22/09/2018 - 17:16

ناطور: إسرائيل استغلت وضعية القضاة الشرعيين لتمرير صفقات الوقف

المحاكم الشرعية امتداد لتاريخ عريق ومجال "أوتنومي" يجب صيانته | المفروض ان القاضي الشرعي ينوب عن المؤسسة الاسلامية في صيانة الأرض والعرض | قانون القومية أشبه بقانون العرق الذي سنته ألمانيا النازية

ناطور: إسرائيل استغلت وضعية القضاة الشرعيين لتمرير صفقات الوقف

القاضي أحمد ناطور

ب. ناطور: المحاكم الشرعية امتداد لتاريخ عريق ومجال "أوتنومي" يجب صيانته

المفروض ان القاضي الشرعي ينوب عن المؤسسة الإسلامية في صيانة الأرض والعرض

قانون القومية أشبه بقانون العرق الذي سنته ألمانيا النازية


يُعتبر جهاز المحاكم الشرعية والكنسية، أسوة بجهاز التعليم العربي، واحدًا من المؤسسات القليلة التي أبقت عليها إسرائيل بعد النكبة والتي يتمتع فيها العرب بنوع من "الأوتونوميا"، ومثلما يتعلمون بلغتهم، فإنّهم يتزوجون ويطلقون ويتقاضون في قضايا الأحوال الشخصية وفق معتقدهم الديني وأحكامهم الشرعيّة.

إلا أن الإبقاء على هذين الجهازين لمقتضيات الحاجة لم يمنع الدولة العبرية الناشئة على أنقاض الشعب الفلسطيني من إفراغ تلك المؤسستين من مضمونهما وإلحاقهما بشكل مباشر وغير مباشر بدوائر أمنها، إلى جانب بث الفساد في القيم الدينية/ الحقوقية والتربوية/ الأخلاقية القائمتين عليها، بصفتهما تعنيان بمجالين من أهم حقول الاختصاص في حياة المجتمع.

وقد تسنّى لها ذلك عن طريق تعيين مفتشين فاسدين وقضاة شرعيين مرتشين دمّروا سمعة المحكمة الشرعية، التي كانت أولى المحاكم التي تأسست في فلسطين، ومرّروا صفقات بيع أراضي الوقف الإسلامي من خلال قرارات وفتاوى "غير شرعية".

في هذا السياق، يصف رئيس محكمة الاستئناف الشرعية السابق، بروفيسور أحمد ناطور، عمليّة ضياع أراضي المقابر في يافا وفي البلد عامةً، بقوله "درج هؤلاء القضاة على القرار أولًا بأن الدفن في المقبرة انقطع، وأنها مهملة يتعذر الحفاظ عليها، فيقضى بحرثها وإزالة قبورها، ثم أنها بذلك صارت وقفًا يجري عليها ما يجري على الأرض العادية. بعدها، يأتي من يطلب تنصيب متولٍ عليها هو في العادة رئيس لجنة الأمناء المنصوبة من طرف الدولة، ينصّبه القاضي ويفوّضه بالتصرف كما يرى بالملك ثم تباع هذه الأرض ولا يدري أحد أين يذهب الثمن، مع أن من واجب القاضي محاسبة المتولي عما قبض وعما أنفق، لأنه صاحب الولاية، إلا أنّه لا يفعل في أي حال من الأحوال".

ويشير القاضي ناطور، في مقاله المنشور في مجلة الدراسات الفلسطينية، إلى توقيع القاضي زكي مدلج، الذي كان عيّن في سلك القضاء عام 1985، على صفقة مقبرة الاستقلال في حيفا لمصلحة شركة إسرائيلية، ثم أدّى به الأمر إلى عزله عن القضاء، بعد أن أدين بجملة من التهم الجنائية وحكم عليه بالحبس الموقوف من قبل محكمتي حيفا الصلح والمركزية.

القاضي ناطور، الذي عُيّن في ظروف سياسية استثنائية، رئيسًا لمحكمة الاستئناف الشرعية، قام بسلسلة إصلاحات بنيوية وقضائية، أبرزها نقل المحاكم الشرعية من وزارة الأديان إلى وزارة القضاء، وإصدار أحكام وفتاوى خاصة بصيانة الأوقاف وتحريم المس بالمقابر والمساجد.

وحول الوقف الإسلامي والمحاكم الشرعية والتحولات التي يشهدها الجهاز القضائي في إسرائيل، في ظل قانون القومية، كان هذا الحوار مع أستاذ القانون في الجامعة العبرية في القدس، بروفيسور أحمد ناطور:

عرب 48: المحكمة الشرعية التي نجت من النكبة لم تنج من ملحقاتها، حيث حوّلتها إسرائيل على مدى عقود إلى ختم مطّاطي لتمرير صفقات بيع الأوقاف الإسلامية، ودمّرت سمعتها القضائية وحولت قضاتها إلى مجرد موظفين صغار تابعين في وزارة الأديان، يتم تعيينهم اعتمادا على تبعيتهم للحزب المسيطر عليها، دون اشتراط أدنى ثقافة قضائية أو فقهية، هل لك أن تضيء لنا على تاريخ هذه المحكمة؟

ناطور: تعود جذور المحكمة الشرعية في فلسطين إلى الدولة العثمانية، وكانت تتمتع بصلاحيات رحبة، ففي عام 1839 قامت السلطات العثمانية بعملية إصلاحات قانونية واسعة استنادًا إلى الفرمان السلطاني الذي ضمنت فيه الدولة الحق في الملكية والحرية والمساواة في الدين والعمل والكرامة للجميع، في مختلف أوجه الحياة، وفي عام 1855 أعلن عن القانون التجاري، وفي عام 1858 أعلن عن القانون الجزائي وقانون الأراضي، وفي عام 1864 أقيمت المحاكم النظامية في كافة أرجاء الدولة العثمانية على ثلاث درجات، وهي المحاكم الجزائية والمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، وعام 1886 حددت صلاحياتها بالتقاضي بالأمور التجارية والمعاملات، بما يعني قضايا القانون المدني.

المحكمة الشرعية واصلت اختصاصها في قضايا الوقف والأحوال الشخصية والديّات والمواريث، وكجزء من عملية الإصلاح صدر في عام 1876 أن دين الدولة هو الإسلام، وصدرت مجلة الأحكام العدلية بعد أن تبيّنت ضرورة وضع أحكام تضبط المعاملات.

وقد استندت مجلة الأحكام العدلية إلى المذهب الحنفي لأنه كان مذهب السلطان، وشكّلت إلى جانب قانون حقوق العائلة الذي صدر عام 1917، الذي يعنى بحقوق الأسرة، وقانون أصول المحاكمات الشرعية، مراجعَ قانونية للمحكمة.

ما أردت قوله هو أن المحكمة الشرعية ليست منّة من أحد لا من الانتداب ولا من إسرائيل، وإنّما هي امتداد إسلامي من الدولة العثمانية.

عرب 48: من الواضح أنّ الانتداب البريطاني، ومِن بعده إسرائيل آثرا الإبقاء على هذه المحكمة، بعكس مؤسسات أخرى جرى تدميرها، خاصة من قبل إسرائيل؟

ناطور: الانتداب البريطاني قام بإعادة شرعنة قانون العائلة العثماني، فيما قامت إسرائيل بإصدار قانون "نُظم السلطة والقضاء"، الذي يقول إن القوانين التي كانت قائمة قبل الدولة تستمر مع التغييرات المطلوبة.

إسرائيل وجدت توازنًا قائما في نظام الملل، الذي أعطى "أوتونوميا" في قضايا الأحوال الشخصية، محاكم إسلامية، مسيحية ويهودية، تستمد صلاحياتها من "دستور فلسطين" مواد 52، 53 و54. وبعد أن شرّعوا قانونا خاصا بالمحاكم اليهودية، بقيت المحاكم الشرعية والكنسية فقط هي التي تستمدّ صلاحياتها من دستور فلسطين.

عرب 48: مسألة تعيين القضاة كانت الموضع الذي أمسك الانتداب البريطاني وإسرائيل منها هذه المحاكم، في محاولة للي عنقها، وإن كنا لم نشهد "مآثر" الانتداب البريطاني في هذا المجال، فإن آثار قرارات إسرائيل ما زالت ماثلة أمامنا؟

ناطور: في عام 1921، أعلن المندوب السامي البريطاني إقامة المجلس الإسلامي الأعلى الذي كان رئيسه الحاج أمين الحسيني وأنيطت به صيانة وإدارة المحاكم الشرعية وتنسيب القضاة، إضافة إلى بناء المساجد وصيانة المقابر وإدارة الأوقاف والمدارس الإسلامية، بمعنى أنه منح نوعًا من الإدارة الذاتية في الأمور الدينية، إلا أنّ الانتداب سحب صلاحيات هذا المجلس على خلفية أحداث ثورة 36، وأوكل صلاحياته لثلاثة قضاة، اثنين إنجليز وواحد مسلم، وهو الوضع الذي ظل عليه الحال حتى نكبة 1948.

إسرائيل أصدرت، بدورها، قانونَ أملاك الغائبين، الذي شمل الأوقاف الإسلامية عام 1950، وحوّلت المحاكم الشرعية إلى وزارة الأديان، حيث صار القضاة يعينون كموظفين بأجرٍ ضئيل، إلى حين صدور قانون المحاكم الدينية عام 1953، الذي صادق على أربع محاكم شرعية في يافا وعكا والناصرة وباقة الغربية.

عرب 48: إذا كان المجلس الإسلامي الأعلى مسحوب الصلاحيات عام 1948، بما فيها صلاحية الوصاية على أملاك الوقف الإسلامي، فكيف اعتبرت إسرائيل هذه الأملاك، أملاك غائبين بسبب غيابه وغياب رئيسه الحاج أمين الحسيني؟

هذا ليس وجه الغرابة الوحيد، فالأدهى من ذلك أن إلغاء المجلس الإسلامي الأعلى جرى فقط في عام 1961، عندما صدر قانون القضاة، حيث ورد في المادة 25 أن أوامر المندوب السامي منذ العام 1921 لاغية. وفي قضية نظرت بها العليا الإسرائيلية عام 1956، تحمل اسم "بولس ضد وزير الإنشاء والتعمير"، تضمنت الأرض التي أراد أن يبني فيها محجرا تابعة لوقف عكا، قالت المحكمة أن المتولي يستطيع أن يغيب، ولكن المحكمة ما زالت موجودة وهي تستطيع أن تقوم بتعيين متولٍ جديد بدل القديم.

عرب 48: تعني أنّه لو جرى التنبه لهذه الثغرة، وتعيين متولين جدد لتم استرجاع أملاك الوقف؟

نعم، ولكن إسرائيل سرعان ما تنبهت لذلك، وعملت على تعديل القانون والمفارقة أنّهم سمّوا هذا التعديل "تحرير الأوقاف"، حيث تنص المادة ذات العلاقة، على أن "الوقف أينما كان وقفٌ محررٌ من أي قيد أو شرط أو وثيقة أو دين"، وهو تعديل تم سريانه بأثر رجعي.

التعديل المذكور حول الأوقاف من أمانة بأيدي "القيّم على أملاك الغائبين" إلى ملك يستطيع التصرف به وبيعه بأثر رجعي، أيضًا، أي أن جميع الأوقاف التي جرى الاستيلاء عليها بأيدي الدولة صارت ملكا للقيم. من ناحية ثانية، قالت السلطات الإسرائيليّة نشكل لجان أمناء، ولكن من أناس يعتاشون على ريع الأوقاف، بمعنى أن الدولة تعطيهم في الغالب فتات الأموال التي تعود عليها من صفقات بيع الأوقاف.

عرب 48: ولكن هناك أوقاف نجت من قانون أملاك الغائبين؟

ناطور: نعم، الأوقاف التي لم تكن مسجلة باسم المجلس الإسلامي الأعلى، مثل "وقف الاستقلال" في حيفا، حيث يستطيع قاضٍ في المحكمة الشرعية تعيين متولي عليها.

عرب 48: قضاة المحاكم الشرعية أو بعضهم تورطوا بصفقات بيع أراضي الوقف؟

ناطور: يتضح من الأبحاث التي قمت بها أن المؤسسة استغلت في السنوات الأولى لقيام الدولة المحاكم الشرعية، بسوء نية، لخدمة المشروع الصهيوني. وقد قمت فور تولي منصبي كرئيس لمحكمة الاستئناف بإلغاء ونقض الفتاوي، التي كان هدفها الاستيلاء على الأرض، خاصة في الأماكن التي انفض من حولها المسلمين في القرى والمدن المهجرة.

وقد أكدت أن حرمة المقابر هي حرمة مؤبدة لا تزول ولا تزال، وأن حرمة المسجد، أرضه وصحنه وكل ما يتعلق به، لا يجوز استخدامه إلا للصلاة وأرضه مقدسة إلى أن تقوم الساعة.

عرب 48: سنتجاوز، لضيق المساحة، موضوع الإصلاحات الكبيرة التي أجريتها خلال توليك لمنصب رئيس محكمة الاستئناف الشرعية، والتي ساهمت بإعادة الاعتبار لجهاز المحاكم الشرعية في أكثر الفترات حرجًا، وهو إنجاز يضاف إلى رصيدك العملي والعلمي. وننتقل للسؤال عن رأيك في التحولات الجارية على مسار القضاء الإسرائيلي وتداعيات قانون القومية العنصري.

ناطور: منطلقي في ضرورة الإصلاح كان، أننا مسلمون أبناء البلاد ولسنا مهاجرين، وهم الذين هاجروا إلينا، ولذلك لا نقبل تشريعاتهم لأنها غريبة عن عقيدتنا وتراثنا، وثانيًا لأنه لا يوجد مؤسسات وهيئات إسلامية، لذلك ينبغي على القاضي الشرعي، أن ينوب عن الإمام في غياب دولة وسلطة إسلامية، بدرء المفاسد وجلب المنافع وحماية الناس الضعفاء والأيتام والأرض والعرض وغيرها من مصالح الناس.

وبالنسبة لسؤالك، فعندما كنا شبابًا ساذجين في كليات الحقوق كانوا يقولون لنا إن المحكمة العليا هي الحارس الأمين لحقوق الإنسان وحريته، والحقيقة أنني فقدت الثقة بهذا الجهاز ففي كل مرة يكون الحديث عن الأرض وعن العرب، يكاد لا يكون فرق بين القاضي وبين الشرطي وبين الوزير وبين العسكري.

المحكمة العليا كان لديها مبدأ جرى استيراده من أميركا، يقول إن مسألة معينة ما تزال فجة، في قرار Abott vs. Gardner، بمعنى أنها غير ناضجة، وهو مبدأ استعملته المحكمة المذكورة للتهرب والتصدي للبت في مسائل حرجة بالنسبة لهم، كحفظ الحريات وتصرفات الجيش والمخابرات، بعد أن "فتح " القاضي شمغار أبوابها أمام قضايا يتقدم بها أبناء الأرض المحتلة عام 67، بشأن تعسف الجيش أو إدارته المدنية، ففي قضية "صلاحات"، المتعلقة بالتعذيب، قالت المحكمة إن المسألة غير ناضجة للقضاء، بمعنى بعد أن يعذبوك تعال وقل لنا ماذا فعلوا بك في الزنازين، وكذلك في قضية "هس" وأمور أخرى.

أما المبدأ الآخر، فهو التمييز بين المساواة الشكلية والمساواة الجوهرية، فعندما طلبت "عدالة" مساواة المسلمين باليهود في الميزانيات، صدر قرار من المحكمة يتحدث عن مساواة شكلية، تلك المحكمة هي التي ردت الالتماس لإلغاء لم شمل العائلات الفلسطينية، وأقرت إجراء قانون أملاك الغائبين على القدس والمصادقة على هدم بيوت الفلسطينيين وعدم هدم بيوت الإرهابيين اليهود، وهي التي صادقت على منع الأسرى الفلسطينيين من التعليم العالي وعلى تجريم الداعين إلى مقاطعة منتجات المستوطنات، وهي التي أصدرت في أسبوع واحد قرارًا بهدم ام الحيران وقرية سوسيا، وصادقت على مسيرة مظاهرة أعلام المستوطنين في القدس.

عرب 48: وهل سيغير قانون القومية شيئًا من هذا الواقع السيئ؟

ناطور: بالطبع، فالقرار الصادر هذا الأسبوع عن القاضي دروري هو أول ترجمة عملية لهذا القانون، حيث يوظفه في حماية اليهود فقط، ولكن الأهم هو أن القانون ينكر حق تقرير المصير للفلسطينيين في أرض فلسطين، من النهر إلى البحر ويخرج الفلسطينيين في الداخل من سياق المواطنة، ويسخّر موارد البلاد لخدمة اليهود فقط، هذا الوضع يذكر بصعود النازية في الثلاثينات من القرن الماضي، وهذا القانون يشبه كثيرا قانون المواطنة الألماني الذي صدر عام 1933، والذي يعتمد نظرية العرق Race Theory، أي أن القضية ليست قضية تمييز Discrimination أو عزل Segregation ، كما يصفه البعض وإنما هي قضية تفوق العرق على سائر الأعراق وهذا أمر يؤذن بشر مستطير.

لذلك، فإن على العالم التنبه لما يجري هنا قبل فوات الأوان.

إن المطلب ليس المساواة، كما ينادي البعض، لأننا لسنا أقلية كالروس أو كالأثيوبيين نريد حقوقا متساوية، بل إن حقنا غالب على حق القادمين، لأننا الأصليون هنا، لذا فالمطلوب العمل على الاعتراف بنا كأقلية قومية أصلانية.

وكنت سأقول شيئًا عن قيادات الداخل والخارج، فالمرحلة غاية في الخطورة ولا تسمح بالتنافس الرخيص على الأدوار، والله وعباده لن يسامحوا من يقصر في حقهم إلا أن المكان هنا لا يتسع.


القاضي بروفيسور أحمد الناطور: أستاذ وعضو الهيئة التدريسية في كلية الحقوق – الجامعة العبرية، رئيس محكمة الاستئناف الشرعية العليا سابقا، رئيس المركز القطري للوساطة والتحكيم في البلاد.

التعليقات