31/10/2010 - 11:02

الأزمة المالية – الاستقرار والفوضى والمشاركة العالمية../ خالد خليل

الأزمة المالية – الاستقرار والفوضى والمشاركة العالمية../ خالد خليل
إن ابسط القواعد لتفادي الأزمات وتجاوزها هي قاعدة الموازنة الصحيحة بين الموارد والحاجات. وبالطبع لا يمكن أن تحدث هذه الموازنة من تلقاء نفسها، وإنما تستدعي ضرورتين لا غنى عنهما: الأولى تشخيص صحيح لتلك الحاجات، والثانية حساب الموارد بشكلٍ واقعي وموضوعي وتخطيط توزيعها وفقًا لأولويات محددة سلفًا.

وهنا يدخل التعقيد، لأنّ تحقيق هذه القاعدة يستدعي فعلاً إراديًا لمتخذي القرار، ولأنّ الأمور لا تسير وفقًا لقوانين "العدل الإلهي"، وإنما وفقًا لقوانين السوق والسياسات المبنية على أساسها. وأهم سِمة من سمات السوق العالمي الحالي هي التنافسية الشديدة التي تصل حد التوحش، خاصة في ظِل الاقتصاد اللبرالي، الذي يعلمنا خبراء الاقتصاد أنه هيمن منذ الثمانينيات مع بداية ولاية رونالد ريغان، وكف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد ووقف سياسة التأميم وإطلاق العنان للشركات الكبيرة، ومنحها الامتيازات والتسهيلات في خصخصة الاقتصاد بكافة فروعه. وهذه الحقبة التي ما زالت تمتد حتى يومنا هذا باتت تُعرف بحقبة النيوليبرالية، او اللبرالية الجديدة، تيمنًا بالمدرسة الرأسمالية الكلاسيكية للاقتصاد اللبرالي والذي يعتبر آدم سميث رائدها ومؤسسها.

ويجمع معظم المحللين الاقتصاديين على أن الأزمات الاقتصادية العالمية، منذ أزمة "الكساد الكبير" (1929-1933) وما تلاها من أزمات دورية للاقتصاد الرأسمالي، كانت نتاجًا للاقتصاد اللبرالي المستند إلى حرية السوق واستبعاد الدولة من إدارته أو ضبطه.

ويدلّل هؤلاء على صحة ذلك باستحضار ما يسمى بالفترة الكينزية (نسبة إلى جون ماينارد كينز ودعوته لتدخل الدولة في إدارة الاقتصاد وحل الأزمات والتنمية الاقتصادية التي أطلقها عام 1936، في أعقاب أزمة الكساد الكبير، ردًا على مفاهيم الاقتصاد اللبرالي المستند إلى مبادئ آدم سميث)، هذه الفترة امتدت منذ بداية الستينيات وحتى بداية الثمانينيات، وشهد فيها الاقتصاد الرأسمالي عمومًا والأمريكي خصوصًا انتعاشًا لا مثيل له خلال القرن المنصرم.

ويتفق الباحثون في النظام الرأسمالي على أنّ جميع الأزمات الاقتصادية المفصلية في تاريخه، ارتبطت حلولها بحروب ونزاعات بحثًا عن الموارد وفتح أسواق جديدة في إطار علاقات غير متكافئة بين دول المركز والأطراف، تحكمها القوة النافذة لدول المركز الرأسمالي، ضمن عملية استعمارية مستمرة لهذه الدول، أصبحت مميزًا رئيسيًا لتاريخ وبنية النظام الرأسمالي كما يقول سمير أمين.

أما الأزمة المالية الحالية والتي بدأت تظهر ملامحها في العام 2004 فيما عُرف بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، والتي وصلت ذروتها في الربع الأخير من العام الماضي، مع انهيار وإفلاس عدد من البنوك الأساسية في أمريكا، فإنها سرعان ما تحولت إلى أزمة عالمية. وبفضل النظام المالي المعولم، أصبحت تلقي بظلالها على جميع دول العالم، وبخاصة تلك المنخرطة بفعالية في الأسواق المالية العالمية. ولا غرابة أن تكون الدول الأقل فعالية في السوق المالي هي الأقل تأثرًا بمفاعيل الأزمة، التي أصبح يسميها بعض خبراء الاقتصاد أزمة "الركود الكبير"، على غِرار أزمة "الكساد الكبير" منذ ثلاثينيات القرن العشرين. وهذه التسمية قد تكون أقرب إلى الحقيقة على اعتبار أن الأزمة تتمدد بسرعة متواترة لتطال معظم الفروع الاقتصادية بما يرشحها لتكون أزمة بنيوية للنظام الرأسمالي برمته، خاصة وأنها تضرب في الصميم رأس هذا النظام والمميز المحوري في قضية "العولمة"، ألا وهو عالمية الأسواق المالية والرأسمالي المالي، على حد تعبير برهان غليون.

والسؤال الذي يشغل بال الكثيرين منذ تفاقم الأزمة الأخيرة هو: هل ستكون نتيجة هذه الأزمة معاودة البحث الشرس عن أسواق وموارد من خلال افتعال حروب جديدة إقليمية من الممكن أن تتطور إلى حروب شاملة؟! كما حدث في أعقاب أزمة الكساد الكبير واندلاع الحرب العالمية الثانية التي أحرقت الأخضر واليابس وراح ضحيتها ملايين البشر، والتي لم تكن الولايات المتحدة طرفًا فيها إلى أن استدرجت اليابان بمهاجمة ميناء هاربر لتسويغ اشتراكها في الحرب، ليتسنى بالتالي قطف ثمارها الاقتصادية، والتموضع فيما بعد على رأس هرم النظام الرأسمالي ‍؟!

للإجابة على هذا التساؤل علينا أن نؤكِد أنّ الأزمة الحالية في الولايات المتحدة تحديدًا تعمقت إلى هذا الحد الذي نشهده، وبشكلٍ خاص المديونية العالية والعجز المالي الكبير للخزنة الأمريكية، إنما هي في جانب كبير منها مرتبطة بتكاليف الحروب الباهظة التي شنتها وما زالت الولايات المتحدة منذ أحداث سبتمبر 2001 وحتى يومنا هذا، بدعوى محاربة الإرهاب في أفغانستان بدايةً، ومن ثم غزو العراق في محاولة للخروج من وحل أفغانستان، مختبئة وراء أهداف معلنة غير حقيقية حول امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، في حين أن الهدف الرئيسي من الحرب، من الزاوية الاقتصادية هو السيطرة على النفط العراقي لما يمثله من موقع أساسي في احتياطي النفط العالمي.

ليس لدينا معطيات مقارنة بين تكاليف هذه الحرب وبين الفائدة التي جناها الاقتصاد الأمريكي من غزوه للعراق، لكن من الواضح أن كفة التكاليف الحربية أكبر بكثير من الفائدة المجنية، باعتراف الأمريكيين أنفسهم، حيث أن الحسابات الأمريكية كانت خاطئة هذه المرة، كما في كثير من المرات، بالنسبة لمدة هذه الحرب وتكاليفها وقوة المقاومة العراقية، وما ألحقته من خسائر في صفوف القوات الأمريكية.

لا ينبغي بناءً على ذلك التسرع في الاستنتاج أنّ المرحلة القادمة ستكون خالية من الحروب، خاصة أنّ أمريكا تواصل حربها الآن على أفغانستان وباكستان، وحتى وان لم تكن تشارك مباشرة في البؤر المتوترة والتي تشهد يوميًا حروبًا ونزاعات، كما هو حاصل في دارفور وتشاد والصومال والنزاع الجورجي الروسي، فإنها تغذي هذه الحروب والنزاعات وتدعمها بالمال والعَتاد، وتؤجِج الصراعات بين الفئات والدول المتحاربة ضمن رؤيتها واستراتيجيتها الأمنية في هذه المناطق.

إن إشاعة أجواء عدم الاستقرار والفوضى من خلال توتير الصراعات وافتعال الحروب المحلية، تضع المنطقة كلها على حافة بركان لا يعرف أحد متى ينفجر، ويكاد يكون من العسير تخيّل مدى الدمار والآثار التي سيخلفها هذا الانفجار والمفاعيل التي ستترتب على ذلك.

وليس من الضرورة أن تنشب الحروب بين عمالقة الاقتصاد العالمي كي تتحول إلى حرب شاملة، وربما تؤدي الفوضى وعدم الاستقرار واستمرار الولايات المتحدة في إشاعتهما إلى تطور نزاعات إقليمية، ليس من المستبعد أن تتطور إلى حروب شاملة.

لكن من جانب آخر ليس من الضرورة أيضًا حل الأزمات الاقتصادية عن طريق الحروب والاستيلاء على أسواق موارد جديدة بالقوة العسكرية، فهناك إمكانية من وجهة نظر الاقتصاد الرأسمالي إتباع مبادئ النظرية الكينزية، أو الاستفادة من تجربة النماء الاقتصادي والاجتماعي الصينية وبعض دول أمريكا اللاتينية، من أجل تخفيف آثار الأزمة المالية وتحقيق نمو اقتصادي تدريجي في الاقتصادات العالمية. إلا أن أي تغيرات من هذا القبيل ستكون عصية على التحقق دون قرارات سياسية واضحة فيما يتعلق بإعادة صياغة الأدوار الاقتصادية وبناء نظام مالي عالمي جديد، مع توسيع المشاركة الفعّالة من خلاله للاقتصادات المختلفة في أنحاء المعمورة. ولعل توسيع دائرة المؤثرين في الاقتصاد العالمي وتحويل قمة الثمانية إلى قمة العشرين تأتي في هذا السياق، لكن ذلك وحده ليس كفيلاً بإعادة الاستقرار والحد من الفوضى في الأقاليم المختلفة، دون الأخذ بعين الاعتبار دول الأطراف أيضًا في سياق عملية إعادة توزيع الأدوار العالمية.

باعتقادي أنه في ظل الفوضى العالمية العارمة، ليس بمقدور أحد أو جهة الجزم بعدم احتمالية تحقق سيناريوهات متوقعة أو غير مفكر فيها، لكنها بلا شك لن تكون بعيدة عن الاتجاهات العامة المساقة أعلاه.

خلاصة القول إن الاستقرار الإقليمي والعالمي مرتبط إلى حدٍ كبير بمدى جاهزية الولايات المتحدة، التي مثلت إلى ما قبل تفاقم الأزمة المالية شرطي العالم والقوة أحادية القطب... الخ، لتغيير استراتيجياتها وإعادة النظر باستبدادها وعنجهيتها نحو مشاركة حقيقية مع الآخرين المختلفين في إدارة العالم، بدلاً من الإمعان في سياسة التوتر وخلق القلاقل في الساحات المختلفة، كما هو حاصل حتى الآن.

التعليقات