24/02/2022 - 16:37

حرب الاستكبار على الاستكبار

تواصَل الاستعلاء الأميركي والاستهتار بروسيا من خلال السعي الدؤوب لتمدُّد الناتو في دول الاتحاد السوفييتي وحلف "وارسو"، وصولا إلى دول البلطيق، ولاحقًا لجورجيا وأوكرانيا، وهذه قضية أمن قوميّ روسية لا يستطيع بوتين أو غيره تجاهلها

حرب الاستكبار على الاستكبار

الرئيسان الأميركي والروسي ("أ ب")

تحت عنوان "كيف صنعت الولايات المتحدة بوتين"، قدّم الصحافي الروسي – الأميركي المعروف، فلاديمير بونز (الابن)، محاضرة في جامعة "ييل" الأميركية في عام 2018، تحدث فيها عن تدهور العلاقات الأميركية – الروسية ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وحذّر من أنّ تدهور العلاقات، وصَل مرحلة خطيرة من الصعب إعادتها للوراء، وذلك قبل ثلاث سنوات تقريبًا من اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا اليوم. وشدّد بونز على أن قادة روسيا فقدوا الثقة بالولايات المتحدة منذ سنوات، فلم تنشِئ الولايات المتحدة علاقات شراكة أو تعاون مع روسيا منذ الاتحاد السوفييتي، بل وصل الأمر بالرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، أن يصف روسيا بأنها "قوة إقليمية" وليس قوّة دولّية أو عُظمى. كما جرى رفض أي فرصة لانضمام روسيا للاتحاد الأوروبي من قِبل الغرب، بل إنه جرى حصْر روسيا في الشرق، إذ يقول بونز إن روسيا منذ القيصرية، كانت دائما وجهتها غربًا وليس شرقًا. كما أنّ القيصر الروسي طارد نابليون وقواته حتى داخل باريس، وظَلّ فيها عدة أشهر.

وعلى الرغم من عنوان المحاضرة المثير واللافت، إلا أنه لا يعني أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، صناعة أميركية أو عميل أميركي، بل المقصد أن السياسات الأميركية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي كانت استعلائية وحتى مهينة ومستخفّة بروسيا والقادة الروس. ووفقًا لبونز فإن هذه السياسات دفعت -في العقد الأخير وربّما قبل ذلك (منذ 2008)- بوتين، إلى انتهاج سياسات معادية للولايات المتحدة. ولفت بونز إلى أن عداء الاتحاد السوفييتي لم يكن لأميركا كشعب أو دولة، بل عداءً للرأسمالية والإمبريالية، في حين يُوجَّه عداء الرأي العام الروسي اليوم للولايات المتحدة، بينما تغذّي وسائل الإعلام الروسية الرسمية وشبه الرسمية هذا العداء، فيما يقوم الإعلام الأميركي بالأمر نفسه تجاه روسيا. ومحاضرة بونز كانت موجهة لطلاب الإعلام والصحافة في الجامعة المذكورة.

وهذا الاستكبار الأميركي أو الاستخفاف بروسيا وقادتها، كان تجربة بوتين الدبلوماسية الأولى كزعيم للكرملين مطلع الألفية الحالية، عندما التقى الرئيس الأميركي حينها، بيل كلينتون. ويذكر بونز في محاضرته أن موافقة غوربتشوف على توحيد ألمانيا جاءت بعد تعهد أميركي – أوروبي (فترة وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر) بعدم توسيع انتشار قوات حلف الناتو إلى شرقي أوروبا. ويؤكد أن هذه التطمينات الأميركية موثّقة، بالإضافة إلى تعهدات مماثلة لاحقة. لكن ما حصل هو العكس؛ إذ استمرّ الاستهتار بروسيا ومخاوفها الأمنية الإستراتيجية.

تواصَل الاستعلاء الأميركي والاستهتار بروسيا من خلال السعي الدؤوب لتمدُّد الناتو في دول الاتحاد السوفييتي السابق وحلف "وارسو"، وصولا إلى دول البلطيق، ولاحقًا لجورجيا وأوكرانيا، وهذه قضية أمن قوميّ روسية لا يستطيع بوتين أو غيره تجاهلها، لأنها عمليًا تعني تطويق روسيا بقوات معادية لحلفٍ مهمته التاريخية كانت محاربة الاتحاد السوفييتي. كان بوتين على استعداد للتعاون مع الولايات المتحدة منذ تولّيه الرئاسة للمرة الأولى، بل إنه امتنع عن استخدام حق النقض (فيتو) ضد القرار الأميركي في مجلس الأمن الدولي عشية الغزو الأميركي للعراق، بل غضّ الطرف عنه، لكنه كان شاهدًا على نتائجه الكارثية ("السلفية الجهادية" والانتفاضات الثورية الديمقراطية في العالم العربي مثلا، بنظره) وحجم الفشل الأميركي هناك (ولكن في المقابل اندلاع "الثورات الملونة الأميركية" الديمقراطية في الجوار الروسي).

ولا يستبعد محللون وخبراء أن الولايات المتحدة معنية بحصول هذه الحرب الجارية، إذ حتى لو حقّق بوتين إنجازات عسكرية وسياسية، ستُوَرّط روسيا، اقتصاديًا ودوليًا لدرجة جعلها معزولة. كما سيساهم ذلك بضرب بوتين داخل روسيا، أو الرضوخ الروسي للوضع القائم في شرقي أوروبا، وبخاصّة أن قوات الناتو تعزّزت في الأسابيع الأخيرة في هذه المنطقة، بدلًا من أن تنسحب. أي أنّ ما حصل هو عكس هدف بوتين من التصعيد الجاري.

انتشر مؤخرًا اقتباس شهير لكنه قديم، لأحد صنّاع السياسة الأميركية أيام الحرب الباردة، وهو جورج كينان، الذي صرّح في عام 1998 للصحافي الأميركي توماس فريدمان، ردًّا على توسُّع الناتو في شرقي أوروبا، بالقول: "أعتقد أنها بداية حرب باردة جديدة. أعتقد أن الروس سوف يتصرفون تدريجيا بشكل عكسي وسيؤثر ذلك على سياساتهم. أعتقد أنه خطأ مأساوي. لم يكن هناك سبب لهذا على الإطلاق. لم يكن طرف يهدد أي طرف آخر. هذا التوسع سيجعل الآباء المؤسسين لهذا البلد يتحرّكون في قبورهم".

هذا كله لا يبرّر أي حرب مجرورة بأمجاد (و"أخطاء") الماضي كما عبّر عنها بوتين في خطابه الطويل قبل أيام، فهي حرب استكبار روسية بوتينية على الاستكبار الأميركي، ولا أحد في الكون بمقدوره توقُّع تبعاتها ومآلاتها.

اقرأ/ي أيضًا | حيرة بوتين

التعليقات