هل مِن الواقعي توقّع إحراز اتفاق فلسطيني إسرائيلي حول جوهر القضية الفلسطينية، أي قضايا الوضع النهائي، خلال الشهور المتبقية للرئيس الأمريكي في البيت الأبيض؟!!!
بصورة مجردة نعم، بل ويمكن إحراز مثل هذا الاتفاق خلال مدة أقصر، أما في الواقع، فالأمور مختلفة، وإلا لكان الفلسطينيون والإسرائيليون قد أنجزوا مثل هذا الاتفاق منذ زمن، وفي أقله، منذ مفاوضات كامب ديفيد 2000، التي لا يجوز عزو فشلها الى صلف باراك وانحياز كلينتون كأفراد، بل الى ما يمثلانه مِن سياسة أمريكية إسرائيلية سائدة، بصرف النظر عن تمايز شخوصها وألوانها الحزبية. وكذا، فقد كان مِن المغالطة تصديق الكذبة الأمريكية الإسرائيلية حول أن المرحوم ياسر عرفات شكَّل عقبة كأداء منعت احراز اتفاق يفضي لتسوية سياسية للصراع.
عدم إحراز تسوية سياسية للصراع حتى الآن، برغم سبعة عشر عاما مِن المفاوضات، تبدلت فيها الألوان الحزبية للسلطة في واشنطن وتل أبيب، لا يعني أن احراز مثل هذه التسوية غير وارد كمبدأ، بل يعني أنه غير وارد دون حصول تغيير على مواقف السياسة الأمريكية تجاه الصراع وقضاياه، وهو التغيير الذي لن يكون دون الضغط على المصالح الأمريكية في المنطقة، المرهون بدوره بحصول تغيير جوهري على السياسة العربية تجاه الإنحياز الأمريكي للمواقف الإسرائيلية ومنطلقاتها الأمنية، التي لم تكف، ولو للحظة، عن تكريس وقائع احتلالية تتنامى تنامياً بكتيرياً، يوماً إثر يوم، ما يكذب كل أحاديث إسرائيلية عن الرغبة في انهاء الصراع والإستعداد لتسويته، إذ كيف لعاقل أن يصدق مثل هذه الأحاديث، بينما تتواصل، وعلى مدار الساعة، وبشكل متزايد، كل عمليات القتل والجرح والإعتقال وبناء الجدار والحصار والعزل ومصادرة الأرض وإستيطانها وتمزيقها وتهويدها وتحويلها الى معازل منفصلة ومحاصرة؟!!!
سيطلق لقاء "أنابوليس" مِن جديد عملية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية حول "قضايا الوضع النهائي"، أي جوهر القضية الفلسطينية، غير أن مصير هذه المفاوضات وآفاقها ونتائجها، مرهون بالسلوك الإسرائيلي على الأرض أولاً، وفي المفاوضات ثانياً، فضلاً عن الموقف الأمريكي تجاه السلوك الإسرائيلي، الذي لا يقبل التأويل في صلفه. وبالتالي، يصبح السؤال: ترى، هل هناك مِن تغيير على السلوك الإسرائيلي أو الموقف الأمريكي تجاهه؟!!!
إذا كان صحيحاً أن "المكتوب يقرأ مِن عنوانه"، فإن رَهْنَ المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية حول "قضايا الوضع النهائي" بتنفيذ التزامات المرحلة الأولى مِن خطة خارطة الطريق، يشي بأن الإسرائيليين، ومِن خلفهم واشنطن، سيركزون على شرط ما يسمى بمحاربة "الإرهاب"، أي شرط فتنة الفلسطينيين وتسعير خلافاتهم الداخلية، التي بلغت ذروتها بحماقة الحسم العسكري، وما تمخض عنه مِن فصل لغزة عن الضفة. وليس دون مغزى، تركيز المسؤولين الإسرائيليين بدءا بأولمرت وصولاً الى باراك، على أن لا يقتصر أمر "محاربة الإرهاب" على الضفة الغربية، بل وجوب أن يشمل غزة أيضاً، الأمر الذي يعكس أن القادة الإسرائيليين، إنما يصرون على استغلال "كعب أخيل" الحالة الفلسطينية، أي شرخها الداخلي، الذي يحرمها هذه المرة مِن الإلتفاف على هذا الشرط الأمريكي الإسرائيلي التعجيزي، مِن خلال تكتيك التوافق الوطني الجماعي على "التهدئة"، كما كانوا قد فعلوا عندما واجهوا الإعلان عن خطة خارطة الطريق والتزاماتها.
ماذا يعني ذلك؟!!!
لم تعد حبال الحصار السياسي المفروض على الرقبة الفلسطينية، مقصورة على حبل الاحتلال ودعمه الأمريكي، الذي لا يجد إسناداً رسمياً عربياً جدياً للتخفيف مِن حدته، بل أضيف عليه حبلاً آخر، هو حبل الشرخ الداخلي، الذي تفاقم الى درجة فصل غزة عن الضفة. وبالتالي، إعطاء السياسة الأمريكية الإسرائيلية فرصة إضافية أخرى، وعاملاً مجانياً آخر، للإستثمار واللعب والضغط والإبتزاز وإضعاف عوامل الصمود الوطني والقدرة على المواجهة السياسية الجماعية، في ظل ظروف دولية وإقليمية عاصفة، كان يمكن التخفيف مِن مجافاتها، عبر توحيد العامل الوطني الفلسطيني بدعم سياسي رسمي عربي، حول فرصة الاستثمار السياسي لمصاعب السياسة الأمريكية الإسرائيلية وإنتكاساتها في المنطقة، بدءاً مِن العراق وأفغانستان، مروراً بإيرن ولبنان، وصولاً الى فلسطين، أما وأن هذا لم يحصل، وبالنظر الى تفاقم الشرخ الوطني الفلسطيني، وبلوغه أسوأ حالاته، فإن مِن السذاجة عدم توقع أبشع أشكال الإستثمار الأمريكي الإسرائيلي لحالة الإنقسام الفلسطيني، الذي لا يضعف الطرف الفلسطيني المشارك في لقاء "أنابوليس" فقط، بل يضعف مَن يعارض هذه المشاركة أيضاً، ما يعني الإنهاك لكامل الطاقة الوطنية الفلسطينية، وقدرتها على الصمود والمواجهة والمناورة السياسية.
بلى، لقد استطاع الفلسطينيون سابقاً، برغم ما بينهم مِن خلافات سياسية، لا أظن أنها ستختفي، على تجاوز محطتين سياسيتين قاسيتين، كانت الأولى في أعقاب فشل مفاوضات كامب ديفيد 2000، وذلك مِن خلال اشعال لهيب الإنتفاضة وتجديد المقاومة على نطاق واسع في أيلول 2000، فيما كانت الثانية في أعقاب الإعلان عن خطة خارطة الطريق والتزاماتها الظالمة، وخاصة ما تعلق منها بوصم المقاومة الفلسطينية الدفاعية المشروعة بـ"الإرهاب"، عبر التوافق الوطني الجماعي على "التهدئة"، كتكتيك مناور، لتجنب مطلب تجريد المقاومة الفلسطينية مِن سلاحها، في لحظة الهيجان الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر مِن سبتمبر 2001، التي استثمرها "المحافظون الجدد" أبشع استثمار، للهجوم على المنطقة، وإعادة صياغتها بطموحات إمبراطورية، ترمي الى تشديد السيطرة الأمريكية والتفوق الإسرائيلي، الأمر الذي وفَّرَ فرصة ذهبية لحكام تل أبيب، وممثلهم شارون في حينه، ومكَّنَهم مِن الإنقضاض على المقاومة الفلسطينية ومحاولة تصفيتها، كشرط لا بد منه لفرض شروط الاستسلام على الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته الوطنية، كهدف سياسي ثابت ودائم ومفتوح للسياسة الإسرائيلية، منذ نشأت وحتى يوم الناس هذا.
أجل، لقد فَقَدَ الفلسطينيون بإنقسامهم غير المبرر، وغير المسبوق، بل الكارثي أيضاً، أحد أهم عوامل قوتهم، أي وحدتهم، الركن الركين، الذي لا يمكن تعويضه، ولا يمكن دونه توقّع أن تفضي مفاوضات ما بعد لقاء "أنابوليس" حول "قضايا الوضع النهائي"، الى أية نتائج في صالح الفلسطينيين وقضيتهم الوطنية، إذ كيف يمكن أن يكون ذلك، والفلسطينيون يعيشون حالة إنقسام سياسي وجغرافي عمودي غير مسبوق؟!!! اللهم إلا إذا كان هنالك مَن يعتقد بأن حكومة تل أبيب، ومِن خلفها الإدارة الأمريكية، بمثابة هيئة مِن هيئات الصليب الأحمر. وهذا ما لم يكن، ولن يكون، كما يعي الجميع، ما يفرض ضرورة الكف عن تجاهل حقيقة أن تقوية العامل الوطني الفلسطيني، في مواجهة الصلف الإسرائيلي وابتزازاته، تبدأ أولاً، وقبل أي شيء آخر، بالتوجه نحو إنهاء "كعب أخيل" الفلسطيني، المتمثل فيما تعانيه الخارطة الوطنية مِن انقسام داخلي، سيكون أحد أهم الأسلحة الإسرائيلية خلال ما سيتلو لقاء "أنابوليس" مِن مفاوضات حول "قضايا الوضع النهائي"، التي لم يغير الإسرائيليون ما كان لهم مِن مواقف تجاهها في مفاوضات كامب ديفيد 2000، بل أضافوا عليها مؤخراً، مطلب الإعتراف بـ"يهودية دولة إسرائيل"، المطلب الذي لا يمكن لفلسطيني، مهما كانت درجة واقعيته ومرونته، القبول به، لأنه لا يعني غير التسليم بشطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، أساس القضية الفلسطينية وجوهرها.
عليه، وبعيداً عن ترهات هواة السياسة وشعاراتها، فإن الإخلاص للقضية الوطنية الفلسطينية ومصيرها، وحتى يكون ذو معنى سياسي واقعي، يتطلب أول ما يتطلب تخليص الطاقة مِن "كعب أخيل" إنقسامها، وتجريد الإسرائيليين منه كسلاح لم يحلموا به يوماً، وسيستثمرونه أبشع استثمار في مفاوضات ما بعد لقاء "أنابوليس". وتلك حقيقة لا يمكن إغفالها، ولا يجوز الهروب منها، حتى، وإن كانت قاسية ومرة.
التعليقات