31/10/2010 - 11:02

الإسلاميون العرب والمسألة العلمانية../ د.خالد الحروب

الإسلاميون العرب والمسألة العلمانية../ د.خالد الحروب
مثّل صعود الأصولية الإسلامية في المنطقة العربية، والأصوليات المتنوعة ثم في مناطق أخرى من العالم، تحدياً لأطروحة "تعلمن العالم"، أي أفول الدين وتوجه مجتمعات العالم نحو علمنة سياسية واجتماعية كما قدر وتوقع مشروع الحداثة الأوروبي. بيد أن هذا الصعود لـ "الديني" على حساب "العلماني" وانتشار الحركات الدينية نُظر له من بعض زوايا التحليل التاريخي على أنه مجرد الحشرجة ولفظ الأنفاس الأخيرة، وربما الطويلة، للدين في العالم، أو هي "صحوة الموت".

من زاوية الإسلاميين أنفسهم فإن النظرة إلى العلمانية، وعلى مدار عقود طويلة ماضية، اتسمت بالسلبية التامة والعداء شبه المطلق. العلمانية في تعقل الإسلاميين معناها فصل الدين عن الدولة، وفتح الباب لكل ما هو غير إسلامي كي يتمدد في المجتمع على حساب الدين.

والعلمانية بحسب التحليل الإسلامي الحركي هي حركة طارئة على المجتمعات العربية والإسلامية ولن تلبث أن تأفل ومعها نظرية "العلمنة المتواصلة" للتاريخ الإنساني.

بروز العلمانية واكتسابها لمساحات جديدة عنَى، بالنسبة للإسلاميين، أفول الدين وخسارته لتلك المساحات. معظم ما تنادي به العلمانية، حسب ما يراه الإسلاميون فيها، ينادي بعكسه الدين، ولذلك فالخصومة هي ناظم العلاقة، نظرياً وواقعيا. العلمانية لا تقبل خلط الدين بالدولة، بينما رؤية الإسلاميين للإسلام هي أنه "دين ودولة"، والعلمانية (الحداثوية الليبرالية على الأقل) تعزز الفردانية وتقدس الحريات، فيما الإسلام، وكل الأديان، تعزز فكر الجماعة وتضبط الحريات وفق الحدود الدينية، العلمانية هي نزع للمقدس عن الطبيعة والكون وبالتالي عن الاجتماع البشري، الدين هو إضفاء للمقدس على ذلك كله وأزيد.

يندرج إدراك معظم الإسلاميين للعلمانية في التعريف الأقصر والمباشر لها: فصل الدين عن السياسة، ومن هنا ينبع معظم عدائهم لها. برغم ذلك ثمة منظرون إسلاميون، أبرزهم عبد الوهاب المسيري، قاموا بتوسيع تعريف العلمانية من ما سماه "العلمانية الجزئية"، أي فصل الدين عن الدولة، إلى "العلمانية الشاملة" وهي فصل كل ما هو مقدس عن كل ما هو دنيوي (حتى لو لم يكن سياسياً) . "العلمانية الشاملة"، بحسب تعريف المسيري، تتسم بأنها كامنة وعضوية وتطال حياة الفرد ونظرته للحياة والوجود وتعيد تشكيل سلوكه اليومي والاجتماعي والمهني بشكل مادي بحت، و"حوسلة" الأشياء والقيم وحتى الأحلام والرغبات أي النظر لها على أنها وسائل مادية تحقق أهدافا مادية ملموسة ليس إلا. وبالتالي فإن هذه العلمانية تصهر الحياة الإنسانية برمتها وفق قالب مادي ليس فيه دور لـ "المقدس" والدين.

لكن مقاربة المسيري للعلمانية (في كتاب موسع من جزءين بعنوان "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" (متناقضة ويزيدها الارتباك الإسلامي والعربي في التعامل معها ولا تقدم منهجاً عملياً للتعامل معها). فهو من ناحية لا يبدو معترضا على العلمانية الجزئية "وفصل الدين عن الدولة" حيث يقول "نحن نذهب إلى أن ثمة فصلا حتمياً نسبياً للدين والكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً (إلا في بعض المجتمعات الموغلة في البساطة والبدائية، حيث نجد أن رئيس القبيلة هو النبي والساحر والكاهن)... فالمؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد مع المؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي حضاري مركب".

وفي نفس الوقت فإن توسيعه لتعريف العلمانية بـ "العلمانية الشاملة والكامنة" ينطبق على معظم إن لم نقل كل جوانب الحياة المعاصرة: شكل التنظيم الحياتي، المهني، تقسيم العمل، العلاقات، الاقتصاد، الثقافة والفن، وكل ما يقود هذه المجالات من حوافز ودوافع ومعظمها الرغبة في الاستكشاف والمراكمة والسعي نحو التحسين.

وهكذا فإن هذا التعريف وتفكيك شكل الحياة المعاصرة بناءً عليه لا يقدم حلولاً ولا يشرح، وهو الأهم، سبب غلبة هذه العلمانية الشاملة وبنيتها الكامنة في كل جوانب الحياة على الرؤى الأخرى للعالم (غير العلمانية مثلاً)، ولماذا يتم تبني هذا النمط العلماني للحياة من قبل شعوب وثقافات العالم وهناك تطلع دائم نحوه ورغبة بامتلاكه.

وهو من ناحية ثانية يفتح للدين العودة إلى السياسة من النافذة بعد أن سد عليها الباب وإن بمواربة، برفضه نزع المقدس عن أهم كل جوانب الحياة الجمعية (ومن ضمنها السياسة). أما المقاربة الأكثر غنى حول موضوعة العلمانية والمجتمعات الإسلامية هي التي يطرحها جورج طرابيشي في كتابه "هرطقات" بجزءيه، ويجادل فيهما أن بذور العلمنة السياسية موجودة في الممارسة الإسلامية منذ القرن الأول الهجري، وأن انفصال السياسة عن الدين كان، في الجوهر، هو الواقع المُعاش في مسيرة التاريخ الإسلامي، وأن التوتر والعداء الإسلامي المعاصر للعلمانية مرده نشأتها الحديثة في الغرب وليس ماهيتها نفسها.

يمكن القول عموماً إن رؤية وتفسير كثير من الإسلاميين الحركيين للعلمانية تتسم بالميكانيكية واللاتاريخية، بمعنى أنها رؤية ينقصها العمق التاريخي وإدراك تجربة المجتمعات والحضارة العربية والإسلامية على مدار أربعة عشر قرناً.

وهي رؤية متأسسة على تفكير وتفسير حرفي للأصول يحيّد التاريخ. فإذا كانت العلمانية هي "الجزئية" أي فصل الدين عن الدولة فإن التجربة التاريخية الإسلامية تشير إلى أن "الدولة الإسلامية" في عهود ازدهارها، الأموي، والعباسي، والأندلسي مثلاً، كانت أقرب إلى الدولة العلمانية منها إلى مثال "الدولة الإسلامية النموذجية" الذي يعتقده ويفترضه الإسلاميون الحركيون اليوم. كان "الإسلام" هو الشعار الفضفاض العريض الذي تتحرك تحته سياسات المصالح والمطامع والأنانيات والحروب والصراعات التي يتم تفسيرها وفهمها وفق عنصر المصلحة السياسية البحتة.

وكان الشعار الديني وسيلة للتوظيف السياسي وقد ساهم في إنجاح المشروعات السياسية والتوسعية لكثير من الحكام والخلفاء المسلمين. بيد أن جوهر التسييس اليومي والعلاقات التي تنسج حوله كان بعيدا عن تحكم الدين. لذلك فإن التطلع نحو حلم "الدولة الإسلامية" كما يرسمه الحركيون الإسلاميون اليوم والاستشهاد بمراحل ازدهارها ونسبة ذلك الازدهار إلى أن النموذج المعتمد كان "الدين والدولة" هو قراءة قاصرة وافتراضية وفوقية للتاريخ العربي والإسلامي. وهي لا تاريخية أيضاً لأنها تستثني تجربة الأربعة عشر قرنا من التسييس الإسلامي (العلماني في جوهره) لكنه غير المعادي للدين بل المتحالف معه، أي ربما أمكن وصفها بـ "العلمانية المؤمنة". وتجربة تلك القرون الطويلة هي جزء عضوي لا يتجزأ من "الإسلام التراكمي" الذي أرادت الحركات الإسلامية أن تبني عليه لكنها عمليا قطعت معه.

وهذا القطع تم بطريقة لا واعية حين أرادت هذه الحركات أن تبعث نموذجا إسلامياً لم يتحقق تاريخياً. وفي أقصى حالات الطوباوية فإنها تقفز عن كل تلك التجارب التاريخية الطويلة لتستأنس بالحقبة الراشدية الأولى، قافزة عن أربعة عشر قرنا من التجربة الغنية والمتداخلة والمتنوعة بنجاحاتها وفشلها وخبراتها، وتعود إلى "البداية النقية" كما هي رؤية سيد قطب اللاتاريخية أيضاً. فقطب دعا إلى العودة إلى "الينابيع الأولى" للإسلام طارحاً التجربة التاريخية جانباً وغير آبه بها..
"الأيام"

التعليقات