31/10/2010 - 11:02

رقصة الموت: «فالس مع بشير» والعطف على القاتل../ د.اسعد أبو خليل*

رقصة الموت: «فالس مع بشير» والعطف على القاتل../ د.اسعد أبو خليل*
أثار فيلم «فالس مع بشير» للمخرج الإسرائيلي آري فولمان جدلاً كبيراً في الصحافة اللبنانيّة والعالميّة. وقد مُنِع عرضه رسمياً في لبنان بسبب سياسة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، رغم وصف وزير الإعلام اللبناني طارق متري منع الفيلم بالأمر «العبثي». هنا مقالة حول الفيلم:

فيلم «فالس مع بشير» معروض في بعض المدن هنا في أميركا. لم أرد أن أراه في شاشة عرض، كي لا أسمع تأوّهات جمهور ليبرالي مُوافِق في مدينة «بيركلي» مثلاً. والأهم، لم أرد أن أدفع قرشاً لشركة إسرائيليّة.

أذكر عندما ذهبت لمشاهدة فيلم «ميونيخ» لستيفن سبيلبرغ مع صديقة يساريّة (ومُخرجة أفلام وثائقيّة)، لم أعد أراها إلا لماماً. انتهى الفيلم وأنا أريد أن أذهب بعيداً عنها جداً، نحو الأناضول. حاوَلَت جاهدة أن تقنعني بأن السيد سبيلبرغ كان مُنصفاً وأن الفيلم لم يكن مُجحفاً بحق العرب مثل غيره من أفلام هوليوود. هل تريدينني أن أُسرّ إذا صُوِّرنا كنصف بشر مقارنة بتصويرنا كحيوانات؟ هل قرأتِ مذكرات أبو داوود قبل أن تناقشيني؟ هل يعلم سبيلبرغ أن عمليّة ميونيخ لم تأتِ من القيادة بل من القاعدة التي كانت تغلي بسبب الاعتداءات الإسرائيليّة المستمرّة على مخيّمات اللاجئين في لبنان آنذاك؟ كانت كلماتي تتسارع ونبرة صوتي تتوتّر، وكانت هي تظن أنها تهدِّئ أعصابي. من قال لها إنني أريد أن أهدأ؟ أذكر لبنان في تلك الفترة عندما وقعت عمليّة ميونيخ. وكان الجيش اللبناني في كنف... الجيش اللبناني، وبدأ بعض منه يتصل بالعدو الإسرائيلي في ذلك الوقت كما تذكر المراجع العبريّة. أي إن بعض الجيش كان في كنف العدو. غضبتُ من الصديقة وباعد الفيلم بيننا.

لم أردْ أن أعيد الكرّة هذه المرّة مع أحد. أردت أن أغضب وأن أشتم بمفردي. صديق جاءني مشكوراً بنسخة عن الفيلم من الصين (اطلبوا الأفلام الجديدة في الصين ـ تحيا القرصنة)، بعضنا لا يزال يقاطع الكيان الغاصب. والفيلم يُعرض برعاية السفارات الإسرائيليّة حول العالم، كما ذكرت صحيفة «الغارديان»، كما أنه تلقّى دعماً ماليّاً من مؤسّسات الدولة العدوّة التي يسخر طارق متري من مقاطعتها.

ولكن قلت في نفسي إن مشاهدة الفيلم في صالة أميركيّة أقلّ إيلاماً من مشاهدته في بيروت مع رهط من مثقفي (ومثقفات) 14 آذار. تصوّرت هؤلاء وهم يجهدون لرؤية جوانب إنسانيّة في كل ما يصدر من العدو: هؤلاء ـ ليبراليّو الوهابيّة، تعرفونهم ـ يحاولون أن يقنعوا الرأي العام العربي بأن كل ما يصدر عن العدو الإسرائيلي من قنابل وصواريخ وأشعار وأغانٍ وتصريحات وشتائم وعنصريّة وكراهية يتضمّن مقداراً من الليبراليّة ومن الإنسانيّة ومن الحضاريّة المرهفة.

يحاولون بشتّى الوسائل أن يتنسّموا عند العدو بوادر أو خيالات اعتدال. هؤلاء الذين (واللواتي) ينظّرون ترحيباً بفاشيّة العدو، ويقولون لك إن هناك بديلاً أكثر تطرّفاً مما رأيت، أو إن تطرّفهم نابع من تطرّفنا، كما أفتى حازم صاغيّة (المُرشد «الفكري» لسعد ونادر الحريري) وردّدتها بعده جيزيل خوري (التي قاطعت أبو العلاء في مقابلة غاضبة، وأعلمته أنه ليس صحيحاً أن أميركا تناصر إسرائيل دائماً. «أعلمته» أن كلينتون ضغط على نتانياهو، لا بل ساهم في إسقاطه). هؤلاء ينتظرون كلمة من «آموس عوز» كي يقنعوا الرأي العام العربي بضرورة الصلح مع إسرائيل.

وعندما يصمت «عوز» أو عندما ينطق مؤيّداً للقتل وللمجازر، يُذكّرونك بتلك التظاهرة اليتيمة بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، متناسين أن التظاهرة كانت لأسباب إسرائيليّة انتخابيّة بحتة، ولا علاقة لضحايانا بها. هؤلاء ينتظرون ظهور معارض واحد خجول في إسرائيل ليصرخوا: انظروا إلى ديموقراطيّة إسرائيل. «واو».

ولكن لحسن حظّي لم أشاهد الفيلم مع هؤلاء، ولم أحضره بوجود مراسل «هآرتس» في بيروت كما روت الصحيفة. والفيلم، في منطلقاته الفكريّة، يذكّر بتلك اللوحة لرينوار بعنوان «الجامع»، وأنا أسميها لوحة «الكتلة»، وهي غير «الكتلة الوسطيّة» التي يباركها البطريرك، وإن كان يحذِّر من تدخّل الدين في السياسة. تظهر في لوحة رينوار أجسام مُبهمة غير واضحة في إشارة إلى الجمع المُسلم. وهي تُجسِّد الخيال الاستشراقي، حيث تنتفي فرديّة الشخص العربي أو المسلم. هم ـ الفصل الإيبستومولوجي بين «نحن» و«هم» جزء أساسي في فكر الاستشراق كما بيّن إدوار سعيد في كتاب «الاستشراق» ـ دائماً كتل بشريّة متراصّة لا حدود بينهم. هم يسمّونه «الشارع العربي». وهذا التصوير الجموعي يهدف إلى تسهيل ضرب الكتل العربيّة والمسلمة وتعذيبها وقصفها وقتلها واستعمارها. لا فرادة لنا في لوحة رينوار، ولا في فيلم «فالس مع بشير». يمرّ العرب في الفيلم (ضحايا أم قتلة أم «إرهابيّون») عَرَضاً وكتلاً ومن دون فرادة أو شخصانيّة. يمرّون على الشاشة دون أن ينطقوا أو أن يظهروا أفراداً. يعبُرون في ظهور خاطف كي لا يتحسّسهم المشاهد، وكي لا تقوم علاقة بين المشاهد وبينهم. تقارن ذلك بمشاهد الجنود الإسرائيليّين الذين لا يظهرون إلا فرادى.

يحرص الفيلم، كما يجري دائماً في إعلام الصهيونيّة الليبراليّة، على التعرّف، عن كثب، إلى كل جندي يظهر في الفيلم. لا بل ترى الجندي طفلاً يساعد أمه في المطبخ، وتراه مع الحبيبة، وتراه يعاني دوار البحر ويتقيّأ، وما على المشاهد (والمشاهدة) إلا التأوّه والتحسّس مع القاتل الإسرائيلي الذي يعاني.

وهناك مدرسة بحالها في اليسار الصهيوني تعبّر عن امتعاض ـ لا أكثر ـ من بعض ممارسات الحروب الإسرائيليّة وعن بعض جوانب الاحتلال من باب أنها مضرّة بـ«الروح الإسرائيلي» أو بـ«نفسيّة الجندي». أي إن معارضة المجازر عند هؤلاء ـ مثلاً الآلاف الذين تظاهروا بعد مجازر صبرا وشاتيلا ـ ليس من منطلق التعاطف مع الضحايا والشعور بمصابهم، بل من باب تعزيز الروح القتالي والقومي (وحتى الديني عند البعض) للجيش المُستعمِر. وأنسنَة القاتل والعطف عليه هما الوجه الآخر لإفراغ الآخر الفلسطيني من إنسانيّته: فهو لم يكن يوماً إنساناً كاملاً، في نظرهم.

تقرأ الأدبيّات الصهيونيّة منذ البداية لتجد أنه إما لم يكن موجوداً إطلاقاً أو كان ـ في تصويرهم ـ فلاحاً متخلّفاً أو بدوياً دونيّاً أو لاجئاً دون صفة وطنيّة ثم تحوّل إلى «مُخرّب» (وهي التسمية ذاتها التي درجت عليها إذاعة «صوت لبنان» الكتائبيّة أثناء الحرب) في الستينيات، إلى أن رست الدعاية الصهيونيّة على صفة «الإرهابي». ولا يشذّ الفيلم عن القاعدة، حتى في ما يتعلّق بذلك الصبيّ البرّاق وهو يطلق قاذفة «أر.بي.جي» في وجه المحتلّ.

لكن المعيار ال(لا)أخلاقي للفيلم يظهر جلّياً منذ البداية إذ إن المُتحدّث كان يعاني كوابيس بسبب قتله كلاباً في جنوب لبنان. وفي مشهد آخر يتأوّه جندي إسرائيلي لمشهد إصابة الأحصنة في سباق الخيل في بيروت. فالحيوان أثمن عندهم من العربي، بناءً على تراتبيّة عنصريّة لا تختلف في توجّهاتها وفي منطلقاتها عن التراتبيّة النازيّة. وهناك منظمة أميركيّة ليبراليّة لم تكترث يوماً لحياة شعب فلسطين، قامت بحملة للاعتناء بالحيوانات في غزة. العربي والمسلم بمعيار ليبراليّة الرجل الأبيض هو أقل مرتبةً من الحيوان. وقد يتعاطف المشاهد الغربي مع الجندي الإسرائيلي لأنه بدا أشدّ تأثّراً بقتل الحيوان على يد الإنسان العربي في اجتياح 1982.

وهناك ما هو أهمّ. لماذا التركيز الصهيوني على مجزرة صبرا وشاتيلا دون غيرها من مجازر ارتكبها العدوان الإسرائيلي في عام 1982، عندما قتل ما يقارب 20,000 فلسطيني ولبناني معظهم من المدنيّين والمدنيّات؟ السبب واضح، وهو لا يرتبط بفظاعة جريمة القوات اللبنانيّة التي ارتكبت من المجازر ما يملأ أي تأريخ للحرب الأهلية اللبنانيّة. تريد إسرائيل في دعايتها من التركيز على صبرا وشاتيلا دون غيرها التنصّل من المسؤوليّة، لا تحمّلها.

وهذا ما عناه «فولمان» في الدعاية المُصاحبة للفيلم عندما قال «إن لا علاقة للجندي الإسرائيلي بتلك المجزرة». فإسرائيل اختارت مجزرة ارتُكبت على يد حلفائها حتى تبقى على مسافة من المسؤوليّة. تريد إسرائيل (والفيلم) أن تقول إنها لا تقوم بتلك الأفعال الشنيعة مع أنها قتلت في ذلك الاجتياح أضعاف عدد الضحايا في تلك المجزرة البشعة.

وجاء في فيلم الترداد الببغائي السهل لكليشيهات الكراهية العنصريّة أن العرب يقتلون دفاعاً عن «الشرف» و«العرض»، وكأن الانتقام ليس من صفة الصهيونيّة. ولم يفهم بشير الجميّل وزوجته التي أعدّت الأطعمة اللبنانيّة لأرييل شارون أنهما رغم ادعائهما «الفينيقيّة» فإن الصهاينة ينظرون إليهما كعربيّين، شاءا أم أبيا، مهما تصنّعا ومهما حاول أمين الجميّل أن يبدو متمدّناً أمامهم.

والفيلم يمرّ على اجتياح إسرائيل للبنان عرضاً، ويتناسى قصداً عدداً من الحقائق العنيدة. لم يرد الفيلم أن يذكر، مثلاً، أن إسرائيل لم تجرؤ على غزو بيروت إلا بعدما رُحِّل عنها خيرة مقاتلي المقاومة الفلسطينيّة الأشدّاء، وبعد وضع العدو الآلاف من الشبان والأولاد والنساء في معسكرات اعتقال. لكن الفيلم أظهر المَخفي: أن جنود الاحتلال يخافوننا. أخافهم صبية في عين الحلوة وفي مخيّم الرشيديّة.

ويمكن القول إن الخدعة الدعائيّة انطلت علينا من عام 1948 إلى عام 2006. لا ينكر إلا الجاحد (أو الدعائي الوهابي أو الدعائي الصهيوني، وهما حليفان هذه الأيام) أن حرب 2006 قضت للأبد على أكبر عنصر استراتيجي في حوزة العدو: القدرة على التخويف وعلى زرع وهم انعدام الخوف في طرفه. ولو لم يُقضَ على هذا العنصر في حرب لبنان، لما تطوّر عدوان تموز على النحو الذي جرى به، دون حسم لمصلحة العدوّ. كما أن الدافع الأيديولوجي عند الجندي الإسرائيلي يقلّ: الخدمة في الجيش أصبحت وظيفة للارتزاق. وعندنا، حدث العكس: القتال لم يعد على يد من يمتهن القتال لكسب الرزق، بل على أيدي متطوّعين شديدي البأس ومتشبّثين بالعقيدة (الدينيّة هذه الأيام).

وعندما ترى الفيلم تتذكّر تلك الحقبة الأليمة. تشاهده بغضب. وجدتني أتفرّس في رسوم الوجوه لجنود العدو، وأتساءل: هل رأيتُ واحداً من هؤلاء عندما لجأت إلى بلدة القليلة قرب صور صيف 1982؟ هل أوقفني واحد من هؤلاء على حواجزهم؟ هل شارك واحد من هؤلاء في تجميعنا ذات صباح في ساحة القليلة من أجل فرز «الإرهابيّين» بيننا بناءً على إشارات وشاة مقنّعين؟ ووجدت نفسي أتابع الفيلم بغضب وغيظ، محاولاً إعادة كتابة تلك الحقبة. لماذا لم تتعامل الحركة الوطنيّة مبكراً مع ظاهرة حزب الكتائب التي ترعرعت منذ الخمسينيات (وفق المراجع العبريّة) في كنف دولة إسرائيل؟ لماذا لم يتعامل اليسار الفلسطيني والجناح غير العرفاتي في حركة فتح مع ياسر عرفات الذي عمل المستحيل للقضاء على إمكانات الثورة اللبنانيّة والفلسطينيّة؟ كان من الممكن أن تنشأ مقاومة فاعلة في جنوب لبنان عام 1978 بعد الاجتياح الأول. يومها بادر العراقي هاشم علي محسن إلى إطلاق (وتسمية) جبهة المقاومة الشعبيّة لتحرير لبنان من الاحتلال والفاشية، واتصل بمحسن إبراهيم وجورج حاوي لكن عرفات (راعي الاثنيْن) رفض. كان يفضّل استعمال ساحة لبنان للمفاوضة على تأليف فصائل مقاومة. لهذا، لم تكن تعيينات عرفات العسكريّة، من شاكلة الحاج إسماعيل وأبو الزعيم، عفويّة. زَرَع الفاسدين لإفشال المقاومة.

من المؤلم مشاهدة الفيلم لمن يستطيع تبيّن المعالم والشوارع والبساتين. ماذا يفعلون على أرضنا؟ يريد الفيلم أن تتعاطف مع جنود الاحتلال وأن تتناسى أن محتلّي فلسطين يمشون ويتجوّلون خائفين مذعورين على أرض محتلّة أخرى. هو الاحتلال المُكرَّر. يريد منّا الفيلم أن نقبل احتلالهم، وأن نتألّم فقط لمشاهد قتل الفلسطينيّين على يد عصابات القوات اللبنانيّة التي نشأت وترعرعت ونمت بقرار من إسرائيل. لكن هذا الإصرار الإسرائيلي على الفصل بين جيش الاحتلال وقوات رجل إسرائيل في لبنان يمثّل تنصّلاً من مسؤوليّة الاحتلال المباشرة.

تشاهد الفيلم وتتذكر تلك الحقبة وتجول بناظريك بين أهل السياسة في لبنان. تتذكر متعاوني الاحتلال آنذاك. كان بشير الجميّل يهدِّد بقوات إسرائيل وإن لم يُكتب له أن يقطف ثمار عدوان راعيه. وسمير جعجع، قائد تلك العصابات التي قَتَلَت في صبرا وشاتيلا، يُنظِّر اليوم في موضوع استراتيجيا دفاعيّة للبنان. أما صولانج التي قالت لشارون وزوجته إنها تريدهما أول ضيوفها في القصر الجمهوري في بعبدا، فقد أتت إلى برلمان لبنان بتحالف رباعي بغيض. وواحد من قادة عصابات الجزارين في صبرا وشاتيلا (الذي مثله مثل جعجع تلقّى تدريبات وإرشادات في إسرائيل)، إيلي حبيقة، حوّله رفيق الحريري والنظام السوري وحلفاؤهم إلى زعيم وطني.

وهناك جوني عبده، اللصيق منذ سنوات مبكرة برفيق الحريري كما روى هيكل وعبد الله بو حبيب. يبتسم جوني عبده، الذي كان يستضيف أرييل شارون في منزله، عندما يُسأل إذا كانت استخبارات الجيش في عهده تُرسل سيّارات مُفخّخة إلى بيروت الغربيّة، ويقول إنه لا يؤكّد ولا ينفي. أراد الحريري أن ينصّبه رئيساً، قبل أن يستقرّ الأمر على رئيس كان يتلقّى ـ كما روى حسن صبرا أخيراً ـ مبلغاً شهرياً بقيمة 350 ألف دولار (كان باني الدولة الحديثة يبدأ البناء برشوة رئيس الجمهوريّة اللبنانية).

حقبة اجتياح إسرائيل لم تُمحَ من الذاكرة لمن عاشها. تتذكر تفاصيلها ومقدّماتها. كيف كان هتلر لبنان الصغير، بشير الجميّل، يستعين بإسرائيل لتهديد أعدائه من اللبنانيّين. عندما علم بشير الجميل بأمر عدوان إسرائيل ـ قبل أن يسمع أحد بـ«شلومو أرغوف» ـ استدعى الإعلامي عرفات حجازي ليتحدّث بتهديد عن «القرار». وبعد توقف التصوير، أصرّ الجميّل على تحميل حجازي ـ كما روى لي الأخير ـ شتائم سوقيّة بذيئة لشفيق الوزان، مع أنه كان أداة طيّعة بيد الياس سركيس وأمين الجميّل من بعده.

صحيح أن عدداً من الميليشيات ارتكب مجازر، لكن جرائم القوات اللبنانيّة أكبر من غيرها: 1) لأنهم بدأوا بالتطهير العرقي والطائفي. 2) بدأوا بالقتل على الهويّة. 3) أقاموا علاقات مع إسرائيل منذ الخمسينيات. 4) حضّروا للحرب، وأجّجوا لها، وأصرّوا على استمرارها. 5) حاولوا استيراد نموذج فاشي ـ نازي في ربوع الأرز والبلّوط. لكن، كل المشاريع الطموحة تكسّرت على صخور طائفيّتهم هم. وسواعد الصبية في مخيم عين الحلوة بدأت مسيرة لم تنتهِ. أذنت لاندثار نموذج الانفلاش العسكري الأهوج الذي أشرف عليه عرفات، وبدأت أفعال مقاومة ضد إسرائيل منذ إنشائها.

لم يرد الفيلم أن يتحدّث في التاريخ. لم يرد أن يتحدّث في المعاناة. حتى عندما تتطرّق الليبراليّة الصهيونية إلى المعاناة، هم يعنون معاناة القتلة. كوابيس جنود الاحتلال كانت أهم من معاناة ضحايا صبرا وشاتيلا. تحدّث الجنود عن معاناتهم فقط، لم يُسمح للضحايا العرب بالتحدّث عن معاناتهم هم (وهن). كوابيس جنود الاحتلال كانت أفظع من قتل الأطفال في قصف إسرائيل الوحشي قبل صبرا وشاتيلا وبعدها.

سيحصد الفيلم عدداً من الجوائز. وسيحاور المخرج عدداً من الليبراليّين العرب، وقد يوقّع مع ياسر عبد ربّه وثيقة من أجل نسيان الماضي والولوج في سلام من أجل إسرائيل. ونخبة الثرثرة في الإعلام السعودي ستبجّل الفيلم وستعتبره ذروة في الرهافة الإنسانيّة. كُتب عن الفيلم في لبنان وكأن أحداثه جرت في بلد آخر غير لبنان. لم يعاجلهم أحد بالقول إن الميليشيا التي ارتكبت المجزرة في صبرا وشاتيلا تتشارك في حكومة مع فريق المقاومة في لبنان.

وللأسف إن هناك من يريد أن يقتنع بأن العدو رحيم ورؤوف، والمطالبة بالعودة إلى اتفاق الهدنة هو تسليم بـ(لا)منطق، لكون إسرائيل حملاً وديعاً في ربوعنا. وهناك من سيتعجّل الحكم على الفيلم. تسرّع من رأى في المخرج فولمان «مناضلاً» يدين حروب إسرائيل. هو لم يفعل شيئاً من ذلك، على العكس، صوّر ضابطاً إسرائيلياً يتدخّل لوقف المجازر، وكأن اجتياح لبنان في ذلك العام تضمّن مجزرة واحدة فقط. وبشير حبيب يكتب في نشرة حريريّة أن الفيلم «عمل كبير وجريء». ساطع نور الدين كان من الأقلام العربيّة القليلة التي عبّرت عن شكوك في دعاية الفيلم عن نفسه وعن جرأة المخرج المزعومة.

لكن لبنان طوى صفحة في تلك الحقبة. وباشر أعداء إسرائيل في لبنان ضرب مخطّط لإنشاء كيان متحالف مع الدولة اليهوديّة. منا من يرى الفيلم ويعود بالذاكرة إلى شعار طواه الزمن بعد مجزرة عين الرمّانة: شعار عزل الكتائب كان صائباً منذ إطلاقه، وكمال جنبلاط قُتل لأنه كان مقتنعاً ـ بعد لأي ـ بجدوى الحسم العسكري مع إسرائيل. لكن ياسر عرفات والنظام السوري لم يريدا الحسم العسكري: وعدم اللجوء إلى الحسم العسكري في ذلك الربيع مدّد أَجَل الحرب الأهليّة اللبنانيّة وفوّت فرصة تاريخيّة لإقامة نظام ديموقراطي (حقيقي لا حريري ـ سعودي المقاس) علماني في قلب العالم العربي. لو تحقق هذا الأمر، لكان من الممكن تصدّي لبنان لعدوانات إسرائيل التي لم تتوقّف يوماً منذ عام 1948، ولكانت حدود لبنان أمنع بكثير.

وزير الإعلام في لبنان ـ وهو يحلم بأن يتحوّل إلى رقيب حريري أعلى للإعلام في لبنان ـ سخر من فكرة مقاطعة إسرائيل، وقال في تصريح لوكالة أجنبيّة إن مشاهدة الفيلم ممكنة عبر الإنترنت. ورغم معرفة متري بوجود الإنترنت ـ وهذا حسن ـ ففكرة المقاطعة هي فكرة مبدئيّة ـ قد تكون المبدئيّة كفكرة تعصى على وزير إعلام لبنان ـ واقتصاديّة أيضاً. إن السماح بعرض الفيلم سيدرّ ربحاً ماليّاً على شركة إسرائيليّة تروّج ـ بعلم الوزير أو بجهله ـ لمعايير صهيونيّة.

وفي حمأة المعركة الانتخابيّة في إسرائيل، عيّر إيهود باراك منافسه ليبرمان بأنه لم يقتل ـ مثله ـ عرباً بيديه. هل يحتاج طارق متري إلى دروس في تاريخ الصهيونيّة ليفهم سبب إيمان الرأي العام العربي العميق بضرورة المقاطعة، على أقلّ تقدير؟ أم أن شروط انضمام لبنان لمنظمة التجارة العالميّة (التي شغلت رفيق الحريري) تفرض نبذ المقاطعة من أساسها؟

"الأخبار"


التعليقات