيره من البيوت أهمل.

تحول بيت النجادة إلى ملكية شركة 'عميدار'، التي تدير أملاك اللاجئين حتى العام 1993، ومن ثم حوّلته للبلدية التي أرادت أن يكون متحفاً تستذكر فيه القتلى من العصابات الصهيونية فيه، إلّا أنها تراجعت عن ذلك، وبقي البيت على ما هو. الطابق الثاني مهجور ومغلق بالإسمنت، أمّا الطابق الأول فاستولت عليه الحركة اليهودية وحوّلته إلى كنيس، والمركز ذاته وهو في الطابق الثالث، يسكنه مبدّا كيّال منذ العام 1986، ويرفض التخلي عنه وهجر تاريخه.

 

>> عودة إلى "ملف حيفا"

التعليقات