05/07/2023 - 19:07

"بيت وحديقة" في جنين: عن العمارة والحرب القذرة مجدّدًا 

ربّما "بيت وحديقة" هو اصطلاح مستجدّ على قاموس الاحتلال العسكريّ، إلّا أنّه يجسّد حقيقة سيرته الدمويّة منذ عقود، لا بل يمثّل تعبير "بيت وحديقة" منطق وجود إسرائيل نفسه

مخيّم جنين (أمير بويرات - عرب48)

"لقد صمّمنا طريقًا للإسرائيليّين ليعبروا من خلاله بمدرّعاتهم، ولم يكن علينا فعل ذلك، لأنّ فرص المسلّحين تقلّ بالهروب في هذا الحال عنها في الأزقّة الضيّقة. لم نأخذ وجهة نظرهم بعين الاعتبار". هذا ما قاله المدير الثاني لمشروع الأونروا لإعمار مخيّم جنين، برتولد ويلنجر، بعد هدمه وتجريفه على أثر "عمليّة السور الواقي" الّتي نفّذها جيش الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية سنة 2002.

فقد جرى في حينه، مسح مخيّم جنين عن آخره، خصوصًا بعد مقتل 13 جنديًّا إسرائيليًّا بكمّين نفّذته المقاومة الفلسطينيّة داخل المخيّم في التاسع من نيسان/ أبريل 2002، ما دفع وقتها بجرّافات المجنزرة المدرّعة العملاقة (D9) بغرض تركيع المخيّم عبر "تركيمه"، أي تحويله إلى ركام، وممّا ذكره موشيه نسيم، أحد سائقي الجرّافات، أنّه "على مدار ثلاثة أيّام، كنت أهدّم وأهدم فقط، وسوّيت بالأرض منطقة تساوي في مساحتها مساحة ملعب "تيدي" لكرة القدم في القدس". كانت الحصيلة مسح ما لا يقلّ عن 400 بيت من بيوت المخيّم، واستشهاد العشرات من أهله، منهم من قتلوا أحياء تحت الردم، فضلًا عن مئات الجرحى والمعتقلين وآلاف المشرّدين.

بيت وحديقة

في عدوان عسكريّ، أقلّ ما يمكن القول فيه إنّه همجيّ وقذر، شنّه جيش الاحتلال الإسرائيليّ بالتعاون مع أجهزة الأمن وسلاح الجوّ على مخيّم جنين منذ بعد منتصف ليل الأحد – الإثنين الماضي، وذلك بذريعة وأد قوى المقاومة فيه الرافضة لسياسة الاحتلال والاستيطان في الضفّة الغربيّة، وقد أطلق رئيس حكومة الاحتلال وجيشه على العدوان الّذي اختلف في وصفه ما بين "عمليّة" أو "مهمّة عسكريّة" أو "نشاط عسكريّ" تسمية "بيت وحديقة".

من الوهلة الأولى، قد لا يحيل اسم "العمليّة" إلى جوهرها، مثلما كانت تحيل معظم أسماء العمليّات العسكريّة الّتي نفّذها الاحتلال على شكل عدوان متكرّر سابقًا، سواء في الضفّة الغربيّة خلال الانتفاضة الثانية مثل "عمليّة السور الواقي"، أو على قطاع غزّة العقد الأخير مثل "عمليّة الرصاص المصبوب" حيث يشير اسم العدوان إلى فعله.

قد يكون تعبير "بيت وحديقة" مستمدًّا من جذوره التوراتيّة في إشارة إلى "بيت داوود وحديقته"، ويعني البيت مملكة داوود في "أورشليم"، وحديقة الملك الّتي ورد ذكرها في التوراة، تلك الّتي يدّعي الصهاينة وقوعها في القسم الجنوبيّ من البلدة القديمة في القدس بما فيها منطقة حيّ البستان من سلوان، حيث ظلّ البيت والحديقة ببعدهما التوراتيّ محلّ استلهام للنزعة الاستيطانيّة الصهيونيّة في فلسطين منذ مطلع القرن العشرين.

غير أنّ "بيت وحديقة"، هو اصطلاح متّصل أيضًا بعالمي "العمارة والتصميم"، وقد يكون مستعارًا منهما فعلًا، ومتّصلًا بما يعرف بالعبريّة بـ"بينوي – پـينوي" أي "الإخلاء والبناء" كسياسة ترميم أمنيّ، ما يمثّل جوهر العمليّة العسكريّة على مخيّم جنين في الأيّام الأخيرة، على الأقلّ، من ناحية سعي جيش الاحتلال إلى إخلاء المخيّم من كلّ مظاهر التسلّح والتنظّم المقاوم فيه، ولو تطلّب ذلك إخلاء المخيّم وتفريغه من أهله، وهذا ما حدث فعلًا مساء يوم الإثنين الماضي، جزئيًّا، بعد النزوح القسريّ لأكثر من أربعة آلاف فلسطينيّ من أبناء المخيّم منه؛ ثمّ معاودة تصميمه وإعادة هندسة مجتمع المخيّم وفق مقاييس منطق أمن الاحتلال للضفّة الغربيّة، تمامًا مثلما جرى خلال الانتفاضة الثانية بعد عدوان "السوار الواقي"، حيث أخلي المخيّم من أهله وبيوته وقتها، وأعيد تخطيطه وبنائه وفق معايير حديثة اعتقد جيش الاحتلال وأجهزته أنّها تلائم تصوّره عنه.

ربّما "بيت وحديقة" هو اصطلاح مستجدّ على قاموس الاحتلال العسكريّ، إلّا أنّه يجسّد حقيقة سيرته الدمويّة منذ عقود، لا بل يمثّل تعبير "بيت وحديقة" منطق وجود إسرائيل نفسه، منذ الإعلان عن تأسيسها في عام 1948، حيث الإعلان الّذي ترتّب عليه في حينه النكبة، بوصفها أكبر عمليّة إخلاء وبناء كولونياليّين في التاريخ الحديث، إخلاء فلسطين من أهلها بطردهم، ثمّ بناء الدولة العبريّة على أرض فلسطين.

وباطلًا - وليس من الحقّ بمكان - فقد أطلق الصهاينة اسم "بيت وحديقة" (بايت ڤچان بالعبريّة) على أكثر منشأة استعماريّة - استيطانيّة منذ ما قبل قيام الدولة العبريّة، منها مستعمرة "بيت وحديقة" الّتي أقيمت سنة 1903 غرب مدينة طبريّا في الجليل، ثمّ ضمّت بعد قيام الدولة العبريّة سنة 1953 إلى مستعمرة يڤنائيل.

كما أنّ "بيت وحديقة" هو الاسم الأوّل لمستعمرة "بات يام" الصهيونيّة، عند بداية تأسيسها سنة 1926 في ساحل فلسطين، وكذلك كلّيّة "بيت وحديقة " التعليميّة الّتي أنشأت في القدس سنة 1964 قبل أن يجري استبدال اسمها ب "كلّيّة القدس" في سبعينيّات القرن الماضي.

ظلّ مفهوم مصطلح "بيت وحديقة" بوصفه عمليّة إخلاء وبناء معًا، في بنية الدولة العبريّة الصهيونيّة طوال عقود ما بعد النكبة إلى يومنا، متمثّلًا في سياسة إحلال، في سياقات مختلفة من ممارسات الاستيطان والتهويد للبلاد.

يعيدنا العدوان الإسرائيليّ الأخير على مخيّم جنين، بما اصطلح عليه مجدّدًا، إلى ما كتبه إيال وايزمان في كتابه "أرض جوفاء: الهندسة المعماريّة للاحتلال الإسرائيليّ"؛ فقد أفرد فيه وايزمان فصلًا خاصًّا متّصلًا بسياسات الاحتلال العسكريّة منها والمعماريّة تجاه المخيّمات الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، ومنها مخيّم جنين تحديدًا، بعنوان "حرب مدينيّة: السير عبر الجدران".

وليس استحضارنا لما كتبه وايزمان في فصل كتابه عن صراع المخيّم مع الاحتلال في ظلّ استمراريّة وراهنيّة هذا الصراع، إلّا لغرضين: الأوّل، الرؤية الّتي تحكم سياسات الاحتلال الأمنيّة تجاه المخيّم بأهله ومعماره منذ عقدين من الزمن؛ والثاني، هو فشل هذه الرؤية بما تضمّنته من معرفة وممارسة معًا، في وئد التوليد الدائم للفعل المقاوم في المخيّم وتحديدًا جنين.

"جرمانيا"

"كيف يمكنك تفسير الزقاق؟ هل تفسّره كمكان، كما يفعل كلّ معماريّ وكلّ مخطّط للمدن، مخصّص للمشي، أم تفسّره كمكان يحظر المشي فيه؟ هذا يعتمد فقط على التفسير، لقد فسّرنا الزقاق كمكان يحظر المشي خلاله، والباب كمكان يحظر المرور عبره، والنافذة كموقع يحظر النظر من خلاله، لأنّ الأسلحة تنتظرنا في الزقاق، واللغم ينتظرنا خلف الأبواب".

كان هذا ما تساءل وأجاب عنه أفيف كوخافي، قبل أن يصبح رئيسًا لأركان جيش الاحتلال، في مقابلة أجراها معه صاحب كتاب "أرض جوفاء" بعد معركة مخيّم جنين في الانتفاضة الثانية.

كان مخيّم جنين ومثله مخيّم بلاطة في نابلس، قد شكّلا تحدّيًا بوجه جيش الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية، بحكم ضراوة مقاومة أبناء المخيّمات أوّلًا، وطبيعة التشكيل العمرانيّ للمخيّم كحيّز وفضاء، الأمر الّذي دفع بجيش الاحتلال في حينه إلى اتّباع طريقة "السير عبر الجدران... كما الدودة الّتي تشقّ الطريق قُدُمًا بفمها" كما يقول كوخافي متشدّقًا. تلك الطريقة الّتي نظر ونظر لها على أنّها مآثر عسكريّة لجيش الاحتلال، جعلت من منفّذيها ومجرميها "أبطالًا" على شاكلة كوخافي وغيره من مجرمي الحرب.

يقول وايزمان إنّه "لطالما مالت المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة على الدوام إلى اعتبار مخيّمات اللاجئين الحيّز والمناخ المدينيّ الملائمين لتوليد المقاومة، وارتسمت المخيّمات من ثمّ في المخيّلة الإسرائيليّة الجغرافيّة المبسّطة كمواقع عنوانها (الشرّ والخطر) أشبه بـ"ثقوب سوداء" لا يتجرّأ جيش الدفاع الإسرائيليّ على دخولها للحدّ الّذي تجنّبت فيه قوّات جيش الدفاع الإسرائيليّ الدخول لمخيّمي بلاطة وجنين طوال الانتفاضة الأولى (1987 - 1991)، والثانية كذلك، وأطلق الجيش على مخيّم جنين حيث تحصّنت تاريخيًّا أكثر مجموعات المقاومة قوّة اسمًا شيفريًّا هو ’جرمانيا’ في إحالة لتوصيف ملتبس كان قد أطلقه المؤرّخ الرومانيّ تاسيتوس على البرابرة، أو في إشارة إلى النظام النازيّ، فهي تسمية كانت تستبطن خوفًا إسرائيليًّا من ’الشرّ’ الّذي يعشعش فيه بحسب الاعتقاد"؛ الأمر الّذي استحالت فيه مخيّمات الضفّة، وعلى رأسها مخيّم جنين خلال "عمليّة السور الواقي" في الانتفاضة الثانية إلى مختبر عملاق لحرب المدن على حساب حياة أبناء المخيّمات وبنيتها التحتيّة.

زيف الادّعاء

"الانثيال السربيّ" (Swarming)، "الاجتياح" (Infestation)، "الاحتكاك"، "الجذمور وآلات الحرب"، "التثليم"؛ مصطلحات ما أنزل اللّه بها من سلطان، دشّنها منظّرو جيش الاحتلال بشكل مملّ ومبتذل لتظهير همجيّتهم على أنّها "مآثر بطوليّة" في مخيّم جنين في أثناء "عمليّة السور الواقي" خلال الانتفاضة الثانية. يستطرد وايزمان في توضيحها على ألسنة ضبّاط متقاعدين مثل أفيف كوخافي وشمعون نافيه، حيث لم يتردّد هذا الأخير في محاضرة له سنة 2004 عن العمليّات العسكريّة للاحتلال في مواجهة عمليّات الفدائيّين، في توظيف مفردات ومفاهيم مستعارة من أفكار الفيلسوفين جيل دولوز وفيليكس غاتاري من قبيل الاختلاف والتكرار، المنطق الجدليّ للهيكلة والبنية، مناورة كسيريّة، السرعة مقابل التناغم، الإرهابيّون الرحل، وغيرها.

كلّ ما في الأمر، هو ببساطة وهمجيّة معًا، أنّ جيش الاحتلال قد انتبه إلى فكرة الدخول إلى مخيّمات اللاجئين في بلاطة وجنين، عبر إيجاد فتحات في جدران البيوت، وبالتالي التنقّل داخل المخيّم عبر جدار بيت إلى آخر، بدل التنقّل عبر الطرقات والأزقّة؛ مع العلم، بأنّ فكرة السير عبر الجدران، لم تكن ابتكارًا يعود إلى "عمليّة السور الواقي" خلال الانتفاضة الثانية، إنّما يؤكّد إيال وايزمان على أنّها فكرة طبّقت في معركة احتلال يافا سنة 1948، من قبل مجموعة إرغون الصهيونيّة أو عصابة بيغن كما سمّاها البريطانيّون، إذ عمد خبراء المتفجّرات فيها إلى حفر أنفاق فوق أرضيّة بين جدران المنازل عبر النسيج العمرانيّ المتراصّ للمدينة، كما زرعوا المتفجّرات على طوله ونسفوه، ما أدّى إلى تشكيل رقعة واسعة من الركام، وفصل حيّ المنشيّة شماليّ يافا عن باقي المدينة في حينه.

أطاحت هزيمة العدوان الإسرائيليّ في حرب عام 2006 على لبنان، ولاحقًا في حروبه على غزّة، أمام المقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة بكلّ هذه المآثر الزائفة ومعها المتوّجّين أبطالًا لهذه "المآثر" من أمثال كوخافي ونافيه، وكلّ بضاعتهما النظريّة المبتذلة عن إستراتيجيّات الحرب والقتال وإعادة تنظيم الحيّز والمكان من أجل تحسين "فنّ التدمير". حتّى إنّ المؤسّسة العسكريّة نفسها، قامت سنة 2006 بإغلاق معهد أبحاث النظريّة العمليّاتيّة الّذي كان يشغل موقع إدارته نافيه.

لم يظلّ مخيّم جنين على حاله الّذي كان عليه قبيل الانتفاضة الثانية، فما الّذي لم يقترفه جيش الاحتلال خلال "عمليّة السور الواقي" من أجل نزع صفة الحاضنة للمقاومة عنه، خصوصًا على مستوى المكان والفضاء، إذ جرى مسحه، وأعادت الأونروا بناءه بشروط لم تكن تقصد فيها أن تخدم سياسات إسرائيل كما تقول، لناحية إرجاع حدود البيوت عن حدّ الشوارع، وتوسيع طرقات المخيّم بما يسمح لمدرّعة إسرائيليّة المرور منها.

ومع ذلك، يتبيّن للاحتلال وأجهزته مرّة تلو الأخرى بأنّ مخيّم جنين ليس في تضاريسه أو شكل حيّزه كمكان، بقدر ما هو المخيّم بهويّته الوجوديّة والوجدانيّة ولحم وعظم وعظمة أبنائه. وما زال جيش الاحتلال، رغم كلّ الظروف المواتية في صالحه سواء في التفوّق العسكريّ والتقنيّ، والدعم السياسيّ الّذي يحظى به في ظلّ الإجماع القوميّ الصهيونيّ خلفه، والتعاون الّذي تبديه السلطة الفلسطينيّة وأجهزتها الأمنيّة تارة أو الصمت عن ممارساته تارة أخرى، حيث يضطرّ جنوده إلى تحسّس رؤوسهم كلّما أوكلوا بمهمّة اقتحام المخيّم، وذلك للحدّ الّذي عاد فيه الاحتلال لاستخدام سلاح الجوّ لمواجهة مقاومة المخيّم حيث باتت عمليّة الدخول إليه مكلفة.

التعليقات