قبل عامين تقريبا، وبمناسبة صدور كتابي الجديد عن تنظيم القاعدة باللغة الانكليزية، دعاني رئيس مجلس ادارة المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (تشاتام هاوس) لإلقاء محاضرة في مقر المعهد في لندن، يقتصر حضورها على 25 شخصا فقط، مختارين بعناية من وزراء وسفراء ورؤساء الشركات العالمية الكبرى، للحديث عن الاخطار المحدقة بالمنطقة العربية.
اللقــــاء ينظم اربع مرات في العام، ويتـــناول مواضيع مختلفة تحت عنوان Director Lunch ، وهو اضيق نطاقا من المحاضرات العديدة التي ينظمها المعهد في حضور حشد كبير من المهتمين. المهم بعد ختام المحاضرة المختصرة، فتح الباب للاسئلة، فبادر احد رؤساء الشركات الكبرى، (رأسمالها 250 مليار دولار) وتحظر قواعد المعهد ذكر اسمه او شركته، بسؤال على درجة كبيرة من الخبث، وهو عن الاسباب التي منعت تنظيم القاعدة من شن هجمات في الامارات العربية المتحدة، وامارة دبي على وجه الخصوص، حتى هذه اللحظة؟
اجـــــبت بكلمات مقتـــضبة جــدا، وقلت ان المسألة مسألة وقت وتوقيت . اي Time and Timing . فتنفيذ عمليات ارهابية الطابع في هذه المنطقة ليس من اولويات التنظيم في الوقت الراهن، ولكن ربما لا يستمر هذا الوضع طويلا.
في الاسبوع الماضي، وبينما كان الرئيس الامريكي جورج بوش الابن واجهزته الامنية والعسكرية، ومعهم معظم الأنظمة العربية الحليفة، يستعدون للاحتفال بالانتصار على تنظيم القاعدة واعلان وفاته رسميا، وقعت عدة تطورات مهمة ربما تشكل تداعياتها مستقبل المنطقة العربية، بل والعالم بأسره.
* التطور الاول: توجيه الحكومتين البريطانية والامريكية من خلال سفارتيهما في دولة الامارات تحذيرات الى رعاياهما بتوخي الحذر الشديد لوجود مؤشرات قوية على تهديد ارهابي خطير للغاية، ربما يتمثل في سيارات مفخخة، او هجمات في اسواق عامة تستهدف اجانب غربيين.
* التطور الثاني: اعلان وزارة الداخلية السعودية عن القاء القبض على 750 شخصا من المتطرفين الاعضاء في خلايا ارهابية تتبع تنظيم القاعدة، وتضم جنسيات مختلفة، تشكل الجنسية السعودية غالبيتها، كانت تخطط لشن هجمات على مجمعات نفطية، وفنادق كبرى، واهداف أخرى، في منطقة الخليج. وهذا العدد ضخم جدا، وقد يكون قمة جبل الثلج وعنوان عدم دقة كل التقارير التي قالت بانهاء التنظيم في السعودية.
* التطور الثالث: اقدام شخص انتحاري على قتل اربعين شخصا من قادة عشائر الصحوة ، وبعض الامريكيين والمسؤولين العراقيين اثناء اجتماع لهم في منطقة الموصل. وتوارد انباء قبلها عن تجنيد انتحاريات لتنفيذ عمليات مماثلة. وهو تطور خطير في استراتيجية التنظيم العملياتية والايديولوجية.
* التطور الرابع: حدوث اشتباكات دموية في طرابلس، شمال لبنان بين جماعات سلفية سنية وأخرى، من ابناء الطائفة العلوية، ادت الى سقوط عشرة قتلى، ولولا تدخل الجيش اللبناني لتضاعف هذا الرقم عدة مرات، وتوارد انباء عن انخراط المئات ان لم يكن الآلاف من ابناء المخيمات والاحياء السنية الفقيرة في التنظيمات والجماعات المتشددة في لبنان.
* التطور الخامس: تشكيل التيار الصدري مجموعات خاصة هدفها مقاومة الاحتلال الامريكي، واسقاط الحكومة العراقية المتعاملة معه. ونفذت احدى هذه المجموعات عملية تفجير في بلدية مدينة الصدر ادت الى مقتل خمسين شخصا بينهم امريكيون ايضا.
ما نريد ان نخلص اليه من هذه الأمثلة هو التنبيه الى حقيقة اساسية، ملخصها ان التطرف السني والشيعي في اتساع، على عكس ما يتصور من الاسلامي بشقيه يوصفون بالخبراء في الشرق والغرب، وان معظم الاساليب التي جرى استخدامها لمواجهته طوال السنوات السبع الماضية، وبالتحديد منذ احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، ادت الى نتائج عكسية تماما، لانها جاءت امنية بالدرجة الاولى، وفشلت في تحليل الظاهرة بشكل سليم، ووضع العلاجات الأنجع لمواجهتها.
ظاهرة التطرف وافرازاتها العنفية والارهابية طفت على السطح، وازدادت قوة، بسبب السياسات الخارجية الامريكية وحروبها المذلة والمهينة والغبية في العراق وافغانستان وفلسطين (من خلال اسرائيل) الآن يمكن القول بان هذه الظاهرة مرشحة لقفزة اكبر واخطر بسبب عامل جديد ظهر في السنوات الثلاث الماضية، يتمثل في الغبن الاجتماعي وزيادة الضغوط على الطبقة الفقيرة المسحوقة وهي التي تشكل الغالبية الساحقة في معظم الدول العربية، الامر الذي سيوفر تربة خصبة للتنظيمات المتشددة، والقاعدة على وجه الخصوص، للتجنيد والتجييش لمئات الشباب الغاضب المحبط.
الحقد الطبقي ينمو بشكل مرعب في اوساط المجتمع العربي، بسبب اتساع الهوة، وبشكل خيالي، بين الاغنياء والفقراء، وتكدس آلاف المليارات في ايدي مجموعة صغيرة لا تزيد نسبتها عن واحد في المئة من مجموع المواطنين العرب البالغ تعدادهم 400 مليون نسمة.
تنظيم القاعدة ، وللتذكير فقط، بدأ نخبويا، يتكون في معظمه من ابناء الطبقة الوسطي. فواحد وحيد من بين التسعة عشر الذين نفذوا هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) عام 2001، لم يملك درجة جامعية عليا، اما الباقون فكانوا من خريجي الجامعات، وينتمون الى اسر وقبائل عريقة. الخلل الطبقي الحالي وافرازاته ربما يحول التنظيم من تنظيم نخبوي الى تنظيم جماهيري عريض، ويدفعه للتوجه الى القاع الخصب المسحوق بالفقر والفاقة والمهانة وانعدام الأفق. وبعض الخلايا المكتشفة مؤخرا في المغرب والجزائر وغزة ولبنان تعكس هذا التوجه.
الأنظمة العربية عدّلت المناهج التعليمية تلبية لضغوط امريكية، تحت ذريعة تحديث مجتمعاتها، وابعادها عن التطرف، فاعطت شرعية اكبر للفكر المتطرف هذا، ونقلته من الكتب الى الانترنت، والطالب الآن يقضي وقتا على الشبكة العنكبوتية اكثر مما يقضي مثله في مدارس مكتظة مهترئة يدرّس فيها مدرسون محبطون وغير اكفاء. فكل ممنوع مرغوب، وكل محذوف من الأنظمة موضع ترحيب.
الأنظمة اخذت من الحداثة الغربية قشورها، اي الفيديو كليب، والعري، وقنوات الثرثرة والغزل غير العفيف، والغناء والرقص الرخيص، وتركت اهم ما فيها وهو العدالة، والديمقراطية، والشفافية، والمحاسبة والقضاء المستقل، وحماية حقوق المواطن، الخاصة والعامة، الأمر الذي فتح المجال اوسع امام ثقافة الرفض والتطرف، والاسلامية منها على وجه الخصوص، بعد ان ضربت الأنظمة، وبمساعدة امريكا ايضا، العلمانية اليسارية لانها تشكل خطرا عليها في حينها.
المنطقة العربية تشهد تكدسا غير مسبوق لرؤوس الاموال بسبب العوائد النفطية الهائلة، واللافت انها لا تعرف كيف تستثمرها في اوطانها، ولا تملك قرار استثمارها في الخارج، بسبب القيود الغربية التي تفرض عليها حاليا، وتحصرها في مجالات محددة تخدم الاقتصاد الغربي اولا. فالغرب يشهد حملة شرسة ضد ما يسمي بصناديق الاستثمار السيادية المملوكة للأسر الحاكمة.
من الغريب ان الحكومات العربية تقول انها تؤسس هذه الصناديق من اجل رفاهية الأجيال المقبلة، بينما تعيش الاجيال الحالية في ظروف معيشية صعبة، ودون توفر الحد الأدنى من الخدمات الاساسية من طبابة وصحة وتعليم.
الاموال العربية تهرب الى الغرب، وكذلك مئات من الشباب العربي الذي يركب البحر، ويواجه الموت غرقا والتحول الى طعام للسمك، بحثا عن فرص العيش الكريم. فأي تناقض هذا، ومن الذي يتحمل مسؤوليته؟ فلماذا لا تستثمر هذه الاموال لخلق وظائف لهؤلاء من خلال مشاريع انتاجية دائمة، وليس مشاريع اسكان فارهة، تقام على ارض شبه مجانية، مقدمة من الدولة، وتصل نسبة العوائد الربحية من ورائها الى اكثر من 200% في بعض الاحيان؟
الدخل السنوي المتوقع للمملكة العربية السعودية هذا العام سيصل الى 400 مليار دولار، اي بمعدل مليار ومئتي مليون دولار يوميا. اين تنفق هذه الاموال؟ في مشاريع بناء مساكن لشركات استثمارية تستهدف الربح السريع.
العاهل السعودي خصص نصف مليار دولار من هذه الثروة، مثلما كشف في مؤتمر المصدرين والمستهلكين للنفط، المنعقد قبل اسبوع في جدة، لمساعدة الدول الفقيرة المتضررة من ارتفاع اسعار الطاقة، اي نصف على اربعمائة من دخل بلاده النفطي فقط، بينما خصص بيل غيتس صاحب مؤسسة مايكروسوفت نصف ثروته الشخصية (50 مليار دولار) لشركة خيرية اسسها لمساعدة الفقراء والمحرومين، واعلن امس اعتزاله من ادارة شركة مايكروسوفت، والتفرغ كليا لادارة مؤسسته الخيرية هذه ومشاريعها في مكافحة الامراض وبناء المدارس والمستشفيات ومساعدة المحتاجين في جميع انحاء العالم دون تمييز.
الانفجار الكبير قادم لا محالة، لأن الوضع الراهن لا يمكن، بل لا يجب ان يستمر، فالغالبية الساحقة من المواطنين العرب تعيش على اقل من دولارين في اليوم، بينما هناك من يلعبون بالمليارات، وليس الملايين، ويكدسونها في البنوك، وسط حالة مرضية من الجشع والانانية وعدم الاحساس بشعور الغير من ابناء جلدتهم.
وربما يجادل البعض بان بعض الدول الخليجية اسست شركات كبرى استثمرت عشرات المليارات في الدول العربية الفقيرة مثل سورية ومصر واليمن والسودان، والمغرب، وهذا صحيح، ولكن لو القينا نظرة على معظم هذه الاستثمارات نجدها في ميادين العقار، ولبناء فيلات وشقق في منتجعات مخصصة للاغنياء اصلا، فمن يشتري شقة بمليوني دولار في منتجع النخيل في دبي او اللؤلؤة في قطر، او مشاريع الاعمار في اللاذقية في سورية او مثيلاتها في لبنان والمغرب واليمن والاردن؟ فالهدف من هذه المشاريع ليس خلق فرص عمل لسكان مدن الصفيح في الدار البيضاء وبيروت والبرامكة في دمشق، وانما جني ارباح خيالية تصل الى مئة في المئة في معظم الاحيان ومعفاة من الضرائب.
التنظيمات الاسلامية المتشددة، و القاعدة منها على وجه الخصوص، تعيش افضل ايامها، والمستقبل اكثر اشراقا بالنسبة اليها، بحيث لا تحتاج لكثير من الجهد للترويج لايديولوجياتها العنفية او الارهابية، فالمناخ ملائم جدا، وعقيدتها محلية غير مستوردة مثلما هو حال الماركسية، ومتجذرة في العقول والنفوس.
التنظيمات المتشددة تعد انصارها بالذهاب الى الجنة بأقصر الطرق، وأسرع الوسائل اي الحزام الناسف، حيث دار البقاء، ترى بماذا تعد انظمة القمع ومعها الولايات المتحدة، كبديل مضاد غير حاضر مهين ومذل، وبطانة فاسدة، ورضوخ كامل لإملاءات المستعمر، وخوض حروبه الظالمة، وآخرة اكثر بؤسا وشقاء.
المنطقة امام عملية تغيير جذرية، فاذا سلمت من الحرب الامريكية ضد ايران وتداعياتها، فانها لن تسلم من ثورة اجتماعية دموية، لان الاحقاد الطبقية والطائفية تتضخم، والحكام غارقون في جمع الاموال، والنوم في العسل بعيدا عن اي منغصات وآخرها الارتفاع الهائل في اسعار مواد الغذاء والوقود.
التعليقات