19/05/2021 - 17:33

هوامش على دفتر القيامة

إن الرهان على تنظيم الشتات وإعادة تفعيله لا يمكن أن ينتظر تحركا من سلطةٍ تبدو عاجزةً حتى عن الإيماء، وتعاني تصحّرا في خيالها السياسي وشللا على كل صعيد (عدا التنسيق الأمني). لطالما قال هؤلاء إن السياسي هو من يقود البندقية

هوامش على دفتر القيامة

من مواجهات الضفة، الثلاثاء (أ ب أ)

  • بين التفكير والوجدان جدارٌ هشٌّ ينبغي صونُه حرصا على العالَمَين. ليس هذا ممكنا دوما، وقد تَفتح قسوةُ الحدث ثغرة كبرى في الجدار، ويختلطُ الأمران سويا فلا يعود ما للعقل للعقل، وما للوجدان للوجدان. هذا امتزاج لا مناص منه في ساعة دموية كهذه، ولربما يخبرنا التفكير الهادئ لاحقا أنه لم يكن امتزاجا منكَرا بالضرورة لأن الواقع نفسَه، وسط كل هذا الهوْل والدم، والكرامة المجبولة بالفقْد، بات خليطا من الأمرين.
  • لم تشهد النكبة منذ أن اجتاحت أقدارَ ضحاياها إحياءً يليق بها كذاك الذي تشهده اليوم. وجهان لهذا الإحياء، الأول مِن صانع النكبة نفسِه. لقد وجد المجرمُ نفسه -فجأة- يعيد تمثيل جريمته دون طلبٍ من أحد، ورجع مسلح الهاغاناه والشتيرن لذات الحارات والأزقة، بذات الصيحات وذات البنادق، يشنّ حربا لا على المنازل وحسب، وإنما على فكرة المنزل، ويبدو وكأنه يملك ثأرا شخصيا مع البيت الفلسطيني؛ مع المأوى الذي يحمل في ثقافتنا رمزيةً جعلت الكعبةَ نفسها تُسمَّى بيتا. "البيت" هو أقدس ما لدينا، مجازا واصطلاحا وحرفا، وفقْدُهُ ليس خسارةً لجماد، بل لشيء –في وجداننا- من صنف الأحياء. هذه أمورٌ لا يفهمها قتلةٌ كهؤلاء لم يسمعوا بحياتهم عن منازلَ لها في القلوب منازلُ، ولا يمكن لهم حتى أن يفهموا ثقافة كهذه. تفعل إسرائيل ما تفعل وكأنها تُذكّر الناس، وتذكر العالم، وتذكر نفسها أيضا، كيف حصل كل ما حصل، قبل سبعين عام، وكيف اندلعت هذه الكارثة المسماةُ تفكّها: ديمقراطية الشرق الوحيدة. هذه الردّة للحظة الاحتلال الأولى مهمةٌ لأنها تخبرنا شيئا بالغ الأهمية عمّا أنجزه هذا الكيان بعد سبع عقود، ودعمٍ فلكيٍّ من أقوى دول العالم وأفحشها ثراءً، فهو لا يزال في مربعه الأول، ويُثبت أن بذرته الفكرية لا تتحوّر ولا تنمو، وأنه، حتى بالسلاح، محتاجٌ إلى أن يعود إلى الصفر.
  • الوجه الثاني لإحياء النكبة هو طبعا من الضحية. هذه الضحية التي –لأول مرة منذ زمن- تعود ضحيةً لا ضحايا، وماهيةً مجتمعية بهذا القدر من التراص وأُخوّة الألم والكرامة. دلالة هذا البعث الجماعي هي برهانُه أن ساعةً ما توقّفت داخلنا جميعا في الخامس عشر من أيار، 1948. وأن الحدث الفارق في ذلك اليوم ليس صفحةً تطوى بل واقعا يسكن أهله حتى اليوم، وأنه حتى إن غاب عن وعيهم، يظل ثاويا تحته، متحفزا للضوء. كل تلك السنين التي مُنع منها أبناء الشتات من عودةٍ ولو قصيرة، لوداع أمٍّ موشكة على الرحيل أو عيادة أبٍ أو لقاء أخت أو دفن عزيز، وكل أطنان الخرسانة المسلحة التي سُكبت بين مدن هذا البلد السليب، كل هذا وذاك، لم يستطع أن يبتر خيطا مرهفا –مغزولا بالحديد- لا يزال يشد الناس على بعض ولا ينفع معه جدار ولا بوابة ذكية. لا جديد يمكن قوله عن التباين الهائل في الظروف والسياقات التي تُفرّق الفلسطينيين في أنحاء البلاد وخارجها. لكن الجديد الذي كان حريا بالقراءة هذه المرة، هو أن ذاك المشترَك الهاجع في النفوس أثبت جبروتا لم يتخيله كثيرون. ليس هذا إسنادا لمعنويات ولا فخرا بشيء، وإنما رصدا مباشرا لحقيقة رأيناها جميعا رأي العين، وربما تَفَاجأ بها أهلُها قدرَ تفاجئ سواهم.
  • ليست هذه مواجهةً نابعة من تراكم شيءٍ حصل، بل من العكس تماما؛ من تراكم ذاك الذي لم يحصل... مِن تكدّس اللاشيء، ومن اليباب الذي ابتلع المشهد الوطني لسنواتٍ عجاف أغرقت كثيرين بجدالات العبث النظري، ورمت آخرين في دوامة المعاش اليومي؛ سنواتٍ بدت فيها القضية ميتةً، لكن أهلَها يُكابرون. المشهد كان مسرحيا بامتياز. رئيس أميركي، ليس وضيعا وحسب بل عنوانا للوضاعة، يستند لأنظمة عربية من طينته تماما. وسويا، يمارسون واحدةً من أبشع طقوس الوأد الجماعي لقضية تحرر وطني. كانت عقيدة هذا الوأد ورافعتُه الفكرية بسيطة للغاية: أن المدفون ميتٌ أصلا وأن شيئا لن يحصل. كان نقل السفارات ووهب الشرعيات وسباق التطبيع المنحطّ يبدو مصمما للإذلال العلني بقدر ما كان مصمما لتغيير الواقع بغير رجعة. كل هذا حصل وصمتٌ قاتلٌ يصفُرُ بالمكان، لكنّ ما بدا موتا –كما نكتشف اليوم- كان خُدعةً بصرية، وربما لم يعرف التاريخ صمتا أشدَّ قهرا يسبقُ عاصفةً أكثر كرامةً كذاك الصمت وهذه العاصفة.
  • القيامة. لا مفردةَ في معاجمنا -رغم كل غناها- تفي ما جرى حقَّه غير هذه. قيامة الفكرة وقيامةُ إنسانِها سويا، واستعادة المعنى، وإعادة اكتشاف سرٍّ من أسرار فاعلية التاريخ: السر الذي يخبرُنا أن القضايا الكبرى لا تُحكم بالحساب المباشر والتأمل في فارق القوة الظاهر. كثير منا كانوا يتحدثون في السنوات الماضية عن أهمية استدامة الوعي ولو بأدنى حدوده الممكنة إلى أن "يَفرجها الله" ويحصل تغيير معجزٌ ما. ولا أظن واحدا منا كان -بقرارة نفسه- مطمئنا لهذا الفرج المأمول. لكنه حصل. لم يحصل بوصفه تحريرا للأرض وإنما بوصفه قيامة لضحايا النكبة وإيمانا مسترَدّا بجدوى النضال وقيمته، وإعادةَ رتقٍ لثوب القضية؛ بداخله وخارجه وشتاته ولاجئيه وظَهْره العربي الشعبي وأنصاره من كل أطراف الدنيا.
  • في تلك السراديب المعتمة تحت أرض غزة، كانت المقاومة تمارس بحقّ "تفاؤل الإرادة"، وتبني إعدادا لمواجهةٍ تبدو الاستحالةَ بعينها. هذا قطاعٌ بلغ حصارُه حدا من القسوة يحتاج شعرا لوصفه لا نثرا في السياسة. ورغم ذلك، فما فعلته هذه الزنزانة المخنوقة يبدو تمردا حتى على أبجديات المنطق. هذا أكثر بكثير من عينٍ تلاطم مخرزا، أو دما يَهزم سيفا. ما فعله هؤلاء، وما يفعله أبناء القدس، وعمالقة اللد وحيفا وعكا ونابلس والخليل هو مجازُ نفسِهِ، وحقيقةٌ يُشبَّهُ بها قبل أن تُشبَّه بسواها.
  • لقد تجنّد الشتات الفلسطيني على نحوٍ غير مسبوق، وثبُت ما كان ثابتا دوما: أن الإنسان تواقٌ للمعنى، وأن هذه القضية هي أقصى ما يمكن لابن النكبة (وإن لم يعشها) أن يطلبه من معنىً وقيمة. هذه لحظة نادرة ليس لراهنها وإنما لمستقبلها. لقد تركّبت كارثة أوسلو على كومة من الأوهام، أحدها –وأكثرها سُمّيةً ربما- أن العودة للداخل تعني استقلاليةً للقرار الفلسطيني. وكم كان هذا وهما قاتلا. لقد أثبتت هذه السنين أن هناك حاجة ماسّة لمواضع ارتكاز خارجية، بعيدة عن قبضة إسرائيل المباشرة، وعلى نحوٍ يُشرك الخزان البشريّ الأكبر للقضية الفلسطينية؛ اللاجئون وأبناء الشتات. وإذا كان لهذه التضحيات الفائقة أن تُصان وتُحفظ، فالأمر يبدأ بتصعيد هذا التجنّد ليصبح تجنيدا، وتوسيعه من مضماره الإعلامي الحالي -فور وقف النار- إلى نواة عمل سياسي يُحيي الشتات الفلسطيني، لا أفرادا مبعثرين بقصص نجاح فردية وإنما قوة تنظيمية فاعلة وجدارا استناديا للداخل. هذه ليست منشادة فأمورٌ كهذه لا تأتي بها المناشدات. هذه قراءة لمشهد يحتبل باحتمالات، وبعضها يحمل في تقاسيمه هذا المسار الممكن المأمول.
  • إن الرهان على تنظيم الشتات وإعادة تفعيله لا يمكن أن ينتظر تحركا من سلطةٍ تبدو عاجزةً حتى عن الإيماء، وتعاني تصحّرا في خيالها السياسي وشللا على كل صعيد (عدا التنسيق الأمني). لطالما قال هؤلاء إن السياسي هو من يقود البندقية لا العكس. لكن الأيام الماضية أثبتت أن البندقية، برمزيتها لكل فعلٍ مقاوم مدني وعسكري، هي القادرة على إحياء السياسة والسياسيين، وأن الفعل أحيانا هو ما يسبق النظر، لا العكس.
  • ما من خيانة أعتى لهؤلاء الراحلين العمالقة من ترك المواجهة تنتهي بوقفٍ لإطلاق النار. هناك نارٌ من نوع آخر ينبغي أن تَشبّ فور سكون النار الأولى، في الشتات على نحو خاص، وبالحراك السياسي في الداخل، وفي رفض العودة للدوائر السابقة. لقد أفرز العمل الإعلامي المساند في مناطق الشتات وجوها تعرف كيف تقود عملا جماعيا، وتملك حضورا وجمهورا، وهي جديرة بأن تبني على عملها المضني في الفترة الماضية، وتوسعه من حدود الإعلام والوعي صوب تنظيمٍ نضالي شامل يوقظ هذا المارد الساكن، المدعوَّ شتاتا.
  • لقد أنهى أبناء الضفة والداخل صمتَ القهر الذي خيّم سنينَ، وأعدم أبناء غزةَ العدمَ نفسَه، وفعلوا سويا ما توسّل لهم الدمشقيُّ الراحل قبل عقود، وهزموا الهزيمة.

التعليقات