72 عاما على النكبة: صمود رجال "الضبع الأسود" (29/1)

خلال الحديث تدخل الصاغ جمال عبد الناصر وقال جملة واحدة، ردًّا على ألون عندما تكلم عن الوضع الصعب للمحاصرين في الفالوجة "وضعنا ليس صعبًا إلى الحدّ الذي تصفه، وليس كما تعتقد"،

72 عاما على النكبة: صمود رجال

عبد الناصر في الفالوجة (إلى اليسار)

قصة حصار الفلوجة 1948-1949

"مؤتمر الفالوجة أمر الانسحاب إلى الخليل، المعارضة فيه أمر بإلغاء الانسحاب... طُلب القائد إلى مؤتمر في الفالوجة فذهبت معه... واجتمعنا مع السيد طه وأركان حربه، وأحمد توفيق وأركان حربه، وحسين كامل وأركان حربه... وتكلمنا في أمر الانسحاب. الأمر سينفذ الساعة 18:30، وكان أمرًا إنذاريًا فقط. كلفني السيد بك بكتابة أمر الانسحاب، بعد أن اختلف مع أحمد توفيق على طريق انسحاب كتيبته... جهزت أمر الانسحاب مع الفسخاني... صدر أمر بإلغاء أمر الانسحاب... وأن الحالة ستتحسن، وأن أمر القتال سيصدر في مصلحتنا.

عندما صدر الأمر بالانسحاب انتابتني أفكار عدة... فإن انسحابنا سيعرض جميع السكان التي من عراق سويدان إلى بيت جبرين إلى التشرد، أو الوقوع في قبضة اليهود.

تصوّرت منظر الأطفال والنساء والعائلات عند انسحابنا، وكيف سيحتل اليهود عراق المنشية والفالوجة إلخ، وكيف إذا استمرت الحرب سنحاول استعادة هذه البلاد التي حصّنّاها.

عراق المنشية مثلا، التي وقفت أمام دبابات العدو وجموعه، كل ذلك سيستولي عليه اليهود، وسيكون من العسير بل من المحال استرجاعها.

ومن ناحية أخرى فإنّ وجود ثلاث كتائب، ومعها أسلحة مساعدة في هذا الوضع يدعو إلى التفكير. لقد كان وجودنا فصلُ الشمال عن الجنوب والآن اتصل الشمال بالجنوب.

ووجود هذا اللواء في الخليل يمكن أن يغير من مجرى الأمور هناك".

هكذا وصف الصاغ (الرائد) جمال عبد الناصر رئيس أركان الكتيبة السادسة المصرية، والتي كانت ضمن الكتائب الثلاثة المحاصرة في الفالوجة والتي ذكرها في النص أعلاه من دفتر يومياته خلال الحرب في فلسطين، أحداث يوم 21 تشرين أول/أكتوبر 1948، بعد ستة أيّام من بدء الهجوم الصهيوني على القوات المصرية في النقب، في ما سمّيت بحملة "يوآڤ" (انظر / ي الحلقات 26/1 حتى 26/4 بعنوان "الحملات الصهيونية الأخيرة لكسب الحرب"). كانت الحملة العسكرية الصهيونية في ذلك اليوم على وشك الانتهاء، حيث أن مجلس الأمن كان قد أصدر قراره بوقف إطلاق النار في معارك النقب بدءًا من اليوم التالي، أي يوم 22 تشرين أول/أكتوبر 1948 عند الساعة الثالثة بعد الظهر. كان الجيش المصري قد مني بخسائر فادحة، حيث انقسم إلى ثلاثة أجزاء رئيسية معرّضة كلها للخطر: الجزء الغربي في المجدل وأسدود بعد سقوط بيت حانون، والجزء الشرقي في الخليل ومنطقة القدس، والجزء المركزي المتواجد في ما سمي بجيب الفلوجة والذي يتكون من عراق سويدان وعراق المنشية والفالوجة.

ويظهر من وصف جمال عبد الناصر ثلاثة أمور أساسية، الأول هو حجم الارتباك عند قيادة الجيش المصري بعد تلقيها ضربة قوية خلال حملة "يوآڤ"، حيث صدر أمر بالانسحاب من الفالوجة، ثم ألغي الأمر في نفس اليوم، رغم أنه وضع الخطة بالتعاون مع الضابط رزق الله الفسخاني؛ أمّا الشيء الثاني فهو مدى التحام الجنود المصريين بعد أشهر من القتال مع أهالي البلاد الفلسطينيين، فأصبح عبد الناصر يرى أن الانسحاب سيؤدي إلى وقوع سكان القرى التي تتواجد فيها الكتائب المحاصرة في براثن الجيش الصهيوني، ومن المؤكد أن جيش الاحتلال لن يرحمهم، وربما يكون مصيرهم سيّئًا كمصير غيرهم من القرى الأخرى التي احتلت؛ كذلك يرى عبد الناصر أن استرجاع هذه القرى من الجيش الصهيوني بعد تنفيذ الانسحاب، هو أمر "عسير بل محال"، وهذا يعني أنّ قيادة الجيش المصري صارت تقر بضعفهم في مواجهة عدوهم الصهيوني الشرس.

هذه الأمور التي ذكرها البكباشي جمال عبد الناصر تؤكد أن الصمود في الفالوجة كان أسطوريًا بجدارة، فالصمود واجبٌ للمحافظة على القرى الفلسطينية وسكانها، حتى وإن كانت القيادة العسكرية والسياسية ضعيفة لا تمتلك الرؤيا السليمة من أجل تخليص المحاصرين في الفالوجة، ورغم ضعف الجيش المصري بشكل عام ونقص أسلحته وذخيرته، مقابل الترسانة العسكرية الصهيونية التي تتعاظم يومًا بعد يوم.

بدء حصار الفالوجة

كانت خطة حملة "يوآڤ" ترمي إلى تقطيع أوصال الجيش المصري في فلسطين، ومن ثم الاستفراد بكل قسم والقضاء عليه. أمّا القسم المركزي فكان القسم الذي تسيطر عليه قوات الفالوجة، حيث أنّ هذه القوات تقف في عرض النقب الشمالي، وتقطع التواصل بين المستعمرات الصهيونية الموجودة شمال خط الفالوجة- عراق المنشية-عراق سويدان-بيت جبرين، وتلك الموجودة جنوب هذا الخط. ولذلك تركزت الخطة على محاولة تطويق قوات الفالوجة من الخلف بعد أنْ تُحدث القوات الصهيونية خرقًا في الناحية الغربية لقوات الفالوجة. وبعد ذلك تنزل القوات الصهيونية جنوبًا ثم تقوم بمهاجمة مجموعة الجيش الرئيسية على خط الساحل المجدل - أسدود - غزة من الخلف وتقضي عليها. وبذلك لا تبقى للقوات الصهيونية إلا قوات المتطوعين في المنطقة الواقعة شرق بيت جبرين، وهذه لن تشكل عائقًا أمام هذه القوات بعد القضاء على الجيش المصري نفسه (لمزيد من التفاصيل انظر/ي للحلقات 26/1 حتى 26/4).

بعد أسبوع واحد من المعارك الضارية، التي بدأت في 15 تشرين أول/أكتوبر 1948، تحققت الخطة الصهيونية، وأصبح وضع الجيش المصري حرجًا وصعبًا، إذ استطاع لواء "يفتاح" أن يُحدث ثغرة في خطوط الجيش المصري غرب الفالوجة، وذلك باحتلال بيت حانون، وبذلك أغلق الطريق على القوات المصرية من المجدل إلى غزة. أما لواء "غڤعاتي" فاستطاع أن يدق إسفينه شرقي عراق المنشية في الطريق المؤدية من المجدل إلى بيت جبرين، وبذلك عُزلت قوات المتطوعين المتواجدة شرقي بيت جبرين. ثم أتبع ذلك احتلالُ تقاطع طرق المجدل-بيت جبرين-عراق سويدان بعد معارك ضارية، ففتحت الطريق أمام القوات الصهيونية إلى مستعمرات النقب المحاصرة. وفي نهاية الحملة قام لواء "هنيغيف" باحتلال مدينة بئر السبع وإغلاق الطريق بينها وبين الخليل.

توقف إطلاق النار رسميًا، وأصبحت القوات المصرية في الفالوجة محاصرة تمامًا، حيث لا يمكنها الانسحاب إلى الخلف نحو المجدل أو إلى الامام باتجاه الخليل أو حتى جنوبًا باتجاه بئر السبع. كانت هذه القوات مؤلفة من لواء مصري كامل وهو اللواء الرابع، يقوده الأميرالاي (العميد) السيد محمود طه، وكان رئيس أركان اللواء هو الصاغ (الرائد) زكريا محيي الدين، وقد سمي هذا اللواء في ما بعد بلواء الفالوجة، وكان يضم ثلاث كتائب مشاة عدد كل كتيبة حوالي 1200 جندي، وهذه الكتائب هي الكتيبة الأولى والثانية والسادسة.

أمّا الضباط المصريون المحاصرون في الفالوجة وعراق المنشية فهم: الصاغ جمال عبد الناصر، واليوزباشي (نقيب) صلاح سالم، والقائمقام (عقيد) عزيز حيدر، والقائمقام مفيد رزق الله، والقائمقام أحمد توفيق (كان في بيت عفة)، والأميرالاي حسين كامل (كان في عراق المنشية)، واليوزباشي أمين أحمد، والصاغ غالي مسيحة، واليوزباشي محمود كشك، واليوزباشي محمود الملامي، واليوزباشي صلاح بدر (كان في مركز شرطة عراق سويدان)، واليوزباشي إسماعيل فريد، واليوزباشي إبراهيم البغدادي، واليوزباشي محيي الدين أبو العز، والبكباشي محمد احمد عفيفي، واليوزباشي أحمد لطفي واكد، والصاغ ياسين الحمزاوي، واليوزباشي حسن تهامي، واليوزباشي محمد وحيد الدين، والملازم أول مصطفى حافظ، والملازم أول شمس الدين بدران، وهو المرافق للقائد العام للواء الفالوجة، الأميرالاي سيد محمود طه بك.

تضييق الخناق على جيب الفالوجة

رغم وقف إطلاق النار، استمرت القوات الصهيونية في احتلال مواقع جديدة وتوسيع سيطرتها على النقب، وبالتالي تضييق الخناق على المحاصرين في الفلوجة. أمّا الكتيبة المصرية المحاصرة عند المجدل وأسدود فقد بدأن بالانسحاب نحو غزة، من خلال طريق صنعتها وحدات الهندسة المصرية والتي وضعت شبكات معدنية على طول شاطئ البحر، وبذلك تمكنت الوحدات المصرية من الانسحاب ليلًا على مدار أسبوعين بدءًا من ليلة 26-27 تشرين أول/أكتوبر 1948، وعلى أثر هذا الانسحاب قامت وحدات صهيونية باحتلال أسدود في 28 تشرين أول/أكتوبر، واحتلال المجدل في 4-5 تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948.

أمّا شرقي الفالوجة، فقامت وحدات من لواءي "غيفعاتي" و"شموني" خلال 22-24 تشرين أول/أكتوبر باحتلال القرى: كدنا، ورعنا، وذكرين، وعجور، وزكريا. التي تقع جميعها شمال بيت جبرين، ما ضيّق الحصار على جيب الفلوجة.

واستمرت الاحتلالات بسبب الفراغ الذي تركه الجيش المصري. ففي 27 تشرين أول/أكتوبر 1948 قامت الكتيبة التاسعة المدرعة من لواء "شموني" باحتلال بيت جبرين نفسها، وذلك بعد سقوط مركز الشرطة، والذي استطاع أن يصمد أمام هجومين سابقين للواء "غيفعاتي" خلال يومي 25-26 تشرين أول/أكتوبر، ولكن هذه الهجمات أدت إلى انسحاب القوات المصرية والسودانية من المكان، لتدخله الكتيبة التاسعة بدون مقاومة تقريبًا، رغم أنّها تعرّضت بعدها لهجوم قصير وفاشل من مدرعات الجيش الأردني، رغم تكبيده الجيش الصهيوني خسائر في الأرواح والمعدّات. بعد هذه المعركة أغلقت الطريق نهائيًا على انسحاب مستقبلي للواء الفالوجة نحو مدينة الخليل. في اليوم التالي، احتلت نفس الكتيبة قرية القبيبة وأحد المخافر المصرية القريبة منها، وكانت هذه القرية هي الملاذ الأخير من أجل انسحاب القوات المصرية من الفالوجة، حتى أنّ قيادة الجيش المصري توجهت للواء الفالوجة بسؤال إذا كان بإمكانهم الانسحاب منها، أي القبيبة، إلا أنّ السيد طه أبلغهم بعدم إمكانية تنفيذ ذلك، خوفًا على تعرض القوة لهجوم صهيوني من شأنه القضاء عليها.

أمّا الطامة الكبرى بالنسبة للقوة المصرية في الفالوجة، فهي احتلال مركز شرطة عراق سويدان بعد معركة ضارية، ومن ثم سقوط قرية عراق سويدان بيد القوات الصهيونية في التاسع من تشرين ثانٍ / نوفمبر 1948 (لمزيد من التفاصيل انظر /ي الحلقة 28/3 بعنوان "صمود رجال القلعة").

في اليوم التالي، أرسلت القوات المصرية في فلسطين هذه الرسالة إلى رئاسة القوات المسلحة: "العدو احتلّ مركز عراق سويدان، بعد دفاع مجيد من حاميتها التي مات معظمها وتهدمت معظم مبانيها، انسحبت بيت عفة وبلدة عراق سويدان وكراتيا إلى الفالوجة، أصبحنا نحتل الفالوجة وعراق المنشية. الخسائر في الأفراد والأسلحة والمهمات لا يمكن حصرها الآن لكثرتها"، وبذلك أصبح طول جيب الفالوجة من الشرق إلى الغرب حوالي ستة ونصف كيلومتر، ومن الشمال إلى الجنوب أربعة كيلومترات، وفيه من الجنود المصريين حوالي أربعة آلاف، ومن السكان الفلسطينيين ستة آلاف أو أكثر، وأمامهم مصير مجهول وهم في مواجهة جيش قوي مدجج بالأسلحة ولا يتورع عن فعل أي شيء من أجل أن يصل إلى هدفه في إخضاع الجيش المصري.

الصهاينة يريدون التفاوض من أجل استسلام الفالوجة

أخبار انسحاب الجيش المصري من المجدل إلى غزة، كانت قد وصلت إلى رجال الفالوجة. وبعد الانسحاب بثلاثة أيام سقط مركز شرطة عراق سويدان، بعد أن صمد أمام سبع هجمات سابقة، قبل أن يقوم اللواء "شموني" المدرّع باحتلاله بعد معركة شرسة، وهذا أدّى إلى انسحاب الكتيبة الثانية المصرية من قرية عراق سويدان بعد احتلالها إلى عراق المنشية بشكل غير منتظم. في فجر اليوم التالي، أي 10 تشرين ثانٍ/نوفمبر، أسقطت الطائرات الصهيونية منشورات تقول إنّ مركز عراق سويدان سقط، وتطالب المصريين بالاستسلام. في نفس اليوم أرسل قائد لواء الفالوجة الأميرالاي سيد محمود طه، إلى قيادة الجيش المصري يطالب فيها بتوفير قوّة تدافع عنه في حال قرر الانسحاب، وقال إنّ معنويات الجنود المصريين أصبحت في أدنى مستوى لها منذ بداية المعارك. وأشار كذلك إلى نفاد الطعام، ولذلك يقوم الجنود المحاصرون بالتقاط النباتات من الطبيعة وبطبخها طعامًا لأنفسهم. جاءت الإجابة القاطعة من القيادة العسكرية المصرية بأن "الاستسلام أمر لا يمكن التفكير به، ويجب القتال حتى الطلقة الأخيرة".

في الساعة 15:00 من نفس اليوم وصلت مصفحة صهيونية من جهة الشرق إلى عراق المنشية وعليها علم أبيض وطلب الضابط اليهودي الموجود في المصفحة بتحديد موعد يتقابل فيه قائد لواء الفالوجة الأميرالاي سيد محمود طه بيغآل ألون، قائد المنطقة الجنوبية للجيش الصهيوني.

خرج الضابط جمال عبد الناصر إليه، كان هذا الجندي الصهيوني هو يروحام كوهين، رجل المخابرات الصهيونية، الذي اتفق مع عبد الناصر على اللقاء في اليوم التالي في الساعة العاشرة صباحًا ليبلغه عبد الناصر عن رد الأميرالاي سيد طه بهذا الشأن. كان يروحام كوهن، ومن أجل كسب ثقة عبد الناصر، يحمل معه رسالتين من اليوزباشي صلاح بدر قائد حصن عراق سويدان، واحدة لوالدته وواحدة وزوجته ويقول في الرسالتين أنه في الأسر وهو بحالة جيدة. وعلى أثر هذا اللقاء والاتفاق على لقاء بين القادة، توقفت المدافع الصهيونية عن قصف الفالوجة وعراق المنشية.

في العاشرة صباحًا من اليوم التالي، تقابل عبد الناصر مع يروحام كوهين وأبلغه بموافقة السيد طه على لقاء ألون، واتفقا على أن يكون اللقاء بين الساعة 15:00 والساعة 16:00 من نفس اليوم. كوهين عرض على عبد الناصر أن يتم اللقاء في بيت جبرين أو مستعمرة غات، حيث أن قائده ألون يرغب في تناول فنجان شاي مع السيد طه، واتفقا في النهاية أن يتقابلا في منتصف الطريق إلى مستعمرة غات عند الساعة 15:15. وكان عبد الناصر يرفض، بشكل قاطع، اللقاء في بيت جبرين والتي احتلت قبل عدة أيام من قبل الجيش الصهيوني.

لقاء بين القائد الصهيوني والقائد المصري

جرى اللقاء المنتظر بالفعل في مستعمرة غات في الساعة المتفق عليها، وقد حضر الاجتماع من الجانب المصري القائد السيد محمود طه، والضابط جمال عبد الناصر، والضابط رزق الله الفسخاني، والضابط إبراهيم البغدادي، والضابط خليل إبراهيم. أمّا من الجانب الصهيوني فتواجد في اللقاء ألون، قائد المنطقة الجنوبية للجيش الصهيوني، ويتسحاك رابين مسؤول العمليات في المنطقة الجنوبية، والضابط عاموس حوريف، والضابط زروبابال أربيل، والضابط حانا ديشا، والضابط نتان شاحام، وضابط المخابرات يروحام كوهين.

كانت التضييفات عبارة عن: برتقال، وعصير برتقال، وساندويشات وشوكولاتة و"ملبّس" وبسكويت و"بتي فور"، كما وصف ذلك عبد الناصر في دفتر يومياته.

جلس ألون على رأس الطاولة، مقابلًا للسيد طه بك، وجلس الوفدان متقابلين على جانبي الطاولة. حاول ألون أن يطلب من السيد طه أن يتحدثا على انفراد، ولكن هذا رفض وأصرّ على حضور أركان حربه خلال الحديث. عندها قام ألون بالترحيب بالحضور باللغة العربية التي يتقنها، ولكن الأميرالاي طه رفض إلا أن يتم الحديث باللغة الإنجليزية، والتي لا يتقنها ألون، ولذلك تقرر أن يكون الضابط يروحام كوهين مترجمًا.

افتتح ألون حديثه بالإطراء على شجاعة مقاتلي مركز شرطة عراق سويدان، وبسالتهم في ميدان الحرب، وتكبيدهم القوات الصهيونية خسائر فادحة عندما حاولت هذه احتلال المركز أكثر من مرة. بعدها حاول أن يشرح للسيد طه وأركان حربه بأنّ موقف الجنود المحاصرين في الفالوجة هو وضع صعب جدًا، وليست هناك إمكانية لتوفير الإمدادات لهم من قبل قيادة الجيش المصري، وفي نفس الوقت طريقهم للانسحاب مغلقة ومطوقة من كل الجهات. وصار يتكلم عن أن الحرب بعيدة عن الديار المصرية، وهذا لأن المصريين هم المعتدون على اليهود، ويحتلون الآن أجزاءً من أرضهم، أي اليهود.

السيد طه بدوره أجاب بشكل قاطع "سأقاتل ما دامت حكومة مصر تطلب مني ذلك، ولإن طلبت مني لأن أعقد سلامًا فسأفعل"، عندها صار ألون يشرح بإسهاب أنّ الوضع في الجبهة قد حسم لصالح الصهاينة، وأنه سيعمل على تصفية لواء الفالوجة متى استطاع ذلك، وأن مصير ما تبقى من جيب الفالوجة بعد احتلال مركز عراق سويدان، سيكون مثل مصير نصفه الشرقي، أي بلدة عراق سويدان وبيت عفّة وكراتيا. كانت إجابة السيد طه واضحة "ما دام بحوزتي جنود وأسلحة، فسأبقى مستمرًا في الحرب"، عاد ألون مجددًا إلى الحديث عن الوضع الصعب للواء الفالوجة وقال إنّه لا يستطيع التوقف عن الحرب ما دام هناك جنود مصريون على أرض فلسطين، ولذلك فالقضاء على جنود الفالوجة هو أمر محتوم، ولذلك على المصريين في الفالوجة أن يصلوا إلى النتيجة الحتمية، بضرورة الانسحاب المشرّف وتركهم فلسطين إلى مصر، بشرط أن يتنازلوا عن كافة أسلحتهم الموجودة في الفالوجة. كذلك أشار إلى أنه لن يسمح للواء الفالوجة بالانسحاب، إلا إذا انسحب كل الجيش المصري من فلسطين.

نظر الأميرالاي سيد طه بك مباشرة إلى عيون ألون، وقال له "سيدي، أعرف أن وضعك أحسن من وضعي، تخطيطكم للحرب وتنفيذكم لها أمران محكمان، ولذلك استطعتم أن تخترقوا خطوط قواتنا، ونحن نعرف أنّنا في وضع لا نحسد عليه. وأعرف أيضًا أن صمودي ورجالي لن يغير الوضع على الجبهة، ولكن من الأكيد أن صمودنا سينقذ شرف الجيش المصري، لذلك سنحارب حتى آخر رصاصة وآخر جندي، إلا إذا تلقيت أوامر أخرى من قيادة الجيش".

خلال الحديث تدخل الصاغ جمال عبد الناصر وقال جملة واحدة، ردًّا على ألون عندما تكلم عن الوضع الصعب للمحاصرين في الفالوجة "وضعنا ليس صعبًا إلى الحدّ الذي تصفه، وليس كما تعتقد"، في نهاية اللقاء طلب ألون من السيد طه أن يسأل القيادة المصرية عن أمر الانسحاب، عساها تعطيه تصريحًا بذلك. فأجابه السيد طه بأنه سينقل للقيادة محتوى حديثهم في هذا اللقاء.

انتهى الاجتماع بدون أن يصل إلى أية نتيجة، حيث أصر الأميرالاي سيد محمود طه بك والمعروف بلقب "الضبع الأسود" على أنّ جنوده وضباطه، على حدّ سواء، مستعدون للقتال مهما كلف الثمن، وأن الخضوع لن يكون، حتى ولو كان مصيرهم مشابهًا لمصير رجال قلعة عراق سويدان.

كان هذا القرار هو السبب المباشر لترقيته إلى رتبة أميرالاي (عميد) مع رتبة البكوية.

(يتبع)


المصادر:

1. محمد حسنين هيكل، العروش والجيوش 2- أزمة العروش وصدمة الجيوش.

2. بيني موريس، تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى 1948.

3. يروحام كوهين، في وضح النهار والعتمة.

4. جمال عبد الناصر، دفتر يوميات حرب فلسطين، من مجلة آخر ساعة.

5. عبد الله السناوي، أخيل جريحًا.

6. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود.

التعليقات