31/10/2010 - 11:02

السياسة الإسرائيلية بين الواقع والوهم../علي جرادات

السياسة الإسرائيلية بين الواقع والوهم../علي جرادات
يُجمِع المحللون تقريباً على أن دعوة بوش "للقاء الخريف" لا تعدو اكثر مِن تحرك سياسي امريكي إسرائيلي مشترك يهدف إلى ضرب اكثر مِن عصفور بحجر واحد:

1: العمل على تعميق الانقسام الفلسطيني والتفكك العربي الرسمي الداخلي، بما يعطي فرصة لتحقيق خطوات نوعية اخرى على طريق تصفية القضية الفلسطينية.

2: محاولة احراز نقلة نوعية في مسار التطبيع العربي الرسمي المجاني مع إسرائيل، ودول الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً، هي المستهدفة هذه المرة. وذلك في إطار استراتيجية "التطبيع أولاً"، ومحاولة افراغ "المبادرة العربية" مِن مضمونها.

3: العمل على كسب الوقت لتكريس المزيد مِن حقائق الرؤية الإسرائيلية على الأرض عبر مواصلة نهج المعالجات الأمنية في ادارة الصراع بدل التوجه الجاد لتسويته سياسيا على اساس تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، التي تقر بحق الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير وقيام الدولة الفلسطينية بالقدس عاصمة.

4: العمل على جعل "لقاء الخريف" بمثابة موسيقى تصويرية لتوفير أجواء كسب تحالفات سياسية عربية للمخططات الأمريكية على جبهات عربية واقليمية أخرى، خاصة بعد الفشل العسكري الإسرائيلي في لبنان، وفي ظل الورطة الأمريكية في العراق وافغانستان، ناهيك عن التحدي الإيراني الذي يقع على عاتق واشنطن وتل أبيب "تخليع شوكه".

بلى، يُجمِع المحللون تقريباً على اعتبار أن التحرك السياسي الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، هو بمثابة "حركة بلا بركة"، أي يجمعون على أن لا "بركة" للفلسطينيين والعرب مِن "الحركة" السياسية الأمريكية الراهنة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية؛ وأكثر مِن ذلك، فإن المحللين والمراقبين يحذرون مِن مخاطر هذا التحرك الأمريكي على القضية الفلسطينية تحديداً، ما دعى حتى الأطراف العربية المرشحة لحضور "لقاء الخريف"، بما فيها الطرف الفلسطيني، للتعبير عن قلقها مِن هلامية وضبابية وغموض دعوة بوش؛ فيما لم يخفِ المسؤولون الإسرائيليون صلفهم ومجاهرتهم بتخفيض سقف التوقعات، ما يؤكد رفض تل ابيب للتسوية السياسية وزيف تظاهر واشنطن بالحياد.

بهذا عاد المحللون للوقوف مرة أخرى أمام السؤال عن اسباب عدم استعداد تل أبيب لتسوية سياسية للصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، تلبي ولو الحد الأدنى مِن الحقوق العربية والفلسطينية المغتصبة، على الأقل كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية.

في هذا الإطار، ورغم الاجماع تقريبا على أن "لا بركة في الحركة" الأمريكية، إلا أن هناك مِن المحللين، بل وساسة، ومِن ضمنهم ساسة ومحللين رسميين عرب، ما زالوا يعزون عدم جدية الإدارة الأمريكية والإستعداد الإسرائيلي للتسوية السياسية إلى اعتبارات آنية مِن قبيل: ضعف أولمرت أو قوة معارضته بقيادة نتنياهو أو يمينية المحافظين الجدد بقيادة بوش أو الإدارة الأمريكية في آخر ولايتها أو....؛ بل وستجد بينهم مَن يقول: لو كان حزب العمل على رأس السلطة الإسرائيلية لكان الأمر مختلفاً أو لو كان هناك ائتلافا إسرائيليا أوسع لتغير الحال أو لو كان الحزب الديموقراطي في البيت الأبيض لاختلفت الصورة أو....مِن هذه الـ"لو" اللعينة التي جرى تجريبها في الواقع مثنى وثلاث ورباع ولكن الموقفين الأمريكي والإسرائيلي مِن الصراع وتسويته لم يتغيرا إلا فيما هو شكلي وتكتيكي، وبما يستدعيه تغير الشروط والظروف.

أصحاب هذا المنطق الشكلي غير التحليلي في تفسير الصلف الإسرائيلي تجاه التسوية السياسية، وتفسير ما يحظى به مِن دعم أمريكي، ينسون أو يتناسون، سيان بفعل الهوى والمصلحة أو بسبب الجهالة، أنهم بهذا التفسير انما يكررون ذات المعزوفة منذ ثلاثة عقود ونصف العقد، جرى خلالها تجريب مواقف كافة الوان القيادات الأمريكية والإسرائيلية مِن التسوية، كما ينسون أو يتناسون خبرة التاريخ تقول:

إنه منذ مؤتمر جنيف عام 1973، فاتفاقيتي فك الاشتباك عام 1974 (مصر) و1975 (سوريا)، فاتفاقية كامب ديفيد المصرية عام 1978، فمؤتمر مدريد عام 1991 واتفاق أوسلو عام 1993، لم يحرز العرب عبر الرعاية الأمريكية للمفاوضات مع إسرائيل غير عودة سيناء لمصر، هذا ناهيك أن عودتها كانت بصيغة Buffer State، أي تحويلها لمنطقة واقية أو حاجزة بين مصر وإسرائيل، وبكلفة اخراج الطاقة المصرية، ولو بالمعنى العسكري، مِن الصراع، علماً أن إخراج الطاقة المصرية عنى عمليا إخراج الطاقة العربية، بدليل أنه منذ نهاية حرب عام 1973 واعتبارها آخر حرب كما قال السادات، فإن بلدا عربياً واحداً لم يشن حرباً على إسرائيل، بل إن بلداً عربياً واحداً لم يشارك في التصدي بالمعنى العسكري المباشر للإعتداءات والحروب الإسرائيلية، على كثرتها وبشاعتها، بدءاً باجتياح لبنان واقتحام بيروت عام 1982 مروراً بقصفه التدميري عام 1993 و1996 والحرب عليه في تموز 2006، تعريجا على التنكيل بالانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، وانتهاء بجرائم الحرب التي ترتكب بحق الفلسطينيين في الضفة والقطاع منذ بداية الانتفاضة الثانية 2000 واجتياح الضفة 2002 حتى اليوم.

في تشخيص اسباب الرفض الإسرائيلي للتسوية السياسية، وخاصة تجاه القضية الفلسطينية كجوهر واساس للصراع العربي الإسرائيلي، وكما في تشخيص أي ظاهرة، فإن هناك فرقاً بين تشخيص تحليلي وآخر وصفي. فالأول لا يصف الظاهرة في راهنها فقط، بل يبحث في صيرورتها أيضا، أي يبحث في تاريخها نشأة وتطوراً وآفاقاً مستقبلية. وفي ذلك يكمن سر الفهم الدقيق وبالتالي القدرة على المعالجة الصحيحة، ذلك أن التشخيص الدقيق يشكل نصف العلاج. ولذلك قيل، ويكتسب وجاهة القول: لا صدقية لغير ما زكاه التاريخ.

والحال؛ فإنه ليس مِن التسطيح السياسي فقط، بل مِن السذاجة السياسية أيضاً، أن تجري العودة لتفسير اصرار حكومة أولمرت على نهج المعالجة الأمنية للصراع، انطلاقاً مِن اعتبارات آنية تتعلق بضعفه أو قوة المعارضة له أو....، كما أن مِن المغالطة السياسية بمكان أن تجري العودة لتفسير اصرار بوش على الانحياز لموقف حكومة أولمرت، انطلاقاً مِن اعتبارات آنية مشابهة، ذلك أن هكذا تفسيرات للموقفين الأمريكي والإسرائيلي، وعلاوة على أنها لم تعد مقنعة بعد أن أكل الدهر عليها وشرب، بل وتجشأ أيضاً، فإنها تقفز بخفة النمر عما هو استراتيجي في الرؤية الإسرائيلية ومخططاتها ومواقفها، كما تقفز بذات الخفة عما هو استراتيجي في العلاقة بين الولايات المتحدة ودولة إسرائيل، ما يوقع اصحاب هذه التفسيرات في افخاخ تكتيكات سائد السياسة الإسرائيلية، على اختلاف تلاوينها في كل مرحلة، هذا فضلاً عما تقع فيه مثل هذه التفسيرات مِن خطايا في تشخيص اسباب الانحياز الأمريكي للرؤية الإسرائيلية ومواقفها، التي يشكل الموقف الحالي لأولمرت نسخة جديدة منها، إنما مكررة، ومارسها شامير ورابين وبيرس ونتنياهو وباراك وشارون، منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وحتى يوم الناس هذا. فهؤلاء جميعاً بدعم مِن واشنطن، وبصرف النظر عن تمايزاتهم الكمية والتكتيكية التي يستدعيها اختلاف شروط الصراع في كل مرحلة، اجمعوا وفقا للتجربة العملية، وما زالوا يجمعون، على رؤية استراتيجية تقول: إن فلسطين الانتدابية هي ارض إسرائيلية، وأن لديهم فيها مشكلة واحدة هي: كيف السبيل لحل معضلة ما تبقى عليها مِن سكان فلسطينيين لم يكن بالمقدور اقتلاعهم منها، ولا مجال إلا الإقرار بحقهم في إدارة شؤونهم الذاتية تحت السيطرة الإسرائيلية.

التعليقات