أبو عرب.. الشاهد على تهجير صفورية الذي ساهم في بلورة الهوية الوطنية لأجيال

ارتبط الراحل أمين محمد علي (أبو عرب)، الشخصية الوطنية، التي غيّبها الموت في السابع عشر من الشهر الجاري عن عمر ناهز 87 عاما في الناصرة، بصفورية التي حملها في قلبه وروحه وذاكرته، ليرسّخها في ذهن كل من عرفه، إذ ارتبط اسمه

أبو عرب.. الشاهد على تهجير صفورية الذي ساهم في بلورة الهوية الوطنية لأجيال

الشخصية الوطنية الراحلة أبو عرب ("عرب 48")

ارتبط الراحل أمين محمد علي (أبو عرب)، الشخصية الوطنية، التي غيّبها الموت في السابع عشر من الشهر الجاري عن عمر ناهز 87 عاما في الناصرة، بصفورية التي حملها في قلبه وروحه وذاكرته، ليرسّخها في ذهن كل من عرفه، إذ ارتبط اسمه بها وارتبط اسمها به، فكان يعيش فيها، وظلّت تعيش فيه حتى يومه الأخير.

هُجّر الفتى ابن الـ13 عاما من صفورية، ومشى في طريق الآلام كغيره من المهجرين في وطنهم من أبناء الشعب الفلسطيني في مناطق 48، والذين يحملون مفاتيح بيوت كانت لهم ذات مرة. وصل وعائلته إلى لبنان وعاد لفلسطين لكن دون شقيقته غزالة التي تصغره بسنة ودفنت هناك في بقاع لبنان، وتحديدا في القرعون. وكان لموتها الأثر البالغ في وجدان أبو عرب.

"بدنا ترجع"

في أيامه الأخيرة لم يتقبّل أبو عرب فكرة تناول الدواء، ولم يشرب إلا مغليَّ عشبة من أرض صفورية وهي "العلندة"، والتي أحضرتها له ابنة قرية صفورية المهجرة رنا عوايسة التي ربطتها بالراحل علاقة كان ركنها الأساس؛ الانتماء والوفاء لصفورية ولكل قرية فلسطينية مهجّرة، وترجما ذلك عبر العديد من النشاطات، على رأسها مسيرات العودة.

ووري أبو عرب الثرى في مدينة الناصرة في مقبرتها الجديدة، قريبا وبعيدا عن صفورية.

"بدنا ترجع (صفورية) يا صباح"، هكذا خاطب أبو عرب دائما وأبدا زوجته ورفيقة دربه صباح أبو شحادة عبد المعطي، التي تحدثت لـ"عرب 48" عن الراحل بمشاعر فياضة، كيف لا وهو رفيق دربها منذ أكثر من 63 عاما "وارتبط بها عن حب"؟ كما همست لنا حفيداته.

تقول أم عرب عن الراحل، إنه "كان دائم النكران لنفسه، لا يحب أن يتحدث عن نفسه ولا أن يتحدث عنه أحد. سعى كثيرا لأجل الآخرين ولأجل من حوله".

وأضافت: "أعتقد أن إنسانا ارتبط لهذه الدرجة بقضيته، من الطبيعي أن يكون بهذه المواصفات من الوفاء والتواضع والكرم والصدق. محبته لصفورية ترجمها أيضا في حياته وعلاقاته الاجتماعية".

وتابعت: "خلال مسيرته توجهت إليه العديد من المؤسسات لتكريمه على جهوده في إحياء تراث صفورية، لكنه كان يرفض ذلك وبإصرار من أي جهة، ولا أبالِغ إذا قلت لك إن تكريمه الأخير قبل أشهر قليلة، جاء على مَضَض وكان رغما عنه"، مشيرة إلى أن الراحل "انشغل بكل التفاصيل التي تخص من حوله، وانشغل بصفورية وبقضايا المهجرين واللاجئين. كان ملما بالكثير من التفاصيل والمعلومات وطوّعها جميعا لخدمة قضيته وشعبه".

تشاركت أم عرب مع الراحل هذا الحمل الثقيل وهذا العبء والنشاط الدائم غير المنقطع، ولم تخشَ عليه إلا من التعب، فكان ما يقوم به لوحده يحتاج لمؤسسات وأفراد كثر، لكن الراحل استمرّ في العطاء حتى النفس الأخير.

في زوايا بيته في حيّ الصفافرة بمدينة الناصرة، ترى صفورية أيضا، ومقتنيات والده من دِلال قهوة، وغيرها. كما ترى كذلك صورة للزعيم العربيّ الراحل، جمال عبد الناصر، وحدثتنا إحدى الحفيدات عن جدها -وكما قال لها ذات مرة- إنه لم يبك في حياته، إلا ثلاث مرات وهي يوم ولادته، ويوم توفي والده، ويوم توفي عبد الناصر.

("عرب 48")

خير ظاهر، ابنة الفقيد تحدثت لـ"عرب 48" قائلة: "بدايةً، صحيح أنه من الصعب علينا تقبّل هذا الفقدان، وهذه الخسارة. لكن نقول إنها مشيئة الله، ولا اعتراض على مشيئته. والدي لم يؤثر فينا فقط، نحن عائلته وأحفاده، بل كان صاحب الدور الأساسي في بناء وبلورة الوعي السياسي والهوية الوطنية لأجيال ما بعد النكبة، وهذا ما كنا نلسمه قبل وفاته وما لمسناه من وفود المعزين، بحيث ساهمت المشاريع التي وقف خلفها، وأسس لها، في حفظ الذاكرة وصونها أولا، وفي انتقالها للأجيال اللاحقة. كان إيمان والدي بحق العودة ثابتا وراسخا لدرجة أنه كان يتحدث عنها دون تعب أو ياس. كان لديه أمل يتجدد مع مرور السنوات".

"كأن الألم التهجير انتقل إلينا بالجينات"

أمّا حفيدات الراحل، قد احترنَ فيما سيقلنه عن جدهنّ، فهل سيحدثننا عن جدهن الحنون المعطاء الذي كان يعد لهن الفطور أيام مبيتهن عنده، أم عن أبو عرب الذي واظب على اصطحاب أحفاده إلى قرية صفورية بشكل أسبوعيّ؟ فتفاصيل تلك الرحلات والجولات عالقة في أذهانهن لدرجة أنهن حفظن تفاصيل القرية عن ظهر قلب. "أبو عرب كان جزءا من بناء شخصيتنا وهويتنا ووعينا السياسي. جدي لم يرسخ علاقتنا بصفورية فقط، بل بفلسطين وبقضية شعبنا عموما"؛ هذا ما قاله أحفاده.

منى ظاهر، حفيدة أبو عرب والتي تحمل الكثير من الذكريات لجدها ورافقته في أيامه الأخيرة، قالت لـ"عرب 48" إنه لا عزاء لهم في رحيله، إلا المحبة والوفاء الكبير الذي لمسوه من الوفود والحشود التي جاءت معزية بوفاته، ومنهم من دخل بيت العزاء باكيا.

وأضافت منى: "على الصعيد الشخصي نعيش حزنا كبيرا، وأتساءل: كيف نستوعب رحيله؟ وأتساءل كذلك؛ كيف سيبدو سوق الناصرة بدونه؟ كيف يمكنني المرور من جانب دكانه الذي واظب على العمل فيه حتى شباط (فبراير) الماضي، أي قبل أن يعرف بمرضه وتتراجع صحته؟".

أبو عرب في معرضه ("عرب 48")

وتابعت ظاهر قائلة: "جدي كان دائم النشاط والحركة، لا يعرف التعب حتى وهو على سرير المرض كان يخطِّط، وكان يقول لنا سننفّذ هذا العمل معا، بحيث خطط لنقل معرض التحف التراثية إلى سوق الناصرة، ولم ينقطع عن الأمل والتخطيط، كان يقول سنعمل كذا وكذا، وكان يتحدث بلغة كلها أمل وإيمان بأنه سينفّذ مشاريعه".

أما أميرة ظاهر فأضافت على حديث شقيقتها قائلة: "إن أهم ما ميز جدي أنه حمل هموم الجميع، كان دائم التفكير بمن حوله، غمر الجميع بحنانه حتى وهو على سرير المرض. كان يسأل ويحاول الاطمئنان عن الجميع. جدي لم يطلب شيئا لنفسه، كان يفني نفسه لأجل الآخرين. علاقته بجدتي كانت مميزة جدا مع العلم أنه ارتبط بها عن حب فلا غرابة أن من يحب مثل جدي، أن يرتبط ويحب قريته ووطنه بهذه الصورة. أستطيع أن أقول إنه حمل هم الجميع، كيف لا وهو من حمل هم بلد بحالها؟".

أما حنين ظاهر، ذكرت أنها "لن تنسى لجدها مشاوير صفورية، حينما كان يجمع الأحفاد بسيارته القديمة، تحدثت عن تلك الأيام بلهفة بالغة وبتعابير الممتنة لجدها الذي أخذها لتلعب، حيث كان يلعب طفلا في صفورية".

("عرب 48")

حفيدته هناء ظاهر، أكدت لنا أن جدها وما جسّده، ينبغي أن يُتوارث وأن يُحافَظ عليه، وقالت: "أنا أؤمن بشيء واحد، هو أن هذا الحزن والوجع الذي خلفته النكبة، انتقل لنا نحن جيل ما بعد النكبة. لا أستطيع تفسير تعاطينا مع ما يعايشه شعبنا ومع الانتكاسات الكثيرة التي رافقت قضيتنا، إلا بأننا حملنا هذا الحزن، انتقل إلينا من أجدادنا، وأنا شخصيا كان لجدي الأثر الكبير في تشكّل وعيي الوطني وهويتي السياسية. صحيح أننا لم نعايش أحداث النكبة. لكن وجعها انتقل إلينا كما لو كنا نحن من هُجّر وشرّد، وكأن هذا الألم انتقل إلينا بالجينات".

وأضافت: "جدي أبو عرب هو فكرة وجب الاحتفاظ بها، امتَلَك إيمانا مطلقا بالعودة. جدي ورغم أنه عايش الكثير من الهزائم والانتكاسات التي مرت بها القضية الفلسطينية والأمة العربية، كان يعيش بمعنويات عالية بأن النصر والتحرير قادم لا محالة، إذ لم ييأس، ولم يجزع، ولم يتراجع أبدا".

"خطّط للمزيد دائما"

أما ليلى طه محمد علي، وهي ابنة الشاعر الراحل طه محمد علي، شقيق أبو عرب، فقالت بغصة، إن "وفاة عمي ليست خسارة لعائلته والمقربين منه فحسب، بل لعموم شعبنا الفلسطيني، لقد قدم الكثير وكان يخطط للمزيد، ولم يتحدث بلغة الراحل عن الوطن بل بلهجة المتأمل بالعودة الحتمية إلى صفورية، أنه سيعود ليمارس نشاطه".

("عرب 48")

وأضافت: "منذ 7 أشهر وهو يخطط لإقامة معرض رسومات لشقيقه الراحل عمي فيصل الذي توفي في أواخر نيسان (أبريل) من العام الماضي، بحيث رغب بتخليد ذكراه السنوية، عبر إقامة معرض لرسوماته الموجودة منذ الستينيات".

أما عن المشروع الذي كان أبو عرب قد بدأ بالعمل عليه، فهو "نقل معرض التراث الموجود في بيته إلى سوق الناصرة ليأخذ المعرض حقه، ولتراه أكبر شريحة ممكنة يتعذّر عليها الوصول إلى هنا، ولأنه أحب السوق وانتمى إليه وسعى دوما لإنعاشه".

أمين محمد علي (أبو عرب) هو الرئيس السابق لجمعية الدفاع عن حقوق المهجرين وأحد مؤسسيها، ولم ينقطع نشاطه فيها. كان في الثمانينيات من عمره وعمل كشاب في العشرينيات يداوم صباحا في مكتبته الصغيرة في قلب سوق الناصرة القديم، ويقوم بواجباته الاجتماعية بعدها.

("عرب 48")

وأنشأ معرض الأدوات التراثية، المكان الذي يعبق برائحة فلسطين ما قبل النكبة، هناك ترى صفورية، والبروة، والدامون، وإقرث، وبرعم، والبصة، والرويس، وسحماتا، والكابري، وأم الزينات، واجزم، وجبع، وخبيزة، وقبية العباسية، وغيرها.

ولأكثر من 40 عاما، عمل أبو عرب على تجميع قطع وأدوات استعملها أهالي قرى فلسطين قبل نكبتها، لم يتردد في دفع ثمنها من ماله الخاص. كان يشعر بأنه عثر على جزء جديد من فلسطين مع كل قطعة جديدة يحصل عليها ويضيفها إلى معرضه.

التعليقات