24/08/2023 - 16:23

"الجريمة والثواب"

بجرة قلم أخرى تستطيع الحكومة الإسرائيلية عن طريق وزارة التعليم، أو وزارة العمل، إذا ارادت، تجفيف منبع آخر من منابع الجريمة، عبر استيعاب عشرات آلاف الشبان العرب الذين لا يعملون ولا يتعلمون، بدورات تدريب واستكمال مهني، يتم فتحها خصيصا.

(Getty Images)

من اعتقد حتى الآن أن استفحال الجريمة في المجتمع العربي الفلسطيني، نابع من عجز وقصور في أداء الشرطة الإسرائيلية، شاهد هذا كفاءة هذا الأداء على جلود أعضاء كنيست عرب، ورؤساء سلطات محلية، خلال الاعتداء البلطجي الذي قامت به وحدات "اليسام" على المظاهرة السلمية، التي نظمتها السلطات المحلية العربية أمام الكنيست، احتجاجا على حجب الميزانيات واستفحال الجريمة.

ولن يقولن أحد كما كتب أحد الرفاق، أن هذه شرطة بن غفير، فقد سبق ورأينا شرطة شلومو هيلل في يوم الأرض 76، وشرطة شلومو بن عامي في هبة القدس والأقصى عام 2000، وشرطة عومر بارليف في هبة الكرامة 2021، وجنازة شيرين أبو عاقلة، وكلهم من حزب العمل.

إنها شرطة إسرائيل التي تميز بمفهومها بين "العربي السيئ" الذي يطالب بحقوقه اليومية والوطنية، ويدافع عن شعبه وأرضه ويأبى إلا العيش بكبرياء فوقها، وبين "العربي الجيد" الذي هو إما عميل، أو سمسار، أو مجرم قاتل بالوكالة يتبع لإحدى عصابات الإجرام، التي تخدم الأجندة السلطوية، وتعمل تحت أبصار "الشاباك" والشرطة الإسرائيلييْن.

هذه الشرطة التي تربت وتدربت على هذا الأساس، تدرك جيدا من هو العدو ومن هو الصديق والحليف، بل الخادم التابع في حالة عصابات الإجرام، ولذلك لا يمكن اتهامها بالعجز والقصور، بل بالتواطؤ والتآمر، واستخدام هذه العصابات، وتوظيفها وتحريكها لخدمة سياسة المؤسسة التي تشكل أحد أذرعها الضاربة.

ومن المضحك الادعاء بأن شرطة إسرائيل عاجزة عن الوصول إلى القتلة، وأوكار العصابات التي تشغلهم، وبعثرة أعشاشها، ولكنها لا تفعل لأن ذلك يتناقض مع سياسة شرطوية سلطوية إسرائيلية صهيونية، ترى في العربي الفلسطيني الصالح المعتز بشعبة وهويته، عدوا محتملا، وترى في تماسك وتطور المجتمع الفلسطيني خطرا مستقبليا؛ في سياسة تسعى لإفساد قيم الفلسطيني الفرد، وتفكيك روابط المجتمع الفلسطيني، وتقويض أساساته والتسبب بانهياره.

من هنا، يصحّ القول في حالتنا: "يا طالب الدبس..."، أو إننا "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، لأن علاقة إسرائيل كمؤسسة وذراع شرطوي بالهوامش الرثة والخارجة على المجتمع الفلسطيني، كانت دائما علاقة عضوية، حيث استخدمتهم -وما تزال- كرأس حربة ضد شعبهم هنا، وفي الضفة وغزة، وفي لبنان والشتات.

هذا الاستنتاج يجب أن يعيدنا إلى الأخذ بالأسباب، كما يقولون، وإلى سؤال كيف يكون رئيس حكومة جادا في مكافحة الجريمة، وهو يغطي وزير ماليته في عملية حجب الميزانيات عن المجالس العربية لسبب عنصري مكشوف، وهل من جدوى بجلوس رئيس اللجنة القطرية في لجنة فرعية لمكافحة الجريمة برئاسته، يقتصر دورها ونطاق بحثها على كيفية إدخال "الشاباك"، لمساعدة الشرطة في مكافحة عصابات الإجرام، ونحن نعرف وباعتراف الشرطة، أن "الشاباك" هو من يوفر الحماية لأفراد هذه العصابات.

نحن نعرف أيضا أن الحكومة الإسرائيلية قادرة، بجرّة قلم، على تجفيف منابع الجريمة في المجتمع العربي، عن طريق الإيعاز لبنوكها التوقف عن التمييز ضد العرب في منح الاعتمادات والقروض، وفي جباية فوائد هي أضعاف أضعاف الفوائد التي تجبيها من اليهود، وهو ما يتبدّى بالأرباح الخيالية للمصرفيْن العاملين في المجتمع العربي؛ "مركنتيل" و"لئومي"، وذلك تحت "حجة الخطورة" الزائدة في سداد القروض عند العرب، والتي تستند إلى استطلاعات رأي قديمة، تحولت إلى آراء مسبقة بأن العربي "نصاب"، علما بأن نسبة "الأموال الضائعة" التي لا تسدد عند العرب، لا تذكر بالمقارنة مع اليهود.

الطريق للقضاء على "السوق السوداء" معروف، وهو يتمثل بفتح الاعتمادات البنكية عن طريق وتعامل البنوك بمساواة مع أصحاب المصالح التجارية، ووقف عملية الابتزاز والخنق المالي المتواصلة ضدهم، والتي تدفعهم إلى أنياب سوق المال الأسود، وتنتهي بالكثير منهم إلى الإفلاس، وخسارة أموالهم وحياتهم، أو حياة أحد أفراد أسرتهم، وهو أحد المنابع الأساسية للجريمة.

بجرة قلم أخرى تستطيع الحكومة الإسرائيلية عن طريق وزارة التعليم، أو وزارة العمل، إذا ارادت، تجفيف منبع آخر من منابع الجريمة، عبر استيعاب عشرات آلاف الشبان العرب الذين لا يعملون ولا يتعلمون، في دورات تدريب واستكمال مهني، يتم فتحها خصيصا لهذا الغرض، وهي مهمة من شأنها أن ترفد سوق العمل الإسرائيلي بأيد عاملة شابة، وقابلة للتطور، وقد رأينا قدرة إسرائيل على استيعاب مليون مهاجر روسي جديد، غالبيتهم من الشباب، وإعدادهم لسوق العمل عبر افتتاح عشرات، وربما مئات دورات الاستكمال والتأهيل المهني.

أما الحديث عن موضوع الخدمة "المدنية" أو "القومية"، والذي غرّد به البعض، فهو أسوا الطرق وأقصرها نحو هاوية أخرى لخلق "العربي الجيد" لإسرائيل، والسيئ لشعبه وبلده، وطريقة أخرى لإعادة تدوير الجريمة.

التعليقات