04/07/2023 - 19:06

عملية تل أبيب والخطاب الإسرائيلي

عمل نظام الاستعمار الصهيوني على سدّ كل أبواب المقاومة، بما فيها السلمية، وواصل ارتكاب جرائم القتل الجماعي والفردي، وملأ سجونه بعشرات آلاف المناضلين، سواءً ممن مارسوا الكفاح المسلح أو الكفاح السياسي، فلا فرق بنظره

عملية تل أبيب والخطاب الإسرائيلي

من موقع العملية في تل أبيب (Getty)

من يتابع وسائل الإعلام الصهيونية في السنوات الأخيرة، وخاصة عند شن عدوان وحشي، كالذي يجري في أزقة مخيم جنين (وهذه المتابعة خاصة المسموعة منها تحتاج إلى قدر كبير من التماسك والتحمل)، يلاحظ كم نجح نظام الاستعمار في حشد وتعبئة المجتمع الاستيطاني وراء خطاب عدواني، عنصري، واستئصالي.

قليلة جدًا، بل نادرة تلك الأصوات التي تحاول أن تقول أمرًا مختلفًا، مثل الحاجة إلى حلٍّ سياسي للصراع، وإن قالت هذا الشيء المختلف، فإن عليها أن تستبق كلامها بطقوس الامتثال لصنم الوفاء للجيش والأيديولوجية التي تحرك هذا الجيش وكيانه. ومع ذلك، تنفجر أصوات "الإعلاميين" الآخرين المصطفين في استوديو التلفزيون أو على الهواء من خلال الراديو، بوجه هذا "المختلف" فيضطر إلى التخفيف من لهجته، فيزيد من جرعة مخزونه اللغوي العدواني ضد الفلسطينيين، الذين يدافعون عن مخيمهم، وعن بيوتهم، ليدفع عنه تهمة الشذوذ عن القطيع.

فحتى المثقّفين أو الأكاديميّين المناهضين للصهيونية والاستعمار، وهم بالطبع على هامش الهامش، محظور عليهم الظهور في وسائل إعلام القبيلة. خطابٌ يتسم بالبهيمية وفقدان الإحساس الإنساني بالكامل، يسود في مرحلة شبهه مثقفون إسرائيليون بألمانيا سنوات الثلاثين من القرن الماضي.

هذا الخطاب الإعلامي المرافق للعدوان الصهيوني على مخيم جنين، يتحدث عن مهمة استئصال "الإرهابيين"، والدفاع عن أمن إسرائيل، ومساعدة السلطة الفلسطينية التي فشلت في المهمة. ليس في الخطاب ذرة من الحقيقة التي تقول إنهم أولًا يذهبون إلى أراضٍ محتلة حسب القانون الدولي؛ ثانيًا، أنهم يذهبون إلى مخيم يعيش حالة بؤس، لضرب أبناء اللاجئين الذين طردتهم من بلداتهم التي احتلت عام 1948؛ وثالثًا، أن النكبة التي اقترفتها هذه العصابات التي تحولت إلى دولة، بدعم القوى الدولية الإمبريالية، متواصلة، ورابعًا، أن المقاومة التي تجددت في مخيم جنين، والحراكات الشعبية العارمة التي عادت بمستويات مختلفة ووتائر متفاوتة، منذ عام 2009، في كل فلسطين، هي مقاومة طبيعية وفق المنطق الإنساني، وشرعية وفق القانون الدولي الذي يجيز لأي شعب يقع تحت الاحتلال اعتماد كل الوسائل للتخلص من الظلم.

ويُذكر أن غالبية الشعوب التي وقعت تحت الاستعمار أو الاستبداد الداخلي، اختارت بدايةً الوسائل السياسية والمدنية السلمية، غير أن اعتماد أنظمة الاستعمار العنف الدموي ضدها أجبرها على اللجوء لاحقًا للعنف الثوري. وفي حالات عديدة لجأت الشعوب للنضال الشعبي والمدني، كشكل رئيسي في النضال، مثل حالة الهند، وحالة الشعب الفلسطيني، بداية العشرينيات، وكذلك في الانتفاضة الأولى ذات الطابع الشعبي عام 1987، والتي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، وانتهت بعد أن أغرقها المحتل بالدماء. وهي انتفاضة لا تزال تشكل نموذجًا رائعًا وملهمًا في المقاومة الشعبية التي ينخرط فيها كل الشعب، وليس فقط مجموعة صغيرة من الفدائيين.

لقد عمل نظام الاستعمار الصهيوني على سدّ كل أبواب المقاومة، بما فيها السلمية، وواصل ارتكاب جرائم القتل الجماعي والفردي، وملأ سجونه بعشرات آلاف المناضلين، سواءً ممن مارسوا الكفاح المسلح أو الكفاح السياسي، فلا فرق بنظره. هو يعلن صراحةً أن لا حق لشعب فلسطين بحق تقرير المصير، وبالتالي أي شكل من المقاومة يعتبر عملاً غير مشروع.

إحدى الحجج التي ساقها المستعمر في عدوانه المتكرر على جنين هو تنفيذ عمليات في مدينة تل أبيب. هو طبعًا يعتبر أن له الحق في الدخول إلى أي مدينة أو مخيم، أو قرية في الضفة الغربية، ناهيك عن شن الحروب على قطاع غزة، وهي أرض معترف بها دوليًا أنها محتلة، ويعتبر هذا دفاعًا عن النفس، أما أن يُدفع الفلسطيني أو فلسطينيون تحت هذه الظروف القاهرة، إلى تنفيذ عمليات في تل أبيب أو أي مدينة إسرائيلية فهو إرهاب، وليس دافعه سوى الرغبة في قتل يهود وفق منطق خطاب العنصرية. وهذه العمليات داخل الخط الأخضر، هي نادرة الحدوث، فجل المقاومة تحصل داخل المنطقة المحتلة عام 1967. أكثر من ذلك، فإن نظام الأبرتهايد لا يرى أن وجود الاحتلال في هذا الجزء من فلسطين التاريخية، ومحاصرة البلدات الفلسطينية بالمستوطنات والمستوطنين، الذين يشنون هجماتهم الدموية والتدميرية على أصحاب البلد، بين الحين والآخر إرهابًا، بل دفاعًا عن إسرائيل، التي أصبحت حسب قانون القومية تمتد من البحر إلى النهر.

لا شك أن تعبئة المجتمع الإسرائيلي بخطاب استئصالي ودموي هو خطير، ويُطيل أمد الصراع وشلال الدماء والمعاناة، لأنه يحدّ من تأثير المقاومة الفلسطينية في تغيير وعي المجتمع الاستيطاني، ويؤجل إحداث تصدعات حقيقية داخله لصالح تبني العدالة ولمستقبل مختلف للفلسطينيين واليهود. لذا، فإن هذا الواقع لا يترك خيارًا آخر أمام شعب فلسطين سوى الدفاع عن قضيته، عن حياته ووجوده، مهما كانت التضحيات. إن استمرار مقاومة شعبنا وصموده، وتحديدًا عندما تتبلور قيادة فلسطينية مستقلة في قرارها، وموحدة حول استراتيجية تحرر حقيقية. كل ذلك سيوصل الاحتلال إلى إعادة النظر في خطه الدموي. لا مستقبل لنظام استعماري إقصائي ولّد نظام فصل عنصري، وسط بحر من الفلسطينيين وبحور من العرب.

التعليقات