31/10/2010 - 11:02

سودان نيفاشا.. أكمة القوانين وما وراءها.. سيناريوهات واحتمالات../ عبداللطيف مهنا

سودان  نيفاشا.. أكمة القوانين وما وراءها.. سيناريوهات واحتمالات../ عبداللطيف مهنا
اطمئنوا أيها السودانيون إن "الحرب لن تعود". هذا ما يصرّ عليه ويؤكده سلفاكير النائب الأول لرئيس الجمهورية السوداني، أو زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، الطرف الجنوبي في اتفاقية نيفاشا، تلك التي وقعها حزب المؤتمر الوطني السوداني الحاكم مع الحركة المتمردة... الاتفاقية المفترض أنها قد وضعت حداً للحرب الأهلية السودانية، عندما أوقفت الصراع العسكري الدائر بين المركز في الخرطوم والإقليم المتمرد في الجنوب، وأدخلت هذه الحركة شريكاً في السلطة مع المؤتمر إلى حين إتمام استيفاء بنودها بالاستفتاء المقرر في نهاية المدة الانتقالية التي سوف تحين بعد عام... الاستفتاء الذي بموجبه سيصوت الجنوبيون على تقرير مصير إقليمهم، أي الوحدة مع الشمال أم الانفصال عنه، أو هذا الاستحقاق الذي نصت نيفاشا عنه وحددت بنودها موعده باليوم التاسع من الشهر الأول من العام 2011م...

كلام سلفاكير هذا، والذي لم يكن قد قاله لأول مرة، ورد في رسالته التي وجهها بمناسبة حلول أعياد الميلاد المسيحية، وكرر فيها كلاماً تردد هو أيضاُ أكثر من مرة في أعقاب كل مرة تشهد العلاقة بين الشريكين أزمة تثور بينهما، من مثل، أن الشريكين في الحكم، المؤتمر والحركة، لديهما القدرة على تجاوز العقبات التي تعترض سبل تنفيذ "اتفاقية السلام الشامل" التي أبرماها.

هنا، يثير الواقع الراهن، الذي تعيشه العلاقة بين الطرفين، والتي من الواضح أن أبسط ما يمكن وصفها به هو أنها تعوزها الثقة المنعدمة بينهما، يثير سؤالاً حول مدى الدقة في هذا الذي يقوله سلفاكير. أو هل حقاً أن هناك فعلاً ما يدعو لأن يُطمئن السودانيين إلى أن الحرب الأهلية لن تعود، بالنظر إلى ملامستهم على أرض الواقع لجملة من العوامل المشككة التي قد لا تطمئن متابعاً لتطورات هذه العلاقة المتوترة، لاسيما بالنظر إلى ما تثيره وتؤشر عليه جملة التجاذبات الأخيرة المحتدمة بين الشريكين، وآخرها زوبعة مسألة إقرار آخر القوانين الثلاثة المتبقية في أجندة الإتفاقية: الأمن، وأبيي، والاستفتاء...

في تقرير للجنة الدولية المشرفة على تنفيذ اتفاقية نيفاشا، جاء ما يشهد بأن الحكومة قد نفذت ما نسبته 85% مما هو عليها من التزامات تستوجبها هذه الاتفاقية. أما الحركة الشعبية فهي لم تنفذ إلا ما يقل عن ال 17% مما كان عليها تنفيذه. كان هذا التقرير سابقاً على أزمة إقرار القوانين الثلاثة المشار إليها. أو الأمر الذي كانت الحركة تلح على الإسراع في البت به، وكانت حوله قد أثارت الجدل والاحتجاجات وأكثرت المعارضة الشمالية بدورها حوله اللغط والمزايدات، ثم ومن أجل المطالبة بتعديلها لاحقاً وقبل أن يتم إقرارها، شهدت العاصمة السودانية التظاهرة المعروفة التي نظمتها الحركة وأطراف جوبا من هذه المعارضة قبل أسابيع قليلة، والتي انتهت إلى اعتقالات وإفراج وانفراج فتوافق بين الشريكين مجدداً، كان على أثره أن أُقرت هذه القوانين الثلاثة وتعديلاتها في مجلس الوزراء ووقعها الطرفان، لتنقل من ثم للمصادقة عليها في البرلمان.

لكن الحركة التي وقعت لم تلبث أن تراجعت قبل أن يجف حبر توقيعها، وتبع هذا انسحاب أعضاء كتلتها من جلسة البرلمان احتجاجاً على أثر فروغه من مناقشة انتهت إلى إقرارها... هنا، الملاحظ هو أن هناك ارتباكاً في مواقف الحركة الشعبية يرتفع مستواه إلى درجة التناقض المنعكس في جملة من الأقوال والأفعال، بل وحتى المتجلي أحياناً في اختلاف مواقف أطرافها، أو كما يلاحظ خلال هذه الفترة بالذات، أو مع اقتراب موعد الاستحقاق الاستفتائي، لعل مصدره إحساسها بجملة من المتغيرات الداخلية والخارجية الطارئة. بل أصبح الآن من المؤكد أنه بعد توقيع الاتفاق في مجلس الوزراء على تلك الصيغة المتوافق عليها بين الشريكين بصدد إقرار القوانين الثلاثة حدث أن تلقى الطرف الجنوبي في الخرطوم اتصالاً من الجنوب يرفض ما تم التوقيع عليه، و بالتالي ترتب على هذا أن تراجعت الحركة عما كانت قد اتفقت عليه مع الحكومة، وبالتالي حدث لاحقاً ما حدث في البرلمان... ما معنى هذا؟

لكي نفهم معناه أولاً، فلا بد لنا من ملاحظة أن مصدر القرار في الحركة هو في باطن الأمر ما لا تقبض عليه إلا جهة واحدة متنفذة في الحركة وحدها موضوعياً وتنفرد به حصراً، تلك التي يمثلها ويقف على رأسها رجل واحد هو إدوارد لينو مسؤول استخبارات الحركة ومساعدوه المقربون المنتمون جميعاً إلى جناح واحد من قبيلة واحدة هي الدينكا، والتي هي عماد حركة التمرد الجنوبي تاريخياً وقوته الرئيسة، أما باقي العناوين السياسية الظاهرة للحركة ومن يمثلها في الخرطوم فعلى الأقل ليسوا الفاعلين الحقيقيين فيما يتعلق بتوجهاتها الأساس.

وهذا الفريق الفاعل، كما هو معروف، هو انفصالي حتى العظم، هذا إذا كان هناك تاريخياً من هو غير ذلك في الحركة إجمالاً، التي منذ أن كانت، أو تحديداً إثر تحولها من أنانيا الثانية إلى ما يعرف اليوم بالحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة الراحل جون غرنق، تنقسم إلى تيارين كليهما حاقد على الثقافة العربية السائدة في السودان. وأحدهما هو انفصالي بالكامل والآخر كان ينادي على الأقل علناً بتحرير كامل السودان، بمعنى أفرقته أو في الجوهر تغيير هويته، وذلك انسجاماً أو تأثراً برؤية تلك النخبة الأفريقية التوجهات التي سادت، في تلك الفترة التي بدأ فيها التمرد الثاني في بعض الدول المجاورة مثل أوغندا وكينيا وتنزانيا، خصوصاً وأن النخبة التي قادت وتقود التمرد الجنوبي في السودان قد عاش أغلبها لفترة طويلة من حياته في تلك البلدان، ولها كما هو معروف ارتباطات وثيقة مع رموز تلك النخبة الإفريقية المشار إليها ومنها الحاكمة راهناً في تلك الدول، بل هناك من يقول بأن غرنق شخصياً كان قد حضر المذابح الشهيرة التي دارت ضد العرب في زنجبار... وهناك من يذكر دائماً بالارتباطات التي لم تنقطع بين التمرد الجنوبي منذ أن قاده جوزيف لاغو بداية وحتى ما بعد نيفاشا مع إسرائيل. وقد يذهب البعض إلى اتهام نظام موسيفيني الأوغندي بتصفية غرنق لأنه بدا أخيراً وكأنما هو قد جنح إلى خيار الوحدة، وذلك في حادث الطائرة العائدة من كمبالا المعروف، وقد يجد هؤلاء ما يدعم ما ذهبوا إليه بالتذكير بتعرض نائبه سيلفاكير قبل أسابيع قليلة لحادث مشابه نجا منه، وأيضاً وهو يعود بطائرته من كامبالا! وإجمالاً هناك اعتقاد بأن هذا الجنوح الوحدوي في الحركة قد دفن نهائياً مع غرنق وأخلى الساحة بالتالي إلى الانفصاليين من أمثال لينو وأريك مشار، و باغان أموم.

وثانياً، إن العامل الخارجي أو الغربي يبدو هذه الأيام أنه لم يعد متحمساً كما كان لانفصال الجنوب سابقاً، خصوصاً إذا ما قارنا ما كان من السياسة الأمريكية تحديداً تجاه السودان إبان الحقبة البوشية بما تبدو أنها عليه الآن في عهد رئاسة أوباما، هذه التي تعاني من أوزار التركة البوشية في العراق وأفغانستان، وحيث ليس في مقدور الواقع الأمريكي الراهن، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية، تحمل بؤر توتر وحروب إضافية أكثر، لكن دون إهمال للحظة واحدة العامل الإسرائيلي الدائم، الذي سعى ويسعى منذ بداية التمرد إلى هذا الهدف الثابت بالنسبة له، بالإضافة طبعاً إلى القوى المسيحية التبشيرية، وخصوصاً ما يعرف بمجلس الكنائس العالمي، وما لهما مجتمعين من دور رئيسي في دعم التوجه الانفصالي وتحريضه.

وثالثاً، تجليات الواقع الداخلي الجنوبي نفسه المأزوم غير المطمئن للحركة السائر باتجاه الاحتراب البيني والتفكك حيث بعد خمسة أعوام على استلام الحركة للسلطة كاملة في الجنوب، اتسمت بتبذيرها، عبر الفساد المستشري في سلطتها، لما يزيد على الثلاثين مليار دولار هي حصة الجنوب من الثروة النفطية، بالإضافة إلى مسلسل المذابح التي تديرها النزاعات القبلية المستشرية في ظلها، وانقسام الساحة الجنوبية في ظل هذا الواقع ساحات لأكثر من أربعين فصيلاً مسلحاً يرفض أغلبها هيمنة الدنيكا صاحبة المكانة والقول الفصل في الحركة الشعبية، الأمر الذي من شأنه، بالإضافة إلى فرص الاستقرار المتوفرة في الشمال، أن يقنع أغلب اللاجئين الجنوبيين هناك بعدم العودة حتى الآن إلى ديارهم، وهؤلاء المقدرون بالملايين أو الأكثر عدداً من جنوبيي الجنوب راهناً، يرجح بأنهم سوف يصوتون موضوعياً إلى جانب الوحدة التي هي من مصلحتهم... هذا إلى جانب عديد القبائل هناك التي قلنا أنها تناهض هيمنة الدينكا. فأغلب مجموعة الشلك مثلاً بزعامة الدكتور لام أكول هم الآن ليسوا مع الانفصال الذي يعني تلك الهيمنة، والأمر نفسه بالنسبة للنوير الذين ينقسمون الآن ما بين وحدوي أو انفصالي بزعامة أريك مشار، إلى جانب قسم ثالث يريد الانفصال عن الشمال والجنوب كليهما معاً وهو بقيادة جون لوك! ويمكن سرد قبائل أخرى كلها لها ميليشياتها الخاصة بها ورافضة لانفصال يكرس هيمنة الحركة الشعبية أو الدينكا، مثل، الزاندي، والمنداري، والتبوسا، والدونغا، والمورليه، والفرتيت.

إنه للعوامل الثلاثة التي عددناها أعلاه يصبح واضحاً الآن للجميع أن الحركة غدت تخشى عواقب الاستفتاء، ويبدو واضحاً أكثر فأكثر أنها تحاول تعطيل أو تأجيل موعد الانتخابات السودانية العامة المزمعة قريباً، أو تتحسب لمواجهة ما ستسفر عنه، ويتجلى هذا في منعها بالقوة لمناطق بكاملها في الجنوب تعد معارضة لها من حق التسجيل الانتخابي، وقصر هذا التسجيل فقط ما أمكن على المناطق المضمونة بأنها تؤيدها. وسعيها المعروف لحرمان جنوبي الشمال من التصويت، وعندما عجزت عن فرض ذلك، طالبت بأن لا تكون مراكز لهذا التصويت إلا في الجنوب الذي تحكمه وتسيطر عليها راهناً. بالإضافة إلى مطالبتها بالنسبة المطلوبة لمجموع الأصوات الحاسمة في الاستفتاء، والتي استجابت الحكومة مؤخراً فقبلت بها، وهي 51%.

لعل الحكومة، أو حزب المؤتمر الوطني، قد أثبت أنه قارئ جيد للمتغيرات التي كشفت فيما كشفت عن جملة التبدلات التي أسلفنا سردها، ويبدو هذا جلياً من إصراره على المضي قدماً في التحضير للانتخابات، وإبداء المرونة في إقرار القوانين المتبقية المختلف سابقاً عليها، رامياً بالتالي الكرة في ملعب الحركة التي تعيش تناقضاً عجيباً يتجلى في شراكتها في الحكم وتقاربها المتصاعد كلما يتفاقم خلاف الشريكين مع مطالب المعارضة الشمالية... هذه التي تبدو أشتاتها منشغلة في هدف إسقاط النظام أكثر منها في إدراك الاستحقاقات المصيرية التي تهدد وجود البلد وتدفعه نحو التجزئة والتفتيت. وهنا يمكن طرح السؤال التالي: ماذا يعني التزام الحكومة بالجدول الزمني لانجاز اتفاق نيفاشا المتوج بالاستفتاء وجوباً؟

إنه بكل بساطة يعني سقوط الاتفاق المفروض أصلاً في حينه بشكل أو بآخر على الحكومة، أو التي قبلت به مكرهةً في ظروف مختلفة عما هي عليه الآن... سقوطه في حالة عدم التنفيذ، وبالتالي عودة الأمور إلى مربعها الأول. وإذا ما سقط، فالوضع السوداني بعامة، والجنوبي بخاصة، والراهن والدولي، كلها عوامل من شأنها إذا ما اندلعت الحرب مجدداً كنتيجة متوقعة لهذا السقوط أن تصب في صالح حسم الأمر عسكرياً وبسرعة قياسية قد لا تتعدى الأيام، وفق ما يراه البعض، لصالح الحكومة، وبالتالي إعادة خلط الأوراق تماماً. هل هذا السيناريو وارد؟

لعله هنا يحضر العامل الخارجي بقوة، هذا الذي لا يمكن تجاهله لا سابقاً ولا لاحقاً ولا مستقبلاً... ولنتصور سيناريو آخر، وهو أن الانتخابات والاستفتاء قد تمّا ووفق الأجندة المطلوبة، وأن كليهما وفق المتوقع سوف لا ينجوان من التزوير، فلسوف تكون نتيجتهما كما هو متوقع التالي: إذا صوت الجنوبيون لصالح الوحدة فلسوف لن يقبل انفصاليو النخبة الجنوبية التسليم بهذه النتيجة بداعي التزوير، والأمر نفسه سوف لن يكون مستبعداً من قبل الحكومة إذا ما كانت النتيجة هي العكس. أي كان التصويت لصالح الانفصال. هنا تبدو نتيجة السيناريوهين واحدة... أي دونما أن نتهم بالتشاؤم هي ما ترجحه شدة التعقيدات التي يشهدها المشهد السوداني الذي يحبل بالألغام المبثوثة بين جنباته... وعليه، ما هي الاحتمالات على المدى المنظور على الأقل؟

إنها على الأرجح سوف تخضع لهذه المعادلة: كلما تفاقمت الخلافات بين شريكي نيفاشا وتعمقت القطيعة بين الطرفين سيكون التقارب أكثر بين الحركة الشعبية والمعارضة الشمالية، وبالتالي وتلقائياً سيكون التقارب أكثر بين المؤتمر الوطني والمعارضة الجنوبية للحركة. وإذا ما نقلت الخلافات إلى الشارع فلسوف تزاد الأمور تفاقماً وتتفجر ألغام المشهد تباعاً... حينها قد لا تتسامح الحكومة مع المعارضة الشمالية، وفي الجنوب سوف تتصاعد المذابح القبلية وتنشب الصراعات المسلحة بين الميليشيات النائمة التي سوف توقظها طبول تلك الصراعات... من هناك يمكن فهم تصريحات سلفاكير غير القابلة للصرف، وفعالية هاتف ادوارد لينو المتحصن في أدغال الجنوب، وإصرار الخرطوم على إنجاز جدول نيفاشا الزمني... وأخيراً، كل ما يدعونا إلى الدعاء: حمى الله سودان العرب!

التعليقات