15/06/2009 - 08:00

هل الرأسمالية ملازمة للديمقراطية؟/ عبد الاله بلقزيز

-

هل الرأسمالية ملازمة للديمقراطية؟/ عبد الاله بلقزيز
تتبجح الرأسمالية العالمية منذ انهيار “المعسكر الاشتراكي” في مطلع هذا العقد بتحقيقها الانتصار التاريخي على نموذج النظام السياسي التوتاليتاري (الشمولي) الذي أقامه حكم الشيوعيين في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، كما بالانتصار على نموذج النظام الاقتصادي القائم على التخطيط المركزي، والقطاع العام، وتدخلية الدولة، الذي ساد في هذا المعسكر وفي بعض ردائفه في دول الجنوب . وجد هذا التبجح من يعتني بأمره، فيرفعه الى مرتبة التنظير، فكان من ذلك مثلاً ما لهج به فوكوياما طويلاً حول “نهاية التاريخ” على إيقاع انتصار الرأسمالية في المنافسة الكونية الطويلة ضد “الاشتراكية” . أما الشراح الصغار، فقد اكتفوا من الأمر كعادتهم بكتابة حواش على متن “الأطروحة” تلك، فكان أن أمعنوا إسهاباً بل قُل إسهالاً في تعريف الخليقة بعميم الفوائد الناجم عن العمل بالوصفات السحرية للخوصصة في الاقتصاد، و”الدمقرطة” في السياسة! وكم يعرف اللبيب النبِه من بني قومنا نحن العرب أن ذلك عنى، في الجملة والتفاصيل، تفويت ممتلكات الدولة والمجتمع لخواص خرجوا من رحم النهب والفساد، ليقدموا أنفسهم ببلاهة رائعة فرسان تنمية بديلة من التنمية الدولتية الوطنية! مثلما عنى تحويل المنافسة الديمقراطية من منافسة مدنية وسياسية حديثة الى منافسة أهلية تقليدية بين الطوائف، والعشائر، والقبائل، ووكالات وتجار الانتخابات، ممن لا يرون في الاقتراع سوى موسم اقتصادي تُشترى وتباع فيه الذمم والضمائر .

ومع أن تخطئة القوي وتكذيبه أمرٌ في غاية الصعوبة حتى لا نقول في غاية الاستحالة بسبب وَهَن موقع الحقيقة أمام موقع القوة، إلا أنه في وسعنا التوسل بسوابق التاريخ دليلاً نفقأ به العين الرأسمالية المحمرّة المسلطة بعنف حادج على أقل استفهام . في وسعنا أن نستدعي حقيقتين تاريخيتين معاصرتين طريتين تفضحان حدود الصلة بين الرأسمالية الظافرة اليوم لعوارض صبّت في طاحونتها وبين ما تدّعيه من مقومات طبيعية في شخصيتها، نستدل بهما على استواء الفارق بين ما هو عليه أمرها في الواقع، وبين ما تحمل الوعي الغافل الذاهل على الأخذ به بداهة وتسليماً .

أول الحقيقتين أن الرأسمالية لم تَبلُغ شأواً تتباهى به من باب إجراء أمر التنمية على مقتضى الخوصصة والمنافسة والمبادرة الحرة، بل هي أتت ذلك وبلَغَتْهُ حصراً من باب التوسل بالدولة، والتخطيط المركزي . وإذا كانت سيطرة الدولة في الغرب، اليوم، على أهم قطاعات الإنتاج الاستراتيجية والحيوية دليلاً كافياً على ذلك، فإن سيّد الأدلة على الإطلاق هو أن الميلاد المتجدد للرأسمالية بعد أزمتها العميقة في العام 1929 إنما جرى من خلال نظام التخطيط المركزي وتدخلية الدولة على نحو ما تفيدنا به سياسة ال New Deal (الخطة الجديدة) الأمريكية . وعليه، نفهم جيداً معنى أن يتوجه خطاب الغرب بوصفات الخوصصة، ووقف الإنفاق على برامج الاستثمار، وتحرير السلع من التغطية (صندوق الموازنة)، ووقف برامج التوظيف والتشغيل للطاقة البشرية، وخفض قيمة العملة لتشجيع الاستثمار الأجنبي، وإنجاز برنامج التقويم (أو التصفيح) الهيكلي P .A .S . . .، لدول الجنوب حصراً دون منظومة الشمال، بحسبان ذلك تشجيعاً على التبعية لا على التنمية، وتسويقاً للتخلف في لغة مخملية .

وثاني تينك الحقيقتين أن الديمقراطية لم تكن دائماً جوهراً للنظام السياسي في المجتمعات الرأسمالية، بل إن هذه كثيراً ما أنجبت أشد النظم دكتاتورية وفاشية في التاريخ، والمثال النازي الألماني، والفاشي الإيطالي، والفاشي الإسباني، والدكتاتوري العسكري في اليونان والبرتغال، ثم في كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة، وسواها من أسطع الأدلة على غياب التلازم العاهوي بين الرأسمالية والديمقراطية .

وعلى الرغم من ذلك، ما زالت الرأسمالية العالمية تملك أن تقدم رواية زائفة عن حقيقتها وطبيعتها . وهي تفعل ذلك ليس بقوة الحقيقة، بل فقط وحصراً بواقع حقيقة القوة .

التعليقات