31/10/2010 - 11:02

شجون وشعور بالمرارة يثيرها اغتيال المناضل جورج حاوي/ عوض عبد الفتاح

شجون وشعور بالمرارة يثيرها اغتيال المناضل جورج حاوي/ عوض عبد الفتاح
رغم تواري المناضل جورج حاوي عن صدارة النضال السياسي والحزبي منذ استقلاله عن الحزب الشيوعي اللبناني، قبل عشرة سنوات، فإن جريمة اغتياله تـُثير في النفس شعور بالغضب العارم، كما تستحضر من جديد أجواء الآمال العريضة التي كانت سائدة في الفترات السابقة، وبالتالي تـُثير شعوراً من الحسرة والمرارة والشجون، فضلاً عما تـُثيره من شعور بالضياع والضبابية حول وجهة الأوضاع في لبنان وفي كل المنطقة العربية.

كان جورج حاوي من الأسماء التي كان لها وقع علىالاذن بالنسبة لنا كشباب عربي في الجامعات الإسرائيلية - في أواخر السبعينيات وبشكل خاص منذ أوائل الثمانينيات. كان ذلك في خضم حالة ثورية تحمل آمالاً عريضة في التغيير. سبق ذلك أن تعرفنا على كمال جنبلاط بعد اغتياله كقائد للحركة الوطنية اللبنانية التي خاضت حربا لاقامة نظاماً وطنياً في لبنان عام 1976 بالتحالف مع المقاومة الفلسطينيه.

وتعرفت على فكر كمال جنبلاط بعد اغتياله بفترة قصيرة لأكتشف أنه لم يكن مجرد قائد سياسي - وطني. بل كان صاحب فكر ومثل ورؤية - تمثلت في الإشتراكية الديمقراطية، الإشتراكية التي خاطبت ميولي دون أن أدرك كنهها الحقيقي في إطار النقاش حول التوجهات المختلفة داخل العائلة الإشتراكية. كنت أميل دائماً الى الأمور الوسط بالنسبة للأطروحات الفكرية والنظم الإجتماعية. قرأت له "وصيتي" بتأثر وهي عبارة عن حوار مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، حوار صريح وناقد لسياسة سوريا في لبنان آنذاك وحول رؤيته الوطنية والديمقراطية وكذلك من خلال كتابيه – "ثوره في عالم الانسان" ونحو "اشتراكية أكثر إنسانية" وغيرها، وذلك قبل أن اتعرف على أصول الفكر الماركسي وأنبهر به دون ان يتحول لدي الى دين كما كان عند الشيوعيين. كان ذلك عام 78، أثناء الدراسة الجامعية التي كانت فيها الحركة الطلابية تعجّ بالحراك السياسي - الوطني والنقاش الفكري داخل "مجموعات" طلابية وطنية فاعلة. من حركة أبناء البلد ومحيطها وطلاب الحزب الشيوعي.

أما جورج حاوي، فقد تحول بالنسبة لي ولرفاقي في حركة ابناء البلد الى رمز يثير الإعجاب فينا، بعد ما قرأت له مقابلة مطولة في مجلة النهج بين عامي 1983 - 1984، وهي مجلة فكرية صادرة عن الحزب، وذلك عندما كانت تصدر بالقطع الكبير على خلاف ما هي عليها اليوم. تحدث فيها حاوي عن دور الحزب الشيوعي المبادر في إطلاق شرارة المقاومة. لقد قاتل حاوي الى جانب ياسر عرفات وجورج حبش واحمد جبريل وغيرهم. لم يكن قائداً يسارياً فحسب بل قائداً عربياً. وتأثراً بهذه المقالة الممتدة على أكثر من عشرة صفحات أو أكثر، كتبت في مجلة الهوية التي كنا نصدرها في حركة أبناء البلد، بين الحين والآخر كنشرات لمرة واحدة، مقالاً حول دور الحزب الشيوعي اللبناني في المقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي. وكنا قد عشنا مثل بقية أبناء شعبنا أجواء الحرب لحظة بلحظة - لحظات من الحزن ولحظات من الشعور بالإعتزاز. وكذلك عشنا الصدمة بعد وصول الجيش الإسرائيلي الى بيروت وإجبار المقاومة الفلسطينية على المغادرة الى تونس واليمن. وعندما انطلقت المقاومة في بيروت ضد الإحتلال الإسرائيلي لم نعرف من كان وراءها في البداية. لقد كان ذلك بمثابة" ردّ الروح" كما يقولون الى النفوس التي اعتقدت ان قوات الاحتلال ستأخذ راحتها في هذه البلد العربي الصغير بعد خروج المقاتلين الفلسطينيين.

ازداد احترامنا واقترابنا للحزب الشيوعي اللبناني، عندما تعرفنا على رؤيته السياسية المتفهمة أكثر من غيره من الأحزاب الشيوعية العربية للمسألة القومية العربية ولقرار التقسيم والقضية الفلسطينية - وكان ذلك يتقارب مع اليسار الفلسطيني الجذري (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها) ومن موقف حركة أبناء البلد. وتعرفنا في ذلك الوقت على تاريخ المراجعة التي حصلت على موقف الحزب الشيوعي اللبناني في مؤتمره الثاني عام 1968 - بعد انفصاله عن حزب خالد بكداش الشيوعي - السوري الذي كرس حياته ستالينياً مناهضاً للقومية العربية.. هذا المؤتمر الذي شّدد على أهمية الوحدة العربية، وأدان موقف الإتحاد السوفييتي من التقسيم وانجرار الأحزاب العربية وراءه. يذكر ايضاً ان الحزب الشيوعي العراقي انقسم على خلفية هذا الموقف من المسألة القومية في نفس الفترة تقريباً. تلك الاهتمامات في بواكير شبابنا عززت هويتنا الوطنية والقومية والتقدمية وأغنت شخصيتنا الفكرية، وألهمت فينا روح النضال في الداخل.
نتذكر تلك الأيام ونقارنها بأوضاع اليوم، حيث انقلبت الأمور رأساً على عقب. لقد غابت او توارت الرموز – الاشخاص والأحزاب التي كانت مصدراً لالهام الشباب العربي الثائر. بغض النظر عن قصورات تلك الرموز والاحزاب المهم أنها كانت مكافحة متحدية ولها موقف. لا نسمع اليوم عن أحد لديه مشروع - ليس فقط مشروع سياسي - تحرر وطني - بل مشروع تحديثي ديمقراطي. صحيح أن الرموز التي نتحدث عنها، كانت تحمل مشاريع كان مضمونها الإجتماعي مشتقاً من الماركسية (الستالينية) ومن تراث التبعية للحزب الشيوعي السوفيتي، وكانت مشاريع قومية وحدوية مستقلة عن المدرسة السوفيتية، ولكنها حوصرت من اكثر من طرف ولعب الإستبداد الداخلي دوراً معجلاً في تبديد التجربة وهذه المشاريع الوحدوية النهضوية، ولكن اليوم لا يكاد يوجد لدينا سوى ابن لادن وفضائيات الخلاعة.

ليس هناك قوة معتبرة في العالم العربي تحمل مشروعاً نهضوياً حديثاً. القوى الأصولية هي الطاغية والأكثر تنظيماً أما القوى الدينية المستنيرة التي تحاول أن تطرح حلولاً وسطية وتفاهماً مع القوى القومية والماركسية محدودة التأثير.
على أية حال، يعود ذلك الى الإستبداد العربي الرسمي والإستعمار الغربي الداعم لهذا الإستبداد.

السنوات القليلة الأخيرة شهدت نقاط ضوء في ظلام العالم العربي، على مستوى مقارعة الصهيونية. كان من هذه النقاط المضيئة نجاح حزب الله في إجبار الإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان على الإنسحاب. وكان لهذا النجاح تأثير في إعادة بعث الروح القتالية لدى الشارع العربي، وخاصة الفلسطيني. إنفجرت الإنتفاضة، كنتاج حتمي للرفض والإذلال الإسرائيلي للشعب الفلسطيني وقيادته. وبوحي من اجواء نجاحات المقاومة اللبنانية. ولكن هذه النجاحات والمشاريع لا تتضمن مشروعاً تحديثياً، وعصرياً.

في هذه اللحظة جاء الهجوم على نيويورك في 11 سبتمبر 2001 ليتحول الى مادة فكرية ومحفز عملي في أيدي زمرة البيت الأبيض المحافظة في تنفيذ مشروعهم القديم - الجديد: السيطرة على العالم العربي وتوطيد المشروع الصهيوني في المنطقة. ومن ثم استطاع شارون عبر تحالفه مع بوش الإبن الى وضع القيادة الفلسطينية في موقع دفاع عن شرعية النضال ضد الإحتلال بسبب العمليات التفجيرية ضد المدنيين وبسبب سوء إدارة الصراع من جانب القيادة الفلسطينية.

هكذا تم إجهاض او إحتواء نقاط الضوء المحققة عبر قوى مناضلة، ويكاد الناس ينسونها تحت تأثير الأوضاع الراهنة التي أصبح فيها همّ الحكام العرب طلب الرضى من الإدارة الأمريكية وبقاءهم في كراسيهم عبر تقديم التنازلات في الموضوع الفلسطيني والتحول الى شريك لخطة شارون. وتحولت فيها القيادة الفلسطينية الى متوسل لدى أمريكا وإسرائيل تاركة وراءها كل تراث المقاومة وقيم حركة التحرر الوطني. وتحول لبنان الذي دحر الإحتلال الى ساحة يختلط فيها الحابل بالنابل وتعود سياسة الإغتيالات بكل بشاعتها، ويعاد إنتاج الطائفية عبر انتخابات ديمقراطية. لتصبح لدينا ديمقراطية طائفية. بفضل الأخطاء السورية في لبنان واستغلال ذلك بصورة كلبية من جانب الإدارة الأمريكية والثعلب البريطاني والرئاسة الفرنسية التي تريد أن تعيد نفوذها الى العالم العربي عبر لبنان بعد أن فقدته في العراق على أثر الإجتياح الأمريكي لهذا البلد الذي أعيد رسمه على شكل فدرالية طائفية وسط مقاومة شرسة من قوى عراقية عمقت أزمة الإحتلال الأمريكي ولكن ليس لديها حتى الآن برنامج أو مشروع سياسي واضح لإعادة بناء العراق.

يطغى الآن المشروع الإسلامي الأصولي على جزء واسع من الشارع العربي بما فيها الفلسطيني. ولكنه لا يوضح كيف سيترجم طغيانه، على ضوء تردده وبشكل خاص في مصر وحتى في الساحة الفلسطينية وما إذا كان يريد الوصول الى السلطة أم المشاركة في الإصلاح كما يعلن قادة حركة الإخوان المسلمين في مصر.

خلاف ذلك لا توجد قوى أو قوة عربية منظمة، سوى أفراد، وجماعات، وأحزاب صغيرة، منفردة أو مؤتلفة في إطارات تحالفية غير مؤثرة، دون رموز لها ثقل تاريخي، تحمل مشروعاً نهضوياً ووحدوياً سواء على مستوى كل قطر عربي أو مستوى العالم العربي. طبعاً هناك قوى وطنية وديمقراطية مصرية شجاعة تحت مظلة "حركة كفاية". تتحرك ضد النظام وهذا امر هام ولكن برنامج الحركة لا يشمل حتى الآن مشروعاً تغييرياً شاملاً وهناك امال معقودة على هذه الحركة ومناضليها.
ما يُثير الدهشة هو أن جزء من الذين يطالبون بالديمقراطية والتحديث في العالم العربي، أصبحوا من أتباع أمريكا وكأن مسألة الكرامة القومية أو الصراع مع إسرائيل أصبحت مسائل ثانوية. أما الذين يطرحون مشروعاً سياسياً وديمقراطياً تحررياً بأبعاد وطنية معادية للسياسة الأمريكية الإستعمارية وللمشروع الصهيوني - فإنهم إما ما زالوا غير منظمين وغير مرتبطين بالشارع عبر مشاريع تمس حياة الناس مباشرة أو تنقصهم القدرة على هضم مقتضيات التحول الى مشروع تحديثي نهضوي يقوم على الحرية الفردية والعدالة الإجتماعية (الإشتراكية أو الديمقراطية الإجتماعية والسياسية بمعنى التعددية) والإستقلال السياسي الذي يضمن كرامة الوطن والفرد.

إن الإنهيارات التي حصلت في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، انهيار الإتحاد السوفييتي، وانهيار ما تبقى من تضامن عربي على أثر العدوان الأمريكي الأول على العراق وما تبعه من مزيد من الحصار على هذا البلد العربي وصولاً الى الغزو الأخير، أحدث هزة كبرى في الشارع العربي. وكان أكثر المشاريع التي تأثرت من ذلك مشاريع القوى القومية والشيوعية في العالم العربي. وفي الوقت الذي راحت هذه القوى تراجع مرجعياتها ونهجها وأفكارها، كانت الأصولية الإسلامية تنمو. وإذا كانت هذه الأصولية، على الأقل التيار المعتدل نسبياً فيها، قد ساهمت في ملء جزء من الفراغ على مستوى الدفاع عن الهوية في مواجهة الإنهيارات والهوان العربي، فإنها لا تستطيع أن تكون بديلاً على المدى البعيد وليست هي الوصفة للأزمة التي تعتصر العالم العربي على المستوى الإستراتيجي. لا بديل عن مشروع لتحديث العالم العربي، فكرياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً يأخذ بالإعتبار خصوصية هذا المجتمع من بعد ثقافي وحضاري ودور الإسلام فيه كدين وكحضارة. وليس للمشروع الشيوعي اي مستقبل في العالم العربي، لا بديل عن المشروع القومي الديمقراطي فهو الاقرب الى الخصوصّية العربية والفكر الإنساني والميزات الإنسانية.

ويطرح السؤال متى تنجلي الأمور أو المشهد القاسي والعبثي الذي نحياه كعرب في هذه المنطقة الواسعة - من المحيط الى الخليج. ومتى يتبلور مثال جديد كبديل عما كان قائماً في السابق أو بالأحرى كتطوير مبدع للتجربة السابقة ولا نقصد بالبديل الشخص الإسطوري.

ليس من الحكمة أن نقول وكأن كل ما كان هو غلط في غلط. كانت هناك مشاريع طموحة - مشاريع لتوحيد وتحديث العالم العربي قادها قادة كبار مثل جمال عبد الناصر، كقائد قومي عربي، وناضل من أجلها مناضلون كبار، مثل جورج حاوي وغيره. وكان هناك أعلام في النهضة الأولى في القرن التاسع عشر مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي والشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده، وبطرس البستاني، وأنطون فرح، وعشرات من الإصلاحيين الذين تنوعت مرجعياتهم الفكرية من إسلامية تحديثية الى قومية علمانية تستند الى التاريخ العربي الإسلامي والتجربة الأوروبية.

إن الأجيال الشابة العربية بما فيها الفلسطينية تربت في الخمسينيات والسيتينيات والسبعينيات حتى أوائل الثمانينيات في ظل شعارات كبيرة، وطموحات كبيرة، وإن كانت تلك الفترات تخللتها هزائم سياسية كبيرة. ولكن الطموح والإرادة لتجاوز آثار هذه الهزائم لم يتوقف عبر محاولات المراجعة وإعادة التعبئة وعدم التسليم بالأمر الواقع. كانت مشاريع الإشتراكية والوحدة والتحرر تجمع بين التيارات الشيوعية والماركسية والقومية الإشتراكية (الناصرية والبعثية).

وإذا كان هناك ما يمكن الإستناد اليه في هذه التجربة المتعثرة فهو وصول فئات واسعة من هذه التيارات الى استنتاجات تقول أنه لم يعد بالإمكان تحقيق نهوض حقيقي للمجتمع العربي والعالم العربي بدون الجمع بين العدالة الإجتماعية والديمقراطية (التعددية الحزبية وحرية التعبير وتداول السلطة) وبدون الإستناد الى التراث الإنساني والى التراث العربي الإسلامي. وأيضاً التحولات التي حصلت لدى الشيوعيين العرب بخصوص الموقف من القومية وإعادة فهم مسألة الدين ودوره في المجتمع، وإن كانت محاولات المراجعة لدى بعض هذه الأحزاب، قد أدت الى انحلال هذه الأحزاب وانقسامها وانحراف بعض رموزها الى مواقف غير تقدمية وغير وطنية.
من الجدير الإشارة اليه أيضاً تحولات بعض الأوساط في التيار الإسلامي العربي من المسألة القومية والتيارات القومية كما هو الحال في مصر ولبنان. فليس مفاجئاً أن يصدر حزب الله بياناً ينعى فيه القائد الشيوعي والوطني جورج حاوي واعتباره أبرز رموز النضال الوطني. في حين كانت التيارات الإسلامية في السابق لا تعترف بالشهيد الشيوعي ولا حتى القومي ما دام لم ينطلق نضاله من "الإسلام ديناً وفكراً". ألم يعتبر سيّد قطب وأتباعه عبد الناصر كافراً بعد أن جعلوا فكر الشهيد حسن البنا أكثر أصولية وأكثر تشدداً وتطرفاً ممهدين الطريق الى الصدام مع هذا القائد القومي العربي الذي جابه الإستعمار والأحلاف المعادية، والى محاولة قتله عام 1954 في حادث المنشية!!

شبابنا بحاجة الى مثال ملهم يقودهم الى فضاء الحرية والعدالة والمساواة...

التعليقات