18/12/2006 - 10:09

عنصرية الإعلام والسياسة في لبنان../ ليلى نقولا الرحباني*

عنصرية الإعلام والسياسة في لبنان../ ليلى نقولا الرحباني*
طالعتنا بعض وسائل إعلام السلطة الحاكمة من خلال تحليلات ومقالات وبرامج talk show بتفاصيل ومشاهد عن الاعتصام الموجود في وسط بيروت، وصور للنرجيلة والكعك والمأكولات البسيطة والزهيدة الثمن، وكأن هذا الإعلام وهذه الأفواه والأقلام تريد أن تستنكر هذا التحول في وسط بيروت، أو كأن هؤلاء يستهولون هذا المنظر في الوسط التجاري، ويتأسفون على حاله متخوفين من أن تخدش عيون «سيدات الطبقة المخملية» مناظر الباعة المتجولين، وأصحاب العربات المتنقلة الذين يحاولون بيع بضائعهم للمعتصمين لتوفير قوتهم وقوت أولادهم.

منذ بدء الاعتصام والإعلام اللبناني المملوك من أحزاب السلطة الحاكمة يبث أخباراً أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها تحتوي على تصنيفات عنصرية للمعتصمين، وهي عنصرية طفت على السطح بأبشع صورها... عنصرية أين منها العنصرية التي يمارسها الاسرائيليون على الشعب الفلسطيني، وعلى أبناء دينهم وعرقهم، يهود «الفلاشا» السود القادمون من أفريقيا؟، فالسلطة الحاكمة في لبنان وإعلامها اليوم، يمارسون أبشع أنواع العنصرية، عنصرية مذهبية، وعنصرية طبقية، فهل هم يبتدعون شيئاً جديداً، أم هي تصرفات ممتدة عبر التاريخ؟

يعتقد بعض الباحثين أن أول فعل عنصري في التاريخ يعود الى مقتل هابيل على يد أخيه قايين. فلقد انطلق القاتل إذّاك من كونه ينتمي الى مجموعة رعاة، فيما المغدور به كان ينتمي الى فصيلة المزارعين التي كانت تعتبر في مرتبة أدنى. ففي نظر قايين، مجتمع الرعاة أرقى وأعرق من مجتمع المزارعين، لذلك من الطبيعي قتل هذا العنصر الهجين الذي يشكله هابيل، الموضوع على مرتبة دنيا في التقويم المعتمد.

أما العنصرية بتأريخها السياسي الواضح، فتعود الى الحضارة الإغريقية اليونانية، وبالتحديد الى أثينا، فقد اعتمد المجتمع آنذاك تقسيمات جذرية فوضع فئة المواطنين أي أصحاب الحقوق داخل أسوار الحاضرة، فيما من كانوا يعيشون خارجها كانوا يُنعتون بالبرابرة. فالمتحضّر هو ابن الحاضرة أما سواه فمن البرابرة ولو كان إغريقياً مثله. والديموقراطية التي اشتهرت بها أثينا لم تكن متوافرة لكل الناس، بل كانت أمراً يخص هؤلاء وحدهم ومحجوبة عن الآخرين، عن البرابرة. القانون يطبق على أهل الحواضر، والحقوق السياسية والمدنية كانت حكراً على هؤلاء من فئة «المواطنين»، بينما كانت حصة البرابرة الأعراف لا القوانين، والحقوق السياسية لم تكن تشملهم بل منطق الغلبة العسكرية والإخضاع القسري لمشيئة أهل الحواضر من الإغريق. وها إن إعلام السلطة وسياسييها يعيدوننا بالذكرى الى الوراء، الى أيام أثينا. فهم المتحضرون وأبناء المعارضة هم البرابرة، ولو كانوا إخوانهم في الوطن. الديموقراطية حكر عليهم، أما تداول السلطة وإسقاط الحكم عندما لا يلبي متطلبات شعبه فحق من حقوقهم المشروعة، ولكن إذا جرؤت المعارضة على المطالبة بهذه الأمور، فالويل والثبور... ناهيك بحق التعبير والتظاهر والاعتصام في الساحات فهو مخصص لهم بامتياز بل حق من حقوقهم الحصرية، بينما اعتصام الآخرين وتظاهرهم فيهدد الاستقرار العام والسلم الأهلي، ويُدخل البلاد في المجهول ويؤدي الى ضائقة اقتصادية لا مثيل لها.

حتى الدماء الزكية الطاهرة التي تُهدر من أجل لبنان، باتت مصدراً للتمييز بين شهدائهم، الذين يحظون بكل إجلال واحترام والمطالبة بكشف الحقيقة من خلال محاكم دولية، والشهداء الآخرين سواء الذين سقطوا في المواجهة مع اسرائيل أو الشهيد الشاب الذي سقط برصاص الغدر أمام منزله عند عودته من الاعتصام، والذي رفض الرئيس السنيورة اعتباره شهيداً بحجة أنه سقط في شوارع بيروت وليس على الجبهة مع اسرائيل، ما يدفعنا الى طرح التساؤلات التالية:

ألم يسقط جميع شهداء انتفاضة الاستقلال في شوارع بيروت؟ ولماذا يُطلب كشف الحقيقة وتحقيق العدالة في بعض الاغتيالات المحددة، بينما الاغتيالات الأخرى تبقى طي النسيان؟ هل لأن السلطة تعرف مرتكبيها وتريد التستر عليهم؟ والأهم، على الصعيد الإعلامي، لماذا لا يقوم المصابون جرّاء العدوان الاسرائيلي على لبنان من المدنيين أو المجاهدين، بنفث «سمومهم» على اللبنانيين ليل نهار كما يفعل «شهداؤهم الأحياء».

لقد أظهر سياسيو السلطة وإعلامها الى العلن، مقدار العنصرية المتجذرة في الثقافة السياسية لبعض الفئات اللبنانية. وللمرة الأولى يتجلى بهذا الوضوح شعور «العظمة» و«التفوق» اللذين يسودان بعض المجتمعات في لبنان.

فالمظاهر العنصرية تجلت في الخطب السياسية وفي الإعلام بشكل لا سابق له في تاريخ لبنان الحديث، لدرجة أن الشباب المؤيد لهم لم يحاول إخفاء ازدرائه للأطراف الأخرى ولشعائرها الدينية في التظاهرات التي دعته إليها السلطة الحاكمة، ولم يحاول أحد من المسؤولين توجيههم أو ثنيهم، ما يدل على أن عنصريتهم لا تشمل فقط الفئات الشعبية التي تتفوّه بالتعابير المهينة للكرامة الانسانية في حياتها اليومية، وتطعّم مفرداتها بأقاويل تحطّ من شأن الآخر، من دون تفكير أو مجهود عقلاني يُذكر، بل إن هذا الأمر يتسع ليضم شريحة من السياسيين و«الإعلاميين» في بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، التي تعمل على ترويج نظريات عنصرية بأساليب عدة، فمنها من يضع صور الشاورما والنرجيلة والبائعين المتجولين، ومنها من يتأسف لوجه بيروت «الحضاري» وكأن بيروت لم تعتد على هذه المناظر في «كورنيش المنارة» أو كأن وجه بيروت فقط هو في «أصحاب الثروات الخليجيين» الذين يعرف الجميع لماذا يؤمّون لبنان وما هي «المعالم السياحية» التي يبغونها.

ميزة العنصرية التي يطورها أصحاب السلطة أنها تقوم على مشروع سياسي مذهبي، يترافق مع مشروع اقتصادي يُريد أن يُخضع الجميع من منطلق أن الآخرين موجودون في الوطن وعلى الأرض إسوة ببقية الكائنات الحية، أو كمصادر للاستفادة كعمال أو موظفين، لكنهم لا يمكن أن يكونوا موجودين في الحقوق السياسية أو الشراكة في صنع القرار الوطني.

والعجيب أن الإقطاع الحاكم يطلق صفة «الشمولية» على الآخرين متجاهلاً أن أفكار الانغلاق والعنصرية التي يمارسها وأي إيديولوجيات عنصرية على مدى الأزمنة هي مستمدة من الايديولوجيات التوتاليتارية وخاصة النازية، فالتجديد في الفكر العشائري والعنصري مستمر على الدوام، والمثقفون الجاهزون للقيام بعملية إعادة التأهيل النظرية هذه كثر، وهم معروفون بمثقفي السلطة وأزلامها. هكذا نستنتج أن العنصرية عند الفريق الحاكم في لبنان ليست حكراً على من يمارسها فقط، بل إنها مسؤولية من يعمل لها ويعمّمها وينشرها ويحاول إقناع الناس بصحتها.

يا دولة الرئيس السنيورة، يقول Isaac Steinberg: «.... إن دماء الإنسان حمراء في مختلف الأحوال، وهي متشابهة إن سالت نقطة دم باسم العنف، الظلم، الاستبداد... أو جرت سواقي باسم الإرهاب. فليس هناك من فارق بينها، إلا إذا رفضنا ذلك عن خبث دنيء....».

"الأخبار"

التعليقات