الإنجاز الأهم: إعادة الارتباط مع القضية الفلسطينية/ أنطوان شلحت

إذا كانت المرحلة الحالية لدى الفلسطينيين في مناطق 1948 باتت متسمة بتكثيف الحراك السياسي والفكري الهادف إلى إعادة الارتباط بين حلّ القضية الفلسطينية وبين تحسّن مكانتهم وأوضاعهم، فإن الفضل في هذا الإنجاز المهم للغاية يعود إلى حزب التجمع الو

الإنجاز الأهم: إعادة الارتباط مع القضية الفلسطينية/ أنطوان شلحت

إذا كانت المرحلة الحالية لدى الفلسطينيين في مناطق 1948 باتت متسمة بتكثيف الحراك السياسي والفكري الهادف إلى إعادة الارتباط بين حلّ القضية الفلسطينية وبين تحسّن مكانتهم وأوضاعهم، فإن الفضل في هذا الإنجاز المهم للغاية يعود إلى حزب التجمع الوطني الديمقراطي وخطابه السياسي.

في واقع الأمر، كان الارتباط السالف قد تعرّض إلى اهتزاز أعواماً طويلة، ووهن كثيراً في إثر "اتفاق أوسلو" المبرم سنة 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، والذي تمثلت حصيلته الأبرز بالنسبة إليهم في ترسيخ شعور الأغلبية الساحقة منهم بما اصطلح على تسميته "التهميش المزدوج"، أي تهميشهم على مستوى الشعب الفلسطيني، على غرار التهميش الذي كانوا وما زالوا يخضعون له على مستوى المجتمع الإسرائيلي المؤدلج بالفكر الصهيوني الشاطّ.

وقد حدا هذا الأمر في ذلك الحين بهؤلاء الفلسطينيين إلى التحوّل نحو سيرورة النظر إلى أنفسهم، والبحث عن سبل تتيح إمكان المشاركة الفكرية الفاعلة في تقرير مصيرهم ومستقبلهم.

وبمراجعة سريعة، يمكن القول إن هذه السيرورة مرّت حتى الآن بعدة مراحل، إلى أن بلغت مرحلة من النضوج خلال سنوات النصف الثاني من العقد الفائت.

وترتبت على هذه السيرورة عدة استنتاجات فكرية مهمة.

لعل أهم هذه الاستنتاجات هي ما أشار إليه المفكّر العربي عزمي بشارة في كتابه المرجعي "العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل"، وفحواه أن العرب في إسرائيل هم سكان البلاد الأصلانيون، وهم جزء من الأمة العربية التي تعيش حالة صراع مع إسرائيل، وجزء من الشعب الفلسطيني الذي تعرض إلى عملية سطو مسلح على أرضه شملت هدم مشروعه الوطني. وقد نشأت قضيتهم تاريخياً كجزء من القضية الفلسطينية، فلولا نشوء قضية اللاجئين لما نشأت مسألة "أقلية" عربية في الداخل. أما الممارسات الإسرائيلية التي تتضمن مصادرة أراضي العرب في الداخل ومحاصرتهم وتجميعهم ديموغرافياً، والعمل على إعادة تشكيل هويتهم الثقافية بما يتناسب مع احتوائهم كأقليات متنافرة متنازلة عن المساواة الكاملة وعن الشخصية العربية الكاملة في دولة يهودية... فهذه كلها ليست مجرد مركبات في سياسة تمييز، بل هي جزء من سياسة تشكل استمراراً تاريخياً لقضية فلسطين وتضع لنفسها أيضاً أهدافاً تاريخية. وهي ما زالت تجري وتنفذ بعقلية كولونيالية استيطانية إحلالية، وتتخذ شكلاً كولونيالياً أيضاً.

وتُعزى إلى بشارة، مؤسس حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" في أواسط تسعينيات القرن الفائت، أعمق التحليلات النظرية المتعلقة بكينونة الفلسطينيين في مناطق 1948 ومآلاتها وإحالاتها. وقد بُنيت عليها مواقف، وشكلت مرشداً لتجربة عملية انعكست في طرح مشروع وطني ديمقراطي في ظروف الداخل قائم على جدلية العلاقة بين الوطني والمدني، وبين الخطاب العروبي الفلسطيني والمواطنة.

وما زال حزب "التجمع" هو الحامل لهذا المشروع من خلال عمل السياسي، ومن خلال النشاطات الجماهيرية التي يقوم بها.

وكان المنطلق الرئيس لهذه التحليلات هو أنه لا يمكن أن نفهم مسألة الفلسطينيين في الداخل بنيوياً فقط، أي بتجرّد عن تاريخ نشوء هذه المسألة، من خلال تحليل بنية دولة إسرائيل كأنها دولة وطنية عادية- هي الدولة اليهودية- تعيش فيها أقلية عربية تتعرض للتمييز أو الإهمال. كما أنه لا يمكن أن نفهم قضية عرب الداخل بالنهج التاريخي وحده، إذ لا يكفي فهم تاريخ تشكل القضية الفلسطينية وكيفية تحول الفلسطينيين إلى أقلية في بلدهم في فهم واقعهم الحالي. ولذا لا بُد من الدمج بين التاريخي والبنيوي.

ولا بُدّ من أن نشير إلى أن هناك ثلاثة مشاريع تؤطر أهداف وأشكال العمل الفلسطيني في مناطق 1948:

الأول، مشروع الأسرلة الذي يقع أصلاً خارج نطاق نضال الشعب الفلسطيني؛

الثاني، ينطلق من إطار "حل الدولتين" الذي لم يعد يجيب عن الأسئلة ذات العلاقة بالحقوق التاريخية للفلسطينيين جميعاً في وطنهم وبالمشروع الوطني التحرري (أفتح قوساً هنا كي أؤكد أن المصطلحات تشكّل أداة مهمة في سياق سبر غور الكثير من الدلالات في مفترقات الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وهنا المكان لأن نستعيد ضرورة استثمار جُهد معادل للجهد المبذول من أجل وضع حدّ لتلوّث الجو والمياه والأرض، في سبيل مواجهة تلوّث اللغة ضمن هذا الصراع الطويل. وداخل هذا الخضم يجري في الآونة الأخيرة خلط مريب بين مصطلحين يتعلقان بأفق تسوية الصراع، هما "حل الدولتين" و"حل دولتين لشعبين". ومنذ أن أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية بنيامين نتنياهو قبوله "مقاربة التقسيم" لتسوية الصراع- في إطار "خطاب بار إيلان" الأول، في حزيران/ يونيو 2009- تصرّ إسرائيل على صيغة "دولتين لشعبين"، وتتهم الجانب الفلسطيني بأنه يعارض هذه الصيغة ومستعد فقط لصيغة "دولتين"، التي تعني في قراءتها: دولة فلسطينية مباشرة الآن، ودولة فلسطينية أخرى بعد تطبيق حق العودة. ويؤكد الناطقون بلسان الحكومة مراراً وتكراراً أن الحديث هنا يدور حول لبّ الصراع لا حول مناقشة تتعلق بالصياغة أو بالكلمات. وأنه إذا كان هناك موضوع لا يجوز لإسرائيل أن تتنازل فيه أو حتى أن تتجادل في شأنه، تحت أي ظرف وفي أي حال، فهو هذا الموضوع لأنه يتعلق بـ "وجودها الحقيقي". ويشير بعضهم إلى أن نحو ثلثي السكان اليهود البالغين في إسرائيل يؤيدون حلّ "دولتين لشعبين"، لكن ما دامت القيادة الفلسطينية ترفض الاعتراف بصورة واضحة بدولة إسرائيل باعتبارها دولة للشعب اليهودي فلن يكون هناك حلّ للصراع. في الوقت عينه يعتقد هؤلاء أنه لا يجوز لإسرائيل أن تُقدم على أي تنازل بشأن إقامة دولة فلسطينية قبل أن يكون ذلك مقروناً بإعلان فلسطيني واضح غير قابل للتأويل أن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهوديّ. وفضلاً عن ذلك، يُشار أيضاً إلى أنّ قبول صيغة "دولتين لشعبين" ينطوي على حلّ لقضية حق العودة أو مشكلة اللاجئين، في إطار الدولة الفلسطينية التي ستُقام. وفوق هذا كله يجري التشديد على أن عدم إدراج مطلب الاعتراف بإسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي كان أكبر تقصير لاتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وعلى أن التجاوب مع هذا المطلب من شأنه أن يوجد شرعية متبادلة بين إسرائيل والفلسطينيين، وأن يكبح مطلب عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى تخوم دولة إسرائيل، وأن يحدث انعطافة في وعي العالم العربي- الإسلامي إزاء إسرائيل، وأن يحسن علاقات إسرائيل مع أوروبا المسيحية)؛

الثالث، يقوم على فكرة تحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية كسبيل لإنهاء دورها كدولة محتلة وعنصرية ويندرج ضمن إطار أوسع هو إنهاء منظومة السيطرة الكولونيالية الاستيطانية العنصرية التي أنشأها المشروع الصهيوني.

(من مداخلة قدمت في المؤتمر السنوي الثالث لمركز مسارات حول محور إستراتيجيات المقاومة)

 

التعليقات