31/10/2010 - 11:02

"الحسم الإدراكي" أم غياب القيادة النموذج../ خالد خليل

في الضفة، داخل المدن الفلسطينية، كأن شيئًا لم يحدث، باستثناء بعض المواجهات الخفيفة على بعض الحواجز، فالأمور هادئة تمامًا. حتى مظاهرات داخل المدن غير واردة في الحسبان.

ما الذي حدث؟! الاحتلال ما زال جاثمًا على صدور الناس وأرضهم، والأوضاع المعيشية أصعب كثيرًا من ذي قبل بما لا يقاس. المواطن الفلسطيني وفقًا لاستطلاعات الرأي خاب أمله من التسوية ولا يرى أية بوادر أمل لحل ممكن في الأفق.

أزمات وفضائح متتالية للسلطة ورموزها على كل المستويات: الأخلاقية والسياسية والمالية. الفساد يكاد يطال كل شيء، حتى على صعيد المعاملات اليومية الصغيرة للمواطنين. سياسة السلطة لا تتمتع بأي استقلالية فلسطينية، حيث ان المسلك السياسي برمته موجهٌ من قبل أجهزة المخابرات المختلفة التي تتحكم بالبلد والقائمين على السلطة.

مخطط دايتون في بناء الشرطة والأجهزة الأمنية يسير بأفضل مما خُطط له. التنسيق الأمني لم يتوقف لحظة واحدة. الاحتلال الاسرائيلي يصول ويجول في المدن والقرى والمخيمات متى شاء وأينما شاء، ودربه "خضراء ومسهّلة" بدون مواجهة تُذكر.

اشتعلت القدس في الأسبوع الماضي وانتهكت حرمة المقدسات، تهويد المدينة يتقدم خطوة خطوة، والزحف على الأقصى وصل الذورة ببناء الكنيس كخطوة لبناء الهيكل الثالث.
في الأسابيع الماضية ضمّ الحرم الابراهيمي إلى قائمة التراث اليهودي.
بعد هدية الجامعة العربية لإسرائيل قرارها بالموافقة على المفاوضات غير المباشرة، صادقت الأخيرة على بناء مزيد من المستوطنات، وافتعلت أزمة غير حقيقية مع أمريكا.

النظام العربي ومن ضمنه الفلسطيني ما زال يراهن على أمريكا ويقمع أي تحرك شعبي إن وُجد، لا بل يقمع "نوايا" التحرك.
الشعب الفلسطيني، في حالات أخف ضغطًا وتضييقًا، كان ينتفض ويشعل الأرض تحت أقدام المحتلين.
هذه المرة، قرر الشعب الاّ ينتفض وألا يحرك ساكنًا حتى لو أتيحت أمامه الفرصة لذلك، وحتى ولو كان مقتنعًا مئة بالمئة بخطايا وأخطاء السلطة وعبثية الحلول المطروحة، حتى لو توفرت كل الأسباب والمقومات والمقدمات لحالة احتقان شاملة.

أحد الأصدقاء في نابلس، قال لي أثناء الهبة الأخيرة في القدس، إن المدينة هادئة تمامًا وكأن ما يحدث في القدس يحدث في الصين أو في اندونيسيا.
أندونيسيا؟! حتى هناك تظاهر الناس وأدانوا الممارسات الإسرائيلية، فلماذا هذا السكون الفلسطيني والعربي؟! ما هو مؤكد انه لا يمكن للقمع وحده أن يفسر هذه الظاهرة. وفقًا لصديقي النابلسي فإنّ الناس كما يبدو مروا بعملية مسح دماغ شاملة ضمن طريقة ومنهجية ما يعرف في علم النفس بالحسم الإدراكي، والذي بموجبه يتم ممارسة تأثيرات نفسية مكثفة وتراكمية على الشخصية المعنية أو المجموعة المعنية بحيث تتم برمجة شخصيتها وفق أسس وقواعد تؤدي إلى تحويلها لشخصية امتثالية تحترم التلقين والقواعد المفروضة حتى وإن كانت قيودًا عليها، وفي حال توفرت ظروف جديدة تتيح لها الخروج من هذا الامتثال، تحسم أمرها باتجاه الامتثال للقواعد وهي مدركة لذلك تمام الإدراك لتبقي على القيود كما هي.

رغم الإثارة التي تحيط بنظرية الحسم الإدراكي، الا أنها غير مقنعة، وقد تكون في جانب كبير منها متجنية على الشعب الفلسطيني الذي سطر ملاحم بطولية في مكافحة الاحتلال وقدم نموذجًا يحتذى في أنحاء المعمورة.
في الوقت نفسه لا بدّ من ان ينكب الخبراء والمختصون في العلوم الاجتماعية على دراسة ظاهرة الركود هذه التي وصلت الى حد الخَدَر.

من الواضح أن التسرّع في إطلاق الأحكام على الحالة الشعبية في الضفة الغربية قد يحمل في طياته ضررًا كبيرًا على مجمل النضال الفلسطيني، لكن المتتبع للشأن السياسي على هذه الساحة سرعان ما يلاحظ تلك الصلة المباشرة بين حالة الاحباط والركود والاستنكاف التي تميز المشهد الفلسطيني في الضفة، وبين غياب قيادات معارضة حقيقية لنهج السلطة الفلسطينية. وهذا الغياب حصل إما بسبب القمع الشديد (كما حدث مع حركة حماس في الضفة)، أو بسبب الترهل الذاتي (كما يحدث مع اليسار الفلسطيني إجمالاً)، النابع من عدم الوضوح السياسي والارتباط المالي غير المبرَر مع السلطة الفلسطينية.

وفي الحالتين النتيجة واحدة: غياب النموذج القيادي المؤثر على حركة الشارع. ومما لا شك فيه أنه إضافة الى الأسباب الموضوعية (القمع من جهة والارتباط المالي من جهة أخرى)، هناك أسباب اخرى ذاتية كثيرة مسؤولة عن هذا الغياب الفاضح للقيادات المعارِضة، أهمها أن فصائل اليسار وحماس على حدٍ سواء لم تُعِدّ نفسها لهذه الحالة من التقاطب الشديد على الساحة الفلسطينية، والتي فيها حسنت السلطة الفلسطينية مواقعها وسيطرتها على كافة المرافق الحيوية في ظِل تنسيق أمني شامل مع إسرائيل ودعم امريكي لا محدود في معظم المستويات وبشكلٍ خاص الدعم المالي والأمني.

أما المحور الآخر المُعارِض (وبشكلٍ خاص حماس) أخِذ على حين غرة، فما أن اعتقلت القيادات مِن قبل اسرائيل أو من قِبل السلطة، حتى غابت الحركة عن الساحة تقريباً بشكلٍ نهائي في الضفة، وكما يبدو أنها لم تستعد حتى الآن أنفاسها ولم تنظم صفوفها من جديد رغم المساحة الزمنية الطويلة نسبيًا، والا كيف نفسر غياب الاستجابة لدعوة قيادتها في الخارج وغزة الى إشعال نار الانتفاضة في الضفة دعمًا لهبة القدس الأخيرة.

أما اليسار، ليس فقط لم ينظم صفوفه، بل يزداد الاعتقاد أنه لم يفكر في الموضوع إطلاقًا وأنزله عن أجندته. لا اليسار ولا حماس اعدوا بدائل في العلن أو الخفاء كما تفعل الحركات الثورية.

بعض المحللين العرب والفلسطينيين اعتقدوا أن الحل يكمن في تحريك جماهير الداخل التي اذا هبت سيكون تأثيرها كبيرًا على حركة الشارع في الضفة وعندها ستشتعل الانتفاضة الثالثة. لقد غاب عنهم أن قسما كبيرا من قيادات الداخل محسوم أصلا على التيارات المهادنة ومنشغل بالبحث عن يسار إسرائيلي جديد يكرس من خلاله نظرية المساواة الاندماجية.

باعتقادنا أن التفكير بهذه الطريقة، علاوة على أنه يضخم دور جماهير الداخل أكثر من اللازم، فإنه أشبه بالبحث عن حلول سحرية لقضية لا يمكن حلها الا على الأرض داخل الضفة الغربية نفسها.

وأحد الشروط الرئيسية التي ينبغي توفرها من أجل هذا الحل هو توفر النية والرغبة والإرادة لإجراء مراجعة نقدية تقوم بها الحركات والفصائل المعارضة الفاعلة على ساحة الضفة لذاتها أولاً، وللوضع السياسي الفلسطيني بشكلٍ عام ثانيًا، بهدف وضع استراتيجية وأدوات صحيحة بإمكانها تحريك الشارع عندما يستوجب الأمر ذلك. وبدون هذه المراجعة النقدية سيبقى الشارع الفلسطيني على حاله غير واثق بقياداته مستنكفًا عن الفعل.

وبغض النظر عن رفع شعار المصالحة وأهميته المعنوية، فإنّ المعارضة الفلسطينية ملزمة بتوحيد مرجعياتها وأدواتها وخياراتها مقابل خيارات السلطة الفلسطينية التي لا يخطو متخذو القرار فيها خطوة جدية بدون موافقة ومباركة الحلفاء على الساحة العربية والدولية وتحديدًا مباركة مصر وأمريكا!!

التعليقات