31/10/2010 - 11:02

القانون الإسرائيلي وقمع العلاقات البشرية../ عبير بكر

القانون الإسرائيلي وقمع العلاقات البشرية../ عبير بكر
نلمس في السّنوات الأخيرة ازديادًا ملحوظًا في عدد لوائح الاتهام المقدمة ضد الفلسطينيين بتهمة الاتصال بعميل أجنبي. وعلى المستوى الفلسطيني داخل الخط الأخضر، لمسنا ذلك في قضية الشيخ رائد صلاح وقياديي الحركة الإسلامية، وقضية الشابة منار جبارين، وقضية محمد خلف قبل سنوات، وفي قضية د. عمر سعيد والسيد أمير مخول المتداولة محليًا ودوليًا في الأسابيع الأخيرة.

وبشكل مواز نلحظ أيضًا تصعيدًا من قبل المحاكم الإسرائيلية في انزال عقوبات السجن في الحالات التي تتم فيها إدانة المتهمين بهذه التهم. وفي غالب الأحيان تحاول النيابة دائمًا دمج تهمة الاتصال بعميل أجنبي مع تهمة أمنية أخرى لتُمكّنها من إضفاء الصبغة الأمنية على قضية الاتصال مع العميل الأجنبي، مما يُفقد المتهم أية إمكانية للفصل وللاثبات بأنّ هدف الاتصال مع العميل لم يكن أمنيًا- بالمفهوم الإسرائيلي.

ويُنزل البند 114 للقانون الجنائي الإسرائيلي على مَن قام بالاتصال بعميل أجنبي وعَن وعي، ولا يوجد لديه أيّ تبرير لذلك، عقوبةَ السّجن مدة خمسة عشر عامًا. ويشمل تعريف العميل الأجنبي، بحسب القانون، كُلّ من كان حوله مجرد شك في أنه عمل أو أرسل للعمل من دولة خارجية لجمع معلومات عن إسرائيل أو للقيام بأيّ عمل قد يمسّ أمن دولة إسرائيل.

ويشمل التعريف، أيضًا، وبطبيعة الحال، كلَّ من هنالك شك في انتمائه أو صلته بإحدى الفصائل المُعرّفة إسرائيليًا على أنها „فصائل إرهابية”. غني عن الذكر طبعًا أن النيابة العامة الإسرائيلية تستطيع بسهولة فائقة إدراج كلّ من رغبت به تحت خانة „العميل الأجنبي” وتعريفه بالعدو، من دون الحاجة للإتيان ببيّنات دامغة.

ولا ينحصر الاتصال بالعميل الأجنبي باللقاء البشريّ العاديّ، فقط، بل يكفي أن يحاول الفرد منا الاتصال به هاتفياً أو عبر شبكة الانترنت أو أن يملك اسم هذا العميل أو مكان سكناه، لنكون بذلك قد خالفنا القانون الجنائي ونعرّض أنفسنا لخطورة السجن الفعلي.

إن التعريف الفضفاض لتهمة الاتصال بعميل أجنبي يصعّب على الفرد منا معرفة الممنوع من المسموح ومتى تكون طبيعة العلاقات مع الآخر (غير المواطن وغير اليهودي) مسموحة قانونيًا ومتى تكون ممنوعة. عدم وجود الحد الفاصل بين الممنوع والسموح في هذه الحالة يتناقض بشكل جوهري مع الأسس الدستورية للقانون الجنائي التي تلزم ايضاح معالم وتفاصيل الجرم بشكل واضح ليتسنى للفرد إدراك طبيعة وماهية تصرفاته.

ومن أجل توضيح الإشكالية الكبيرة أورد فيما يلي بعض القضايا التي وصلت المحاكم الاسرائيلية والتي تجسد الخطورة الكامنة في تحويل العلاقات البشرية، والتي لا يقف من ورائها سوى هدف التواصل البشري أو السياسي الثقافي، إلى علاقات محظورة قد تجر وراءها اعتقالات ومحاكمات تصنف أمنية وما يترتب عنها من عزل المعتقل، وتحقيقات مستمرة، ومنع لقاء محام وسط تعتيم كبير على ظروف اعتقاله أو ما يدور في أروقة المحاكم خلال الاعتقال وما يليه.

فعلى سبيل المثال لا الحصر نستطيع التذكير بقضية الناشط السياسي محمد كناعنة سكرتير حركة „أبناء البلد”، ومحاكمته بلقاء عميل أجنبي. كما يُذكر، قامت النيابة العامة عام 2003 بتقديم لائحة اتهام ضد كناعة بتهمة الاتصال بعميل أجنبي، وذلك لأنه التقى شخصًا يُدعى إبراهيم عجوة، الذي ينتمي -بحسب ادعاء النيابة العامة- إلى فصيل „أبو موسى” التابع لمنظمة „فتح” المُعرّفة كتنظيم إرهابي ومعاد في إسرائيل.

كما نسبت النيابة العامة نفسَ التهمة لكناعنة لأنه قام بزيارة السّجين أحمد سعدات في سجن أريحا، إلا أنها أزالت هذا البند لاحقًا. لم يُنكر كناعنة قضية علاقته واتصاله بعجوة، إلا أنه طعن في التهمة المنسوبة إليه، مؤكداً أنه تربطه بعجوة علاقة تواصل بشرية وثقافية قديمة والتي بدأت حتى قبل انتماء عجوة إلى فصيل „أبو موسى”.

وعلى الرغم من أنه لم تكن للنيابة العامة أية أدلّة تثبت أنّ كناعة كان على اتصال بعجوة لهدف غير قانوني أو للمساس بأمن الدولة، فقد استطاعت أن تقنع المحكمة بالتشديد مع كناعنة بهذه التهمة، وإنزال عقوبة السجن لمدة 45 شهرًا.

وتدلّ قراءة قرار المحكمة العليا بهذه القضية على أنه حتى لو كان هدف الاتصال بالعميل الأجنبي شرعيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، ففي حال أدركنا أنّ الحديث عن شخص قد يكون منتمياً إلى تنظيم مُعادٍ لإسرائيل، فعلينا قطع العلاقة مع ذلك الشخص فورًا. قضية الاتصال البشري نفسه بـ „العميل الأجنبي” هي الجريمة ولا يهمّ ما نوعية هذا الاتصال ولأيّ هدف كان. يكفي أن تربط النيابة العامة بين هذه العلاقة الشرعية وبين علاقة أخرى „غير شرعية” لشخص آخر مع هذا العميل الأجنبي، لتُحوّل كل علاقة معه واتصال إلى جرم وإثم جنائييْن.

وقراءة بعض قرارات المحاكم تثبت أن القانون جاء ليحظر فكرة الاتصال مع „العميل” بحد ذاتها دون أي علاقة لما أحدثه هذا النوع من الاتصال. ويأتي ذلك، بحسب أقوال المحكمة، نظرًا للخطورة الكامنة في الاتصال البشري مع شخص ينتمي الى تنظيم معاد او يحمل أفكارًا معادية لإسرائيل دون أي علاقة لما آلت اليه نتيجة الاتصال.

ونستدل من قراءة قرار للمحكمة العليا الإسرائيلية الذي صدر مطلع الشهر الحالي (أيار) أن انزال عقوبة السجن لفعلي لمدة 42 شهرًا على تاجر فلسطيني من الخليل لمجرد أنه أبدى استعداده لشراء معدات مختلفة مثل الهواتف الأرضية وأجهزة تنصت وأجهزة تصوير وفوهات ومهداف للبنادق.

رفضت المحكمة ادعاء المتهم انه بالنهاية لم تخرج الصفقة الى حيز التنفيذ وأن أهداف اتصاله „بالعميل الأجنبي” كانت ربحية تجارية، وأقرت ذلك لا يعفيه من العقوبة لا بل ألمحت إلى أنَّ العقوبة تعتبر خفيفة قياسًا لخطورة التهمة.

ونستنتج من ذلك أنه من السهل أن يزج بأي منا في السجن لسنوات عديدة لاتصالنا بشخص ما حتى وان لم يسفر هذا الاتصال أي محاولة للمساس في أمن الدولة وحتى ان كان هدف الاتصال تجاريًا فقط.

ولم يشفع رفض الشابة منار جبارين مدينة ام الفحم لطلب تجنيدها الى حزب الله حسب ما جاء في لائحة الاتهام للتخفيف من عقوبة السجن التي أنزلت بحقها. فمجرد أنها تابعت التواصل مع نفس الشخصية التي حاولت تجنيدها جعل منها مجرمة تستحق السجن لمدة 4 سنوات.

إن تحويل لقاء بشري عادي بين شخصين اثنين إلى جنحة جنائية، وذلك بسبب المكانة السياسية التي يتمتع بها أحد الشخصين، مع تجاهل العامل الثقافي الذي يتيح كل أنماط التواصل يدرج تهمة „الاتصال مع عميل أجنبي” في خانة جرائم المكانة السياسية. ويكثر الحديث في الأدبيات القانونية الجنائية عن التجريم السياسي والطرق التي تتبعها الدول في تحويل ممارسة حق طبيعي أساسي للمواطن، إلى جرم جنائي تصحبه عقوبة السّجن. فالمكانة السياسية للشّخص وهُويته هما اللتان تحولان عملاً طبيعياً يُمارَس يوميًا من دون أيّ عائق، إلى عمل جنائي يُحاكَم عليه.

وكما ذكر أعلاه فإن توجيه تهمة الاتصال بعميل أجنبي لا يأتي عادة بشكل مستقلّ، بل يأتي مقرونًا بتهم أخرى، عادة ما تكون جنائية محضة، كبيع الأسلحة أو الحصول على تبرعات من دون التصريح عنها، وغيرها. نظرة ثاقبة للأمر تُظهر أنّ وراء إدراج تهمة „الاتصال بعميل أجنبي” مع تهم أخرى، يقف هدف النيابة العامة التهويل لخطورة وحدّة التهم الجنائية الموجّهة وجعلها بالقوة أمنية، وذلك لتبرير ممارسات الاعتقال القمعية، ونزع الاعترافات الباطلة وانهاك المعتقل وإعيائه إضافة الى تمهيد الطريق لإدانة المعتقل ولإنزال عقوبة السجن.

ومما لا ريب فيه فإنّ سهولة إثبات تهمة الاتصال بعميل أجنبي تُشكّل أداة طيّعة ووسيلة سهلة أمام النيابة للحصول على الإدانة، وتشكّل ضغطًا كبيرًا على المعتقلين وموكّليهم بالرضوخ لصفقة مع النيابة.

السهولة المفرطة في تعريف من هو „عميل أجنبي” تستطيع أن تحوّل كل علاقات التواصل الإنسانية والثقافية مع الشعب الفلسطيني والعالم العربي إلى إثم كبير، وتحويلنا جميعًا إلى مُجرمين لا سيما أن علاقاتنا مع العالم العربي تأتي أولا من باب التواصل البشري والطبيعي والثقافي وربما الغريزي وليس حصرًا السياسي أو النفعي.

لذا فإن اشتراط علاقتنا مع أبناء الأمة العربية بمعرفة إنتماءاتهم الحزبية والسياسية ومواقفهم إزاء إسرائيل هو أمر يتنافى مع الطبيعة البشرية ولا يمكن تحقيقه بتاتًا.

التعليقات