26/10/2023 - 16:58

مع الاحترام للفلّوجة... غزّة نموذج بحدّ ذاتها

المعادلة واضحة بشقّيها؛ إنّ القضاء على حماس أو جناحها العسكريّ لا يعني القضاء على المقاومة الفلسطينيّة القادرة على تبديل لونها وأشكالها ومعاودة الظهور بمظهر أقوى وأشدّ مثلما فعلت حماس ذاتها...

مع الاحترام للفلّوجة... غزّة نموذج بحدّ ذاتها

(Getty)

في وقت يستحضر فيه الأميركيّ تجاربه الحديثة في حرب المدن ليضع الإسرائيليّ أمام مفاضلة بين تجربة الفلّوجة الّتي وتجربة الموصل في العراق، قبل أن يوصى باختيار الثانية الّتي اقتصرت على توغّلات محدودة ليجنّبه الخسائر البشريّة الّتي مني بها في الفلّوجة، فإنّ ما ينتصب أمام الجيش الإسرائيليّ بعسكريّيه وقياديّيه هو نموذج غزّة فقط.

غزّة بتاريخ مقاومتها الّتي حطّمت كبرياء جنرالات إسرائيل من شارون ورابين وحتّى غالانت وهليفي، تصمد اليوم تحت أطنان المتفجّرات والحمم الناريّة الّتي تنهال على رؤوس سكّانها، وتستعدّ بتحدّ لـ "الحرب" البرّيّة الّتي ما زال كبار جنرالات الجيش الأميركيّ والإسرائيليّ يتوجّسونها خيفة، لأنّهم إن عرفوا كيف يدخلونها فلا يعرفون كيف يخرجون منها.

غزّة هي قوّات التحرير الشعبيّة في الستّينيّات، والجبهة الشعبيّة وفتح في السبعينيّات والثمانينيّات، وحماس والجهاد اليوم، تتبدّل الفصائل والأسماء، وتبقى المقاومة مشتعلة ما بقي الاحتلال، بمعنى أنّهم وإن قضوا على حماس، كما يعتقدون، وهناك سيناريوهات لحمل رجال حماس والجهاد على ظهر سفن مثلما فعلوا برجال فتح والجبهة الشعبيّة بعد حصار بيروت 82، فإنّ غزّة، على غرار لبنان، قادرة على إنجاب مقاومة أقوى وأشدّ.

المعادلة واضحة بشقّيها، الأوّل إنّ القضاء على حماس أو جناحها العسكريّ لا يعني القضاء على المقاومة الفلسطينيّة القادرة على تبديل لونها وأشكالها ومعاودة الظهور بمظهر أقوى وأشدّ مثلما فعلت حماس ذاتها، والثاني أنّه لا يمكن القضاء على حماس؛ لأنّها حركة أيديولوجيّة دينيّة - اجتماعيّة لها جذور ضاربة في قلب المجتمع الفلسطينيّ، إضافة إلى كونها حركة مقاومة، ولذلك، تراجعت إسرائيل عن تهديدات السحق والمحو، واستبدلتها بتقويض سلطة حماس في قطاع غزّة.

نتنياهو ربّما يدرك ذلك جيّدًا، وإن كان يتنازعه أو هو يقع، كما يقول بن كسبيت، بين توجّهين، الأوّل، هو توجّه إيفي إيتام وهو جنرال احتياط متطرّف يتبع للصهيونيّة الدينيّة، وصاحب توجّه هجوميّ قتاليّ، لا يقيم وزنًا للمخاطر والحسابات الزائدة والثاني هو توجّه الجنرال احتياط يتسحاق بريك الّذي لا يؤمن بقدرة الجيش الإسرائيليّ على تحقيق إنجاز جدّيّ في غزّة؛ ولذلك يرى أنّه من المفضّل إعلان الانتصار وإنهاء الحرب.

بعد اجتماعه بالجنرال إيتام اجتمع نتنياهو للمرّة الثانية بالجنرال بريك بحضور رئيس مجلس الأمن القوميّ تساحي هنغبي، وأنصت جيّدًا إلى تساؤلاته حول "استعداد الجيش للهجوم البرّيّ، وفيما إذا كانت لديه قائمة أهداف محدّدة، وما هو الإنجاز المطلوب تحقيقه؟ وهل هناك إنجاز محدّد؟ وفيما إذا كان يمكن قياسه؟ ومتى نعرف أنّنا قد انتصرنا؟ كما يقول".

وذلك إلى جانب تساؤلات تتعلّق بالمدّة الزمنيّة الّتي ستستغرقها العمليّة وأعداد القتلى الّتي ستحصدها، وهل ستقود إلى فتح جبهات أخرى؟، مثل تدخّل حزب اللّه واحتمال نشوب حرب إقليميّة، كذلك تأثيرها في استقرار أنظمة صديقة في المنطقة. هذه التساؤلات، كما يقول بن كسبيت، حسمت تخبّط نتنياهو لصالح التوجّه الثاني، ومن يعرف نتنياهو لن يكون متفاجئًا، لأنّه جبان، كما يقول.

وكما هو معروف، فإنّ نتنياهو رغم تطرّفه السياسيّ، إلّا أنّه على عكس شارون وبيرس وبراك وأولمرت وغيرهم من زعماء إسرائيل، لم يبادر إلى حرب أو مواجهة عسكريّة شاملة، ليس لأنّه جبان، كما يعتقد بن كسبيت، بل لأنّ خطواته محسوبة جيّدًا، وتتلازم فيها مصلحته الشخصيّة ومصلحة إسرائيل السياسيّة جنبًا إلى جنب، وهو في هذا السياق، ينظر ليس فقط إلى واقعيّة الأهداف وإمكانيّة تحقيقها وتأثير ذلك على استراتيجيّة اليمين السياسيّة الّتي بناها على مدى سنوات طويلة، وتتمثّل بتفكيك القضيّة الفلسطينيّة تمهيدًا للقضاء عليها، بل إلى اليوم التالي بعد الحرب أيضًا ولجنة التحقيق الّتي تنتظره.

المحلّل السياسيّ للشؤون العربيّة في صحيفة "هآرتس" تسفي برئيل، يشير في مسألة القضاء على حماس، إلى أنّ غزّة هي واحدة فقط من الساحات الإقليميّة الّتي تعمل فيها الأخيرة، فهي تمتلك قوّات مسلّحة في مخيّمات اللاجئين بلبنان قادرة على إطلاق صواريخ باتّجاه إسرائيل، كما أنّ المصالحة الّتي جرت مؤخّرًا بينها وبين سوريا بعد انقطاع طويل من شأنها أن توفّر لها قاعدة إضافيّة، هذا ناهيك عن أنّه من المرجّح أنّ إسرائيل لا تريد فتح حرب ضدّ قطر الّتي يوجد فيها جزء من القيادات السياسيّة للحركة.

حماس، حركة يمتدّ مؤيّدوها إلى جميع الدول العربيّة والإسلاميّة، بما فيها تلك الّتي وقعت اتّفاقيّات سلام مع إسرائيل، وهو تأييد ساهم في تعاظمها وتسلّحها العسكريّ، ومن شأنه أن يزداد بعد القصف والحرب الإسرائيليّة على غزّة.

إنّها تساؤلات تضع تحدّيات إضافيّة أمام الأهداف الإسرائيليّة الّتي تتحدّث عن محو حماس وسحقها وتقويض سلطتها، وتضع إسرائيل أمام مفاضلة بين مواجهة حماس كسلطة منضبطة ومرتبطة بإسرائيل بشكل أو بآخر في حدود قطاع غزّة، أو مواجهتها كحركة مقاومة أو "حركة جهاديّة"، بلسان برئيل، في كلّ هذه الساحات.

التعليقات