03/08/2023 - 16:37

شرعنة الاستيطان... إجماع صهيونيّ فوق الخلاف

قدّمت العليا أمس، جوابا لكل من يتساءل عن غياب العرب في الداخل الفلسطيني عن ساحات الاحتجاجات المناهضة لإضعاف القضاء، التي تبتغي حماية مكانتها، علما بأن القرار أُضيف إلى عشرات القرارات القضائية العنصرية الأخرى، التي صدرت ضد العرب الفلسطينيين.

شرعنة الاستيطان... إجماع صهيونيّ فوق الخلاف

مستوطنون في البؤرة الاستيطانية "حوميش" (Getty Images)

في خطوة قطعت الطريق على أي سوء فهم يرتبط بتجانس الموقف الإسرائيلي السياسي والقضائي من موضوع تكريس الاحتلال، وتعزيز الاستيطان، والعداء للحقوق الفلسطينية، أعلنت المحكمة العليا أمس الأربعاء، رفضها إخلاء بؤرة "حوميش" الاستيطانية، التي أُعيد إشغالها مؤخرا، وفقا لتوجيهات الحكومة الإسرائيلية، بعد أن كانت قد أُخليت مع ثلاث مستوطنات أخرى في شمال الضفة، في إطار خطة فكّ الارتباط، التي نفذتها حكومة شارون عام 2005 .

العليا التي أرادت، كما يبدو إزالة أي لبس متعلق بثوابت الإجماع الصهيوني التي توحد مؤسسات الدولة وأطيافها السياسية المختلفة، حتى وإن احتدم الصراع في ما بينها حول القضايا الداخلية، المرتبطة بمبنى النظام، وتقاسم الصلاحيات؛ قررت شطب الالتماس الذي طالب بإخلاء المستوطنة، رغم إشارتها إلى أن الشارع المؤدي إليها يقع على أراض فلسطينية خاصة، وأن أصحاب أراض فلسطينية أخرى، لا يستطيعون الوصول إلى أراضيهم، بسبب الحاجز العسكري المقام لحماية المستوطنين.

ومن نافل القول إن هذا القرار العنصري، هو دليل إضافي على أن نظام الأبارتهايد الذي تأسس في الضفة الغربية، كما جاء في تعقيب منظمة "يش دين" التي قدمت التماسا، وعلى امتداد فلسطين التاريخية كما نعتقد، لا يحظى بمباركة المحكمة العليا الإسرائيلية فقط، بل إنها هي من يهندسه، ويوفّر له الشرعية القانونية.

قدّمت العليا أمس، جوابا لكل من يتساءل عن غياب العرب في الداخل الفلسطيني عن ساحات الاحتجاجات المناهضة لإضعاف القضاء، التي تبتغي حماية مكانتها، علما بأن القرار أُضيف إلى عشرات القرارات القضائية العنصرية الأخرى، التي صدرت ضد العرب الفلسطينيين في الضفة وغزة والجليل والمثلث، والتي شرعنت الاحتلال، والاستيطان، ومصاردة الأرض، وقمع الحريات، فنحن لا نرى أسوة بمن يملأون شوارع تل أبيب احتجاجا، بأن إسرائيل "الجميلة" التي أقيمت عام 1948، واستقامت حتى عام 2022، تقع في دائرة الخطر ويجب إنقاذها من مخربيها وهادميها الأشرار، كما يقول المؤرخ شلومو ساند، صاحب مؤلفي "اختراع أرض إسرائيل"، و"اختراع شعب إسرائيل"، وأن نتنياهو وحلفاءه من الصهيونية الدينية، يقوضون أساسات الدولة، ومن شأنهم أن يؤدوا إلى انهيارها، ولذلك يجب العودة إلى الطريق الذي سارت به إسرائيل حتى الآن، وإبقاء الرسن بأيدي الصهيونية التقليدية والراجحة.

هؤلاء الذين يصفهم ساند بالجريئين والمتحمسين يتلفعون بحرارة بالأعلام الإسرائيلية، ويريدون إعادة مجرى التاريخ إلى مسلكه السابق، يحلفون بـ"وثيقة الاستقلال"، ويفخرون بديمقراطية المساواة الإسرائيلية المتعاقبة، ويقفزون -على حد قول ساند- عن بعض الأمور الصغيرة، مثل أن وثيقة الاستقلال، قد افتُتحت بـ"كذبة تاريخية" تتحدث عن إجلاء لم يحدث أبدا؛ "بعد أن أُجلي الشعب اليهودي من أرضه بقوة الذراع..."، كذبة يعرفها معظم من صاغوا ووقعوا على وثيقة الاستقلال، كما يقول، وهي تنتهي بحسب رأيه أيضا، بوعد كاذب يتحدث عن صياغة دستور للدولة الفتيّة، حتى موعد أقصاه الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1948، وهي حقيقة لا تثقل على ذاكرة الحنين إلى الماضي، الليبرالية.

وفي مقال بعنوان ("سفينة المجانين" مازالت تطفو..) نشرته "هآرتس"، يحاكي عمل سبستيان برانت الأدبي من القرون الوسطى، يشير ساند إلى "حرب التحرير" التي حررت 750 ألف فلسطيني من أرضهم وبيوتهم وإلى استكمال إسرائيل لانتصارها العسكري والاحتلالي، بوضع غالبية الذين ظلّوا من أبناء البلاد الأصليين، تحت الحُكم العسكري حتى عام 1966... وهي فترة لم تكن إسرائيل فيها ديمقراطية حقيقية، أو ليبرالية بدرجة أقلّ.

إلا أن التحول الحقيقي حدث، وفق تصوّره، "لدى احتلال أراضي الـ67، عند توسع إسرائيل إلى حدودها التاريخية والطبيعية، وتحرير الخليل مدينة إبراهيم، وأريحا، المدينة التي احتلت من قبل يهوشوع بن نون، وخصوصا القدس عاصمة مملكة داوود وسليمان الكبرى، قد غير مرة أخرى النموذج الهوياتي المهيمن".

وهو تحوُّل جعل -استنادا إلى ساند- من قضية الحياة وفق نموذج "سفينة التائهين" التقليدية، أمرا حقيقيا، حيث يعيش في الطابق العلوي "أبناء الحرية" العائدون إلى "وطنهم التاريخي"، وفي الطابق التحتي السكان الأصليون الذين ولسوء حظهم، ودون وعي تاريخي، يعيشون في أرض وعد بها أبناء نسل إبراهيم، كما يقول ساخرا.

وبعكس رجال "المباي" ونسلهم الذين يملأون الشوارع اليوم، مطالبين بالديمقراطية اليهودية التي يعتقدون أنها كانت قبل قدوم نتنياهو وشركائه، فإن المثقفين من مارتن بوبر، وحتى حنة آرندت، قد أدركوا سلفا أن إقامة دولة يهودية في بوابة الشرق الأوسط، لن يخلق "أثينا ديمقراطية عصرية"، بل سيخلق أسبرطة صغيرة ومسلّحة، ولسوء الحظّ فإن المثقفين، كما يقول ساند، هم من صدّقوا ولم يتبقَّ لنسل الآباء سوى الاستمرار في الطفو بـ"سفينة مجانين" يهودية، والحلم بماض لم يكن، وبمستقبل لن يكون.

التعليقات