عن الصّورة والصّيرورة وعن تحديات المشروع / طارق خطيب

​في المخيال السياسي –إن صحّ التعبير- وبأثر رجعي، تبدو محاولة تخيّل المزاج المخيّم على الساحة الفلسطينية في الداخل، بدون الحلّة الجديدة والمطورة للمشروع القومي والديمقراطي –هذه المرة-: التجمع الوطني الديمقراطي، تبدو محاولة صعبة. كيف كان يم

عن الصّورة والصّيرورة وعن تحديات المشروع / طارق خطيب

في المخيال السياسي –إن صحّ التعبير- وبأثر رجعي، تبدو محاولة تخيّل المزاج المخيّم على الساحة الفلسطينية في الداخل، بدون الحلّة الجديدة والمطورة للمشروع القومي والديمقراطي –هذه المرة-: التجمع الوطني الديمقراطي، تبدو محاولة صعبة. كيف كان يمكن للمشهد السياسي أن يتغيّر؟ أقصد، أين كنا سنكون لو لم يكن التجمّع ؟ ثم وأين كنا سنكون لو لم نكن تجمعّيين؟

إن الخطاب السياسي المأزوم في الحقبة التي تأسس فيها التجمّع، وعلاقة أو انقطاع هذا الخطاب عن المشروع الوطني الفلسطيني الغائب أصلًا بعد أوسلو، تجعل رؤية الاحتمالات والتكهّن بدون التجمع أمرًا مخيفًا في الحقيقة، إمّا لكثرة تعقيدات المرحلة، وإمّا لأن هنالك أمورًا من الصّعب تخيّل الحياة من دونها، بالذات،إذا ما كنّا نعي أهميّتها.

لقد أسّس التجمع الوطني الديمقراطي لتجربة فريدة من نوعها عربيَّا وفلسطينيَّا، ثم أثرى المعجم السياسي الفلسطيني بمسميّات لم تكن حاضرة قبله، وطرح مشروعًا برّاقًا للفلسطينيين، يصلح حتّى أن يكون مشروعًا سياسيًا في أمكنة كثيرة أخرى تعاني من الاحتلال أو الاستبداد.

ليست هذه مقدّمة في دراما الحياة الحزبية، وإنما هي مرور أوّلي على ما نعتبره من البديهيّات، في وقت صارت فيه البديهيّات عرضة للتشويه تحت وطأة المدى العريض للخطابات الحزبية والسياسية الأخرى.

كيف يفهم التجمع الهوية الفلسطينية؟

في الذكرى التأسيسية العشرين للتجمع الوطني الديمقراطي، أسلّط الضوء على قضيّتين أساسيّتين، تتسّع مساحة المخيال المذكور حين يتعلّق الأمر فيهما، تحديدًا وسط اللغط في الجدل الدائر حولهما، والتفاعل معهما في قوالب هذا اللغط شعبيًّا، كان التجمع قد قدّم لهما تأسيسًا فكريًا مطوّرًا منذ نشأته في أدبيّاته. الأولى هي قضية الهوية، والتي كانت بحاجة إلى مشروع سياسي جماهيري مثل التجمع يؤسس لها مرة تلو المرّة ويحملها ويحملّها ويربي عليها أجيالًا كاملة. وأعني هنا الهويّة السياسية المواجهة للاحتلال، والمؤسسة لاستحقاق سياسي متشكّل من تعريفنا لأنفسنا كأصلانيين، ومن علاقتنا الخاصة بالأرض بصفتنا أصحاب الأرض. الهويّة السّياسية التي حوّل التجمع من خلالها انتماءنا ومكانتنا التاريخية، من عنصر صمود وبقاء داخلي وذاتي وثقافي، إلى ركيزة في مشروعه السياسي المتحدي، وإلى أساس مطالبتنا بالمساواة وليس بمعزل عنها.

وتنبع أهمية تفكيك معنى الهوية السياسية التي أسّس لها التجمّع، بالذات حين نرى رواجًا لتبنّي تعريف الهوية الوجدانية/الثقافية، أو وجدنة الهويّة، والتي تصبح في السياق الاستعماري، مستندة ومؤسسة لحالة انفعالية تنتج  خطابًا مشوّهًا ينحدر مثلا نحو توثيق العلاقة مع مستعمِرين مستضفعَين، وينتهي بها المطاف في عدم الخوف على ضياعها –ضياع الهوية-  باعتبارها متمثّلة في 'لغة القرآن' وشجرة الزيتون وبتعابير مثل 'زهور الجليل'، و'الأدب' و'مشروع البقاء' و'الجماهير العربية'، توحي لوهلة بأنّ كل النضال الفلسطيني ضد الأسرلة بمرور العقود المنصرمة، كان أمرًا زائدًا. يميّز الخطاب التجمعي بين الهويّتين أعلاه، ويفهم الهويّة الوجدانية دون أن يراها تشكّل أي بديل للهويّة السياسية، بل إضافة، وفقط إضافة، للمعنى الكلّي للهوية.

الواقعيّتان : الثورية والانتهازية؟!

انطلاقًا من هذا التمييز بين معاني الهويّة، عاين التّجمع خصوصيّة الفلسطينيين  في الداخل بكثير من التحدّي والتميّز متعلمَّا من تجارب الأحزاب التي سبقته، وطارحًا معادلتي الهوية القومية والمواطنة الكاملة ودولة المواطنين. وقد تحتاج هاتان المعادلتان إلى تمحيص كثير في فهمهما، لأنّ تسطيح قراءتهما يجعلهما رغم تميّزهما،  كليشيهًا عرضيًّا. في الوقت الذي قامت دولة الاحتلال على أنقاض شعبنا، فرضت علينا مواطنة الاحتلال المهشّمة والمهمِّشة، ولعلّ أبسط ما تكونه عليه أي دولة، أن تكون دولة كل المواطنين. بهذا، ورغم قراءتنا لهذه المواطنة في سياق الإحتلال، حوّل التجمّع  المواطنة إلى تحدٍ وسلاح  قويّ في فضح إسرائيل وتعريتها، إسرائيل التي لا يمكن أن تكون دولة المواطنين، في الوقت الذي تعتبر فيه نفسها يهودية لليهود، ولا يمكن أن تؤمّن مواطنة كاملة، لأنها ديمقراطية، أيضًا لليهود. وهذا يأخذنا إلى التمييز بين من يدّعي الواقعية بانتهازية نابعة إما عن جهلٍ أو مرتبطة بخطاب سياسي لا يخرج عن طيف السياسة الإسرائيلي، وبين التّجمع الذي يقرأ الواقعية بثورية لا تقبل بفهم المواطنة بحدود الدولة، بل اشتقاقا–إن كانت- خارج دائرة المساواة المواطنية، ونابعة من أصلانية الفلسطينين في وطنهم؛ المواطنة والمساواة التي تشمل قبول العربي الفلسطيني متماثلًا مع شعبه ونضاله وقضيّته. هكذا، حوّل التجمع الوطني الديمقراطي، أداة المواطنة بإشكالية الاندماج التي تحملها، إلى أداة لتأجيج الصراع بإمكانياته السياسية والفكرية، وليس فقط، إذ أنّه يناضل من جهة أخرى، من أجل العيش الكريم رابطًا القومي باليومي والمطلبي بالوطني دون مساومات او تخاذل.

في ذكرى الميلاد العشرين...

بهذا يكون التجمع قد اجترح بوصلته السياسية التي كانت عنوانًا لنا ننشأ عليه محظوظين إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في طليعة نشاطنا السياسي كشابات وشباب في المجتمع الفلسطيني في الداخل، في توقيت كانت تشكّل فيه هذه البوصلة حين أسست سرابًا أو ضربًا من الخيال، وكان على يبدو سيتحوّل المسار السياسي للفلسطينين في الداخل بدونها نحو الاندماج في مجتمع الإحتلال، وتحويل الصراع القومي إلى حقوقي مدني، ما يعني انصهارًا كليًّا لآخر من تبقى من الشعب الباقي على آخر ما تبقّى من الأرض في الداخل، من جهة. ومن جهة أخرى، فإن المرحلة الجديدة التي فرضت عام 1996 رؤيا جديدة قد تغيّرت الآن، وعليه، فإن الرؤيا عليها أن تتطوّر بما يتلائم مع هذا التغيير. هل أجيب إذًا بالإيجاب على سؤال الحاجة إلى التجديد العملي والفكري؟. 

غياب جسم تمثيلي حقيقي أعلى للفلسطينيين، تحديدًا وأيضًا مقابل التحالف الاستراتيجي التاريخي بين التيارات السياسية الفاعلة في المجتمع العربي الفلسطيني في القائمة المشتركة بإيجابياتها وسلبياتها، والتي كان للتجمع الدور الأهم في صياغته، الغياب المكدّس والمكرّس لمشروع فلسطيني وطني وحل الدولتين الممسوخ والانقسام الفلسطيني، تحولات الوطن العربيّ الخائب والخائف والجريح اليوم والتجربة المتلعثمة للتيارات القومية والأحزاب الأخرى الركيكة وغير المواكبة –كما تبيّن- فيه خلال السنوات القليلة الماضية؛ كل هذا يحتّم علينا أن نقف بمنتهى المسؤولية التاريخية أمام تحدّيين مهميّن : كيف نقوّي حزبنا ؟ وكيف نحافظ على هويّة حزبنا ونطوّرها باعتباره يؤسس لأهم تجربة حزبية عربية عصرية تجمع بين القومي والديمقراطي في زمن العصبيّات؟.

في  ذكرى الميلاد العشرين، علينا أن نرتّب أوراقنا وأفكارنا ورؤيتنا، لننهض بحزبنا، تجديدًا وتنظيمًا، مشروعًا سياسيًّا يحمل قيم الديمقراطية والعدالة واليسار، ليكون بيتًا يليق بالمرحلة وبآخرين سيكتبون يومًا عن حظّهم في النشأة الوطنية في هذا البيت.  

عاش بيتنا.

 

 

 

 

التعليقات