فكر نقدي.. وسطوع دائم / د.باسل غطاس

​بعد تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، والحصول على تمثيل برلماني لأول مرة مع دخول عزمي بشارة للكنيست عام ١٩٩٦ وتميزه في العمل البرلماني من خلال حمله لهذا المشروع الجديد، التفت التجمع لبناء الحزب كمؤسسة ديموقراطية حديثة ولتحويله لحركة سياسية

فكر نقدي.. وسطوع دائم  / د.باسل غطاس

بعد تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، والحصول على تمثيل برلماني لأول مرة مع دخول عزمي بشارة للكنيست عام ١٩٩٦ وتميزه في العمل البرلماني من خلال حمله لهذا المشروع الجديد، التفت التجمع لبناء الحزب كمؤسسة ديموقراطية حديثة ولتحويله لحركة سياسية ذات امتداد شعبي واسع. وكانت هذه عملية صعبة وتحمل في طياتها تحديات كبيرة ومعقدة تصدى لها المؤسسون بكل عزيمة لتوسيع الصفوف وتنظيم الحركة الوطنية مدركين أن المشروع السياسي مهما كان مهمًا ورياديًا وملائمًا لاحتياجات الناس ولأمانيهم فهناك حاجة حياتية لبناء الإطار الذي يحمل المشروع ويسعى لتحقيقه من خلال النضال الشعبي والبرلماني. 

حقيقة إن مهمة بناء الحزب قطعت أشواطًا كبيرة ونحن بعد عقدين من الزمن نستطيع القول إننا نملك حزبًا عصريًا ذَا مرجعيات دستورية وتنظيمية وهيئات قيادية منتخبة وأن التجمع استطاع بناء ثقافة وتقاليد حزبية رفيعة وتجاوز العديد من المصاعب الداخلية التي ارتبطت بسياقات التأسيس وخصوصياته. ومع ذلك فإن مهمة البناء والارتقاء في التنظيم الحزبي لم تنته ولا تزال مستمرة خاصة وأن التجمع يستوعب باستمرار أجيالا جديدة من الشباب، تنخرط في صفوف الحزب وهذا يتطلب تطويرًا دائمًا في البناء الحزبي. 

خاض التجمع منذ تأسيسه معارك عديدة في البداية للدفاع عن مجرد وجوده في وجه المنافسين الداخليين الذين لم يألوا جهدا للقضاء عليه فيما لو استطاعوا, وكذلك في وجه مؤامرات السلطة ومحاولاتها المتكررة شطب التجمع ومنعه من خوض الانتخابات، وقد خرج الحزب من كل هذه المعارك أصلب عودًا وتجربة ومنتصرًا. 

وكانت معركة انتخابات 1999 التي خاضها كذلك في الترشح لرئاسة الحكومة حدثا مفصليًا عاصفًا في حياة الحزب،  فمن ناحية فرض نفسه وخطابه محليا وحتى عالميًا، وأثار اهتمام العالم أجمع بوجود وقضايا الأقلية القومية وكشف القناع عن الوجه العنصري للدولة اليهودية, من ناحية أخرى اضطر لعقد تحالفات لكي يدافع عن مجرد وجوده وتجاوزه نسبة الحسم، وأثارت هذه التحالفات نقاشًا داخليًا عميقا بل وأزمة داخلية عصفت بالحزب، وبالرغم منها خرج الحزب من هذه الانتخابات مفولذا وشامخًا مستفيدا من التجربة وعبرها. 

جاءت أحداث أكتوبر 2000 فيما تطور لتكون هبة القدس والأقصى لتوطد موقع التجمع كعامل مركزي في المجتمع الفلسطيني. وقد حمل من قبل أجهزة الأمن والمخابرات مع الحركة الإسلامية الشمالية مسؤولية الأحداث وكذلك من قبل لجنة (أور) التي وجهت كتاب إنذار لعزمي بشارة والشيخ رائد صلاح وآخرين. 

لعب التجمع دورًا مركزيًا في صياغة  أوراق التصور المستقبلي للعرب التي تأثرت بمشروعه السياسي وخطابه وكذلك في قيادة لجنة المتابعة وبكل نشاطات مناهضة الخدمة المدنية والعسكرية، واستطاع التجمع المحافظة على تجدده الدائم وتميزه من خلال الضمان الدستوري(التحصين) للتمثيل النسائي في القائمة البرلمانية ومؤسسات الحزب. وأصبح التجمع ببرنامجه وفكره وكذلك بحضور كوادره في الميدان لاعبًا أساسيًا في الحياة السياسية للمجتمع الفلسطيني في الداخل وصولا إلى إقامة القائمة المشتركة فيما يمكن اعتباره تحقيقا لمشروع التجمع في توحيد الأقلية الفلسطينية في الداخل في مواجهة الصهيونية والدولة اليهودية. كذلك تعرض ولا يزال فكر التجمع وخاصة دمجه الخلاق  للفكره القومية مع الفكر الديموقراطي إلى عاصفة من التحديات هزت الحزب إلى أعماقه نتيجة الثورات في العالم العربي وخاصة في الموقف من أنظمة الاستبداد والقمع التي مارست أبشع الجرائم والموبقات بحق شعوبها، تحت ظل الفكر القومي ومقاومة إسرائيل. وكان للتجمع علاقات جيدة مع رموز هذه الأنظمة من باب إصرارنا على حقنا في التواصل مع عالما العربي. لقد جعل مشروع التجمع  الفكرة القومية الديموقراطية مشروعًا حداثيًا وانسانيًا نحو الداخل ومشروعًا حضاريًا متماسكًا وانفتاحيًا نحو الخارج, وبالرغم من النقاشات الداخلية العاصفة في الموقف من الثورات العربية وخاصة في الموقف من الثورة السورية بقي مشروع التجمع الفكري  صامدًا ولم يترنح تحت وطأة الثورات المضادة واختلاط الحابل بالنابل في المشهد العربي.

تعرض التجمع إلى أكبر وأقسى خسارة في مؤامرة المخابرات الاسرائيلية التي استهدفت قائد الحزب والشخصية المركزية فيه الدكتور عزمي بشارة والتي أسفرت عن خروجه في آذار 2007 من الوطن إلى منفاه القسري حتى اليوم. وكان هذا من أصعب الامتحانات التي من الممكن أن يتعرض لها أي حزب، لقد كان للدكتور عزمي بشارة دور أساسي في تأسيس الحزب وقيادته خاصة في السنوات الأولى الصعبة والأهم، كان له الدور الفكري الأساسي في مشروع التجمع فبالاستناد إلى اجتهاداته الفكرية والنظرية تطور فكر التجمع القومي الديموقراطي، وقد كتب بنفسه وثيقة التجمع الفكرية الأبرز'البيان القومي الديموقراطي'.  

بالرغم من الضربة الموجعة والمؤلمة فقد صمد التجمع وحافظ على نفسه وأثبت ليس فقط أنه ليس بحزب الرجل الواحد، وإنما بأنه حزب الشعب وحزب المستقبل. مناسبة 'عشرون عامًا على تأسيس حزب التجمع' هي مناسبة ليست للتذكر والتأريخ ولا لتوزيع النياشين، فعملية التأسيس الفعلي استمرت سنوات ولا فضل لمن شارك في مرحلة التأسيس (عامي 1994 و 1995) على من انضم للحزب لاحقًا وشارك في البناء سوى بالعمل وباستمرار الاجتهاد والعطاء. وإنما هي مناسبة لمراجعة التجربة وعرضها أمام الأجيال الشابة، وكذلك لإعادة قراءة المرحلة الحالية وتجديد النظر في المرحلة السياسية التاريخية التي يمر بها شعبنا والمنطقة والتي تتمثل بالانقسام الفلسطيني الخطير والكارثي وتكريس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية من ناحية وتوغل اليمين الاستيطاني واستئثاره شبه الدائم في الحكم في إسرائيل مع توطد الإجماع القومي الصهيوني من وراء يهودية الدولة. طبيعة المرحلة الخطيرة التي نمر بها تفرض على التجمع لعب دور ريادي ومبادر وقيادي ليس على ساحة عرب الداخل فقط، وإنما على الساحة الفلسطينية بشكل عام. لقد حسم التجمع كحزب موقعه من أيام تأسيسه الأولى أنه جزء من حركة التحرر الوطني الفلسطينية ويعمل في ظروف عرب الداخل مواطني دولة إسرائيل وهذا الموقع الذي لا لبس فيه ولا خلاف عليه هو الذي يحتم علينا اليوم إعادة دراسة البرنامج السياسي الفلسطيني والعمل في الدائرة الفلسطينية الأوسع للخروج من حالة الأزمة والانقسام.    

 

*نائب في البرلمان عن التجمع الوطني الديمقراطي

 

التعليقات