28/07/2018 - 12:22

أسطورة الشراكة العربية – اليهودية

شراكة من دون تنظيم قومي عربي حقيقي ليست شراكة، بل هروب من العجز وشعور بالدونية. وشراكة مع اليهود لا تؤسس لها شراكة فلسطينية – فلسطينية سابقة، ليست شراكة تحررية بل تهاون. وحصر الشراكة بيهود إسرائيل وبممولين يهود، هو قصر نظر

أسطورة الشراكة العربية – اليهودية

ترددت كثيرا في الكتابة عن أسطورة ما يسمى الشراكة العربية – اليهودية، خصوصا وأن هذا الموضوع صار من الماضي، بعد أن أثبت اليسار الإسرائيلي منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2000 بأنه ليس يسارا ولا شريكا نضاليا، وإنما "حالة أخلاقية" ليبرالية تسمي حالها يسارا، لكنها جزء من الوجود الاستعماري الصهيوني في فلسطين، وهكذا ترى نفسها، ويساريتها ليست إنسانية كونية، بل ماهيتها تحسين الصهيونية وصورتها، وليست يسارا عماليا يبحث عن نضال عمالي طبقي كوني. بل أن اليسار الإسرائيلي هو في لب النخب الصهيونية التقليدية التي يطاح بها في العقود الأخيرة.

لذا، ظننت للحظة أن أتناول هذه الأسطورة من منظور أنثروبولوجي، كون هناك أسطورة تقوم حولها طقوس شبه دينية قبلية، لكن دون إيمان حقيقي، ولكنها تجري لأن الكبار مارسوها، أي تحولت إلى طقس أو تراث بدلا من أن تكون ممارسة وفكرا نقديا. لكن الأدوات الأنثروبولوجية لم تسعفني، والأمر استدعى أدوات سيكولوجية وهي ليست بوسعي.

لكن ما سأظهره في ما يلي، هو كيف أن الشراكة العربية – اليهودية ليست مبدأ حقيقيا حتى لمن يتاجر بها، وأن هذه الشراكة قد تكون ممارسة رجعية.

يعود مفهوم الشراكة العربية – اليهودية، أو الأخوة، إلى ما قبل النكبة، عندما طرحت حركات سياسية صهيونية وعربية في فلسطين الانتدابية، النضال الطبقي العربي – اليهودي كبديل للصراع القومي، وأن يوجه هذا النضال العمالي المشترك ضد الاستعمار البريطاني وما سمي بالرجعية العربية، أي القيادات الفلسطينية التاريخية، وبدرجة أقل ضد المشروع الصهيوني.

وقد رفعت قوى يهودية عمالية هذا الشعار رغم أنها كانت مكونا أساسيا في الحركة الاستيطانية الصهيونية في فلسطين، وقتلت من العرب الفلسطينيين وهجرتهم ما أهّلها بجدارة أن تكون جزءا شرعيا من نظام حكم دولة إسرائيل. كما نادت بالنضال الطبقي دون أن تتنازل لحظة واحدة عن البناء الذاتي القومي، سواء في "الييشوف" أو "الكيبوتس" أو المدينة اليهودية، بل إن أحد أهم أسباب انتصارها في عام النكبة كان التنظيم القومي المتقدم. وشعاراتها العمالية لم تمنعها أن تمارس ممارسات "برجوازية" قومجية فاشية على أرض الواقع، وأبرزها التطهير العرقي للفلسطينيين. لم يسعف النضال الطبقي المشترك إبان النكبة إنقاذ البلاد من الصهيونية، بل أدى سقوط بعض الفلسطينيين لدرجة المشاركة في المجهود الحربي الصهيوني في 1948 بزعم محاربة الاستعمار والرجعية العربية. هذا هو السياق التاريخي.

في السبعينيات والثمانينيات، أي بعد النكسة، تراجع الحديث عن النضال الطبقي المشترك لصالح خطاب مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية. وانضمت إلى هذا الخطاب قوى يهودية من صميم النخب الصهيونية المهيمنة والتي هي ليست يسارية وعمالية بالضرورة، بل واجهت أزمة أخلاقية بالسيطرة على شعب آخر (تهجير 48 كان مقبولا بنظرها) بعدما تبدى لها أنها دولة طبيعية وشرعية. ووصل الأمر إلى أن قامت حركات سياسية عربية – يهودية، في مقدمتها جنرال إسرائيلي، تناضل من أجل إنهاء الاحتلال في الضفة وغزة، وإقامة دولة فلسطينية في إطار معاهدة سلام.

وفي التسعينيات وحتى مطلع الألفية، تعامل اليسار الإسرائيلي مع العرب ليس كشركاء متساوين بل كخزان أصوات لدعم حكومة رابين الضيقة ائتلافيا، مقابل فتات في الميزانيات. وقد وصل خطاب الأسرلة ذروته في أعقاب اتفاقية أوسلو، وبدا أن قطاعات عربية واسعة فضلت "اليسار الحقيقي الحاكم" مثل حزب "العمل" على "اليسار العربي المعارض" مثل الجبهة والقائمة التقدمية، واتجهت نحو الانضمام للأحزاب الصهيونية.

وفي أكتوبر 2000، حطم إيهود براك أسطورة التعاون أو الشراكة اليهودية – العربية، وأطلق عليها رصاصة الرحمة، وثبت حكم اليمين لسنوات قادمة، بعد أن أفقد "اليسار" الصهيوني خزان الأصوات العربية، "وفك الشراكة" مع العرب، الذين بدونهم لما تمكن من الوصول إلى الحكم.

إذًا، يبيّن هذا السرد المقتضب، أن الفكرة الأساسية للنضال العربي اليهودي المشترك، أي الطبقية، لم تعد موجودة أساسا، لكن البعض لا يزال يتمسك بهذا النضال، مثل من يصوم كل إثنين وخميس، لأنه شب على هذه الممارسة الطقسية ليس بسبب الإيمان أو بسبب تبرير عقلاني، بل كتقليد فقط.

وهذا الناسك المبدئي بالنضال العربي اليهودي المشترك، سيكون أول المعارضين له إذا ما كان مثلا بين متدينين عرب ويهود حول قانون الأحوال الشخصية، لتتحول "الأخوة اليهودية العربية" من قيمة سامية عليا إلى تحالف تكتيكي في قضايا عينية حول القاسم المشترك الأدنى (سيعتبر موقف المتدينين العرب تخلفا اجتماعيا وقمعا، أما موقف المتدينين اليهود سيعتبره تعددية أو نسبية ثقافية relativism). وبمجرد تحول الأمر من قيمة إلى تكتيك، فإن ذلك يعني انهيار الفكرة أو المشروع كله، لأنه تبيّن بأنه غير مبدئي بجد. أي مجرد تقليد، انتهازي ربما، أو نوستالجية، أو عجز أو شعور بالدونية القومية.

لم تعد "المبررات الطبقية" للنضال العربي اليهودي قائمة، وكذلك الشراكة الانتخابية مع حزب العمل وفلكه، أو النضال المشترك من أجل السلام. لم يتبق إلا الأهداف التكتيكية قصيرة المدى، مثل انتخابات بلدية في مدينة كبيرة، أو ضد قانون محدد، أو من أجل البيئة! (الوجود الاستيطاني أكبر ضرر للبيئة بحكم جوهره وممارسته).

إذا، ما الأفق المتاح؟ لكي يتحول النضال المشترك مع اليهود، غير الصهاينة، إلى عملي ومؤثر بدلا من طقوس أو حلقات علاج نفسي جماعي أو حلقات ذكر أخلاقية استعلائية؛ يجب الحديث عن كل اليهود، في إسرائيل وفي العالم. الشراكة الحقيقية ليست مع يهود إسرائيل الذين يحظون بامتيازات عرقية على حساب أهل الوطن الأصليين، وفي الحقيقة قلة قليلة منهم مستعدة للشراكة الندية مع العرب وتبني مشاريعهم ومواقفهم بدلا من فرض مواقفها هي على العرب وباستعلاء وبوصاية عنصرية.

التحالفات والائتلافات التكتيكية مع يهود إسرائيل مجربة لم تأت بمنفعة (تذكروا تشارلي بيتون ولاحقا تجربة "مدينة لنا جميعا" التي قادها دوف حنين ودفع لتحالف العرب واليسار مع ليكوديين في تل أبيب وفي الجامعات ولم تثمر شيئا جديا). لذا، المطلوب تحالفات إستراتيجية تكون جزءا من مشروع تحرري فلسطيني لمواجهة الصهيونية، أي ليست مشاريع جمعيات مدنية تحظى بتمويل يهودي أميركي، بل تحالفات لإسقاط الصهيونية في فلسطين، وسنجد من هم أكثر راديكالية منا، وممن يدعون إلى فرض عقوبات على إسرائيل، دولة ومجتمعا، على ممارساتها كدولة، وتأييدها كـ"مجتمع ديمقراطي" لتلك الممارسات.

شراكة من دون تنظيم قومي عربي حقيقي في إسرائيل ليست شراكة، بل هروب من العجز وشعور بالدونية. وشراكة مع اليهود لا تؤسس لها شراكة فلسطينية – فلسطينية سابقة، ليست شراكة تحررية بل تهاون. وحصر الشراكة بيهود إسرائيل وبممولين يهود، هو قصر نظر وتجارة.

التعليقات