زراعة التبغ تزدهر من جديد في ترشيحا

ينقل المزارع خليل أبو حسان (65 عاما) من قرية ترشيحا بسيارته الخصوصية المتواضعة، محصول بضع دونمات مزروعة بالتبغ، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، إلى بيته لتجفيف التبغ، تمهيداً لاستهلاكها.

زراعة التبغ تزدهر من جديد في ترشيحا

هل تزدهر زراعة التبغ من جديد؟ ترشيحا كنموذج محلي

ينقل المزارع خليل أبو حسان (65 عاما)  من قرية ترشيحا بسيارته الخصوصية المتواضعة، محصول بضع دونمات مزروعة بالتبغ، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، إلى بيته  لتجفيف التبغ، تمهيداً لاستهلاكها.

ويقوم أبو حسان بزراعة التبغ في قسيمة الأرض التي ورثها عن والده، مؤكدا أن هذا النوع من الزراعة، زراعة التبغ، كان يميز ترشيحا عن غيرها من البلدات العربية في شمال أرض فلسطين التاريخية وقد اشتهرت به قبل عام النكبة 1948.

زراعة التبغ دخلت إلى فلسطين من لبنان في القرن التاسع عشر إلى صفد وترشيحا

تشير الوثائق التاريخية إلى أن التبغ عرف في فلسطين في عهد الدولة العثمانية، زمن السلطان أحمد الأول عام 1603م، وحظر السلطان مراد الرابع تدخينه في مدينة القدس في عام 1933م، فيما دخلت زراعة التبغ إلى فلسطين من لبنان في القرن التاسع عشر إلى صفد وترشيحا، حيث فرضت الدولة العثمانية ضريبة على زراعة التبغ مقدارها 25% من المحصول، تقدر عيناً، ويجوز دفعها نقداً.

واتخذت إدارة الرسوم في الدولة العثمانية إجراءات صارمة ضد المتهربين من دفع الضريبة، واشترطت حصول المزارع على رخصة، وعاقبت كل من يخالف ذلك، وقررت أن المساحة لزراعة التبغ يجب أن لا تقل عن دونم واحد.

وأصبحت زراعة التبغ في ذلك الوقت مصدراً مهماً من مصادر الرزق لعدد من الفلاحين الفلسطينيين.

في عام 1884م قامت الحكومة العثمانية بنقل احتكار الدخان إلى الشركة الفرنسية 'الريجي' لمدّة ثلاثين عامًا، وكانت إدارة 'الريجي' تدفع للحكومة العثمانية تعويضًا عن الامتياز بقيمة 750000 ليرة في السنة، سواء ربحت تجارتها، أم لم تربح.

لم تساعد شركة 'الريجي' على تقدّم زراعة التبغ في البلاد الخاضعة للدولة العثمانية، فلم تؤسس مصانع خاصة بتصنيع التبغ تُراعى فيها القواعد والتدابير الفنية. كما أنها كانت تتحامل على القرويين، وتتخذ إجراءات صارمة بحق كل مزارع يزرع التبغ بلا رخصة، فتفرض عليه دفع غرامة مالية عالية، فإذا ما رفض دفعها قدّمته للمحاكمة.

زراعة التبغ في عهد الانتداب البريطاني

حظي التبغ في عهد الانتداب البريطاني بعناية خاصة من دائرة الزراعة والمندوب السامي، الذي عمل جاهدًا على زيادة المساحة المزروعة به وتحسين وسائل إنتاجه؛ وذلك تجاوباً مع رغبة الاحتكار البريطاني العالمي للتبغ. وفي عام 1921م، ألغى المندوب السامي البريطاني في فلسطين امتياز شركة 'الريجي' لحصر الدخان والتنباك، وأباح زراعة التبغ وصنع السجائر والسيجار والسعوط.

ولكن حكومة فلسطين ما لبثت عام 1925 أن فرضت الرسوم على التبغ، وحظرت زراعته إلا بترخيص منها. وبشكل عام، ازدادت المساحات المزروعة بالتبغ في فلسطين منذ سنة 1921 وحتى سنة 1925، بصورة مطرّدة وملحوظة.

في الأول من أيار عام 1925م صدر قانون التبغ رقم 121 لسنة 1925 الذي يقضي بتعديل وتوحيد التشريعات المتعلقة بتنظيم زراعة التبغ وصنعه وبيعه وفرض الضرائب عليه؛ وخلال سنوات الثلاثينيات والأربعينيات، شجعت سلطات الانتداب البريطاني دخول التبغ الخام والسجائر إلى فلسطين، الأمر الذي أدى إلى أزمة زراعية وصناعية خانقة في قطاع التبغ العربي، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد اعترف تقرير دائرة الزراعة الحكومية لعامي 1945 و1946 بأثر سياسة الانتداب البريطانية في تدهور زراعة التبغ الفلسطينية، وأشار إلى أن عدم تقديم التسهيلات اللازمة للتصدير، وتكديس كميات كبيرة من الإنتاج، وإغراق الأسواق المحلية بالتبغ الأجنبي المصنع والخام، أدى كله إلى دخول زراعة التبغ الفلسطينية في أزمة خانقة.

ترشيحاوي أهدى بذور التبغ لأقاربه في يعبد لتجريب زراعتها فحقق نجاحا كبيرا

وتؤكد الوثائق التاريخية أنه في أعقاب النكبة عام 1948 سارعت إسرائيل إلى السيطرة على مؤسسات قطاع الإنتاج الفلسطيني، فكانت شركة التبغ في حيفا (شركة قرمان) إحدى هذه المؤسسات، والتي كانت تعدّ أكبر مصنع للتبغ في فلسطين وفي العالم العربي، والتي تأسست كشركة تعاونية مساهمة عام 1929، وكانت تستوعب إنتاج الفلاحين الفلسطينيين من مناطق الشمال في الجليل، وإنتاج قرى جنوب لبنان في منطقتي صيدا وصور، التي لم يكن أمامها من منفذ لتسويق أوراق نبات الدخان سوى بيعه في فلسطين لشركة التبغ الفلسطينية في حيفا.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن زراعة التبغ وصلت إلى بلدة يعبد خلال هذه الفترة على يد فريد درويش، من قرية ترشيحا، عندما أهدى بذورها لعدد من أقاربه من عائلة حمارشة، بهدف تجريب زراعتها في أراضيهم، وقد حققت نجاحات كبيرة، إلا أن زراعتها كانت للاستهلاك المحلي على مستوى ضيق ومساحات قليلة، بكميات غير تجارية.

وعملت الحكومة الأردنية بعد أن خضعت الضفة الغربية لحكمها، على تنظيم زراعة التبغ، ففرضت على المزارعين الحصول على الترخيص اللازم، ودفع الضرائب (250 فلسًا عن كل كغم) ومعاقبة المخالفين وفق ما نص عليه قانون التبغ رقم 32 لسنة 1952، والقانون المؤقت رقم (71) لسنة 1966 المعدل لقانون التبغ، وكان المزارعون يوردون إنتاجهم إلى شركتين في عمان.

في عامي 1966-1967م، بدأ مزارعو التبغ في الأراضي الفلسطينية، وتحديداً في  منطقة يعبد، بإنتاج كميات من التبغ الخام على مستوى تجاري، وبيعه لشركات السجائر.

وحسب الجمعية التعاونية الزراعية لزراعة التبغ في يعبد، قدر ما أنتجه المزارعون عام 1969 بحوالي 350 طنًا، تم بيعها وتصديرها لشركة 'القدس للسجائر' وشركة 'دوبك' الإسرائيلية بأسعار متدنية.

زراعة التبغ في عهد إسرائيل

منيت زراعة التبغ في فلسطين عموما منذ عام النكبة، بانتكاسة شديدة، شأنها شأن كافة المحاصيل الزراعية الفلسطينية، حيث أصيب سوق التبغ بحالة من الركود، لعدم اكتراث إسرائيل أو تحملها مسؤولية تنظيم زراعته وتسويقه لشركات السجائر المختلفة، ما أدى إلى تكدس المحصول في مخازن المزارعين لغاية عام 1970، وتهديد مصدر رزقهم ومعيشتهم، ما دفع بالمزارعين في تلك الفترة إلى ممارسة ضغوطات من خلال رفع قضايا قضائية، والقيام بنشاطات وتحركات على صعد مختلفة، فاضطرت إسرائيل إلى السماح لشركات السجائر باستلام إنتاج التبغ من المزارعين بواقع 200 طن سنوياً، وفق اتفاقية غير رسمية.

وأخذت دائرة الزراعة بإصدار تراخيص لمزارعي التبغ حسب حاجة شركات السجائر، إلا أن هذا الأمر لم يحدث نقلة في زراعة التبغ وبقيت تراوح مكانها.

في عام 1986 اتخذت السلطات الإسرائيلية قراراً بتعويم زراعة التبغ، وعدم الالتزام بتسويقه لشركات السجائر، فتكدس الإنتاج لدى المزارعين، ما دفع بهم إلى البحث عن أسواق جديدة لمحصولهم، فوجدوا ضالتهم في توسيع السوق، ليشمل مختلف مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل الخط الأخضر، بعد أن كانت تقتصر على محافظة جنين.

في أعقاب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فرضت إسرائيل طوقاً عسكرياً على الأراضي الفلسطينية، وارتفعت نسبة البطالة، وواكب ذلك ارتفاع في أسعار علب السجائر الجاهزة والمستوردة، ما دفع أعدادًا كبيرة من المدخنين إلى تدخين التبغ العربي المصنع محلياً، الأقل تكلفة.

تضييق على العرب لحملهم على بيع أراضيهم

يرى الترشيحاوي خليل أبو حسان أن 'هدف السلطات الإسرائيلية بالتضييق على المواطنين العرب ومحاصرة الزراعة العربية، زراعة التبغ مثلا في بلدتي ترشيحا، هدفها حمل المواطنين العرب ودفعهم إلى بيع أراضيهم لصالح اليهود إذا ما فشلوا بمصادرتها'.

ويقول أبو حسان لـ'عرب 48' إن 'زراعة التبغ في ترشيحا والمنطقة آخذة بالاندثار، لم يتبق في القرية سوى 4 – 5 مزارعين يزرعون التبغ في ما تبقى من أراضيهم بهدف الاستهلاك الشخصي والمحافظة على هذا التراث الترشيحاوي وحماية الأرض من السلب والمصادرة'.

ويتابع: 'اختفت زراعة التبغ منذ عام 1983 تقريبا من ترشيحا والمنطقة بسبب تفضيل السلطات الإسرائيلية استيراد التبغ من دول أجنبية على التبغ العربي بالبلاد، ومحاصرة المزارعين العرب وتيئييسهم بعدما كانوا يبيعون إنتاجهم المقدر بآلاف الأطنان من التبغ لشركتي 'دوبك' و'نلسون'، وللأسف نجحت سياسة التضييق السلطوية وعزف المزارعون العرب عن مهنتهم التي أحبوها وتوجهوا للعمل في مهن أخرى بهدف توفير لقمة العيش لأسرهم وعائلاتهم'.

ويشير أبو حسان إلى أن 'مساحة الأرض المزروعة بالتبغ في ترشيحا اليوم لا تتجاوز بضع دونمات، وللأسف ستندثر هذه الزراعة كليا من ترشيحا بعد مرور أعوام قليلة'.

وينظر الشاب نصري دكور إلى أن 'زراعة التبغ في ترشيحا هو تراث عربي أصيل يجب المحافظة عليه'.

ويقول لـ'عرب 48' إن 'ترشيحا كانت تملك قبل عام النكبة 1948 ما مساحته نحو 65 ألف دونم تقلصت بفعل سياسة سلب ونهب ومصادرة الأرض إلى 1400 دونما فقط، ومع ذلك أرى أن الأمل بالبقاء والصمود والمحافظة على ما تبقى لنا من أرض من خلال ذلك العربي الذي يتوجه باكرا إلى أرضه لزراعتها وفلاحتها ومنع مصادرتها'.

وأضاف: 'كما ترى تحيط المستوطنات بترشيحا وتزيد خنقها ومحاصرتها والتضييق عليها، ومع ذلك نحن هنا باقون على أرضنا، ولا زال عدد من المزارعين يزروعون التبغ في أرضهم للاكتفاء الذاتي والاستهلاك المحلي'.   

التعليقات