31/10/2010 - 11:02

شرم الشيخ ووهم الاعمار../ عبد الباري عطوان

شرم الشيخ ووهم الاعمار../ عبد الباري عطوان
بعد انقشاع غبار مؤتمر شرم الشيخ الذي انعقد يوم أمس الأول تحت عنوان اعادة اعمار قطاع غزة، يمكن أن نقول بأن الخاسر الأبرز هو أبناء القطاع أنفسهم على المديين القصير والبعيد، أما الرابح الأكبر، ودون أي جدال، فهو الرئيس المصري حسني مبارك، في الوقت الراهن على الأقل، ويأتي بعده، وبدرجة أقل، رئيس السلطة في رام الله السيد محمود عباس.

رصد خمسة مليارات دولار نصفها لدعم السلطة في رام الله ونصفها الآخر لاعادة الاعمار هو خطوة تبدو انجازاً للوهلة الأولى، ولكن علينا ان نتذكر ان ما حدث هو مجرد "وعود" بدفع هذه المبالغ، مشروطة بتحقيق أهداف سياسية، وتوفير ظروف ووقائع معينة على الأرض.

لنكن أكثر صراحة، ونقول إن هناك هدفين وراء عقد هذا المؤتمر، الأول جوهري، والثاني ثانوي، الجوهري هو رد الاعتبار للرئيس المصري حسني مبارك ونظامه، بعد ان اهتزت صورته داخلياً في أوساط الشعب المصري، وخارجياً في أوساط العرب والعالم، بسبب ادارته السيئة اثناء العدوان الوحشي على قطاع غزة، وتخبطه في التعامل مع مسألة المساعدات الانسانية إلى الفلسطينيين من خلال اغلاق معبر رفح. صورة النظام المصري اهتزت وبلغت ذروة اهتزازها عندما طعنها اقرب حلفائها، اي الاسرائيليون والأمريكيون، فالاسرائيليون أوقفوا الحرب من جانب واحد، ودون أي التزام بالمبادرة المصرية، والأمريكيون وقعوا اتفاقاً أمنياً معهم لمراقبة حدود مصر ومنع التهريب عبرها إلى غزة دون علم النظام المصري ، ناهيك عن التشاور معه.

الرئيس مبارك أفاق، وربما متأخراً، على تراجع دور بلاده، وتفاقم حالة الغليان الداخلي بسبب ذلك، فقام بجولات أوروبية وعربية، وتضامن مع البحرين في مواجهة تشكيك ايراني بعروبتها، وطار إلى الخرطوم للقاء الرئيس البشير، ولم ينس زيارة الرياض لتنسيق المواقف ازاء المصالحة مع سورية.

مؤتمرا شرم الشيخ، الأول الذي انعقد قبل قمة الكويت الاقتصادية، والثاني الذي اختتم اعماله أمس الأول، جاءا بمثابة "فزعة" لدعم الرئيس مبارك من قبل اصدقائه مثل نيكولا ساركوزي (فرنسا) وسلفيو برلسكوني (ايطاليا) اللذين شاركا في المؤتمرين، والسيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية التي شاركت في الثاني.

جميل ان يحاول الرئيس مبارك استعادة دور مصر الضائع وسط نهوض ايراني وآخر تركي وثالث اسرائيلي متغول، ولكن المهم ان يجري توظيف هذا الدور في الاتجاه الصحيح، وبما يعيد لمصر مكانتها الريادية، وليس من خلال خداع النفس، وتصديق الأوهام. فمن طالع الصحف المصرية الرسمية أمس وصفحاتها الأولى وهي تتغنى بالانجازات الكبرى في شرم الشيخ، وتدبيج الافتتاحيات حول استعادة مصر لدورها وريادتها، وعناوين بكل الألوان من أحمر وأخضر وأسود يدرك ما نريد الوصول إليه.

حضور برلسكوني وكلينتون وساركوزي مؤتمر شرم الشيخ لا يعيد لمصر دورها أو مكانتها، وانما بتغيير منهجها السياسي الراهن الذي ثبت فشله وكارثيته على مصر والمنطقة بأسرها، وبالعودة إلى المنابع التي فرضت الريادة والزعامة المصرية على المنطقة بل والعالم الثالث. نحن لا نطالب بخوض حروب، لأننا ندرك استحالة التجاوب مع هذا الطلب، وانما باستخدام أوراق ضغط كثيرة يمكن أن تؤدي إلى اصلاح الخلل الذي لا يختلف عليه اثنان.

لا ننكر ان رقم الخمسة مليارات دولار الذي تعهدت برصده الدول المانحة في شرم الشيخ، هو رقم كبير بكل المقاييس، ولكنه كم يبدو ضئيلاً اذا ما وضعنا في اعتبارنا ان الدول الخليجية وحدها خسرت أكثر من 600 مليار دولار على صعيد استثماراتها وصناديقها السيادية في الخارج، ناهيك عن الاستثمارات والمشاريع الداخلية بسبب الانهيار المالي الرأسمالي، وهذه الخسارة مرشحة للزيادة مع استمرار هذا الانهيار.

الرئيس عباس الذي انهالت عليه عبارات المديح من كل الاتجاهات، سيحصل على بعض الدعم المالي الذي يخرج ميزانية السلطة من حال الافلاس التي تعيشها، وجعلتها تستلف مبلغ 70 مليون دولار لدفع رواتب موظفيها في الضفة والقطاع (140 ألف موظف). وهناك من يقول إن هذا العجز مفتعل هدفه "ارهاب" هؤلاء في حال "انحرافهم" نحو الجبهة الأخرى بعد وصول الرهان على مفاوضات التسوية إلى نهاية مأساوية مهينة.

المشردون في قطاع غزة هم الضحية، لان أموال الإعمار لن تصلهم فوراً، وستحتاج بعض الوقت ريثما يتم الاتفاق على "المرجعية"، والحصول على بعض التنازلات الجوهرية من حكومة "حماس"، استجابة لشروط المانحين، عرباً وأجانب، مثل الاعتراف الكامل الصريح بدولة اسرائيل وحقها في الوجود، والقبول بحل الدولتين وفق التعريفات والمعايير الاسرائيلية المصدق عليها أمريكياً، واسقاط حق المقاومة.

رصد الأموال، كبر حجمها أو صغر، قد يعكس حرصاً مزيفاً على أبناء الشعب الفلسطيني وأرواح أطفاله، فأين كانت هذه الدول (75 دولة) عندما بدأ العدوان الاسرائيلي على القطاع، ولماذا لم تتدخل لوقفه، وتركته يستمر ثلاثة أسابيع، حتى لم تعد تجد الطائرات والزوارق والدبابات الاسرائيلية أهدافاً تقصفها فقررت التوقف والاكتفاء بما سفكته من دماء.

تابعت شخصياً جميع الكلمات التي القيت أثناء جلسة افتتاح مؤتمر شرم الشيخ، والمؤتمرات الصحافية التي اعقبته، ولم أسمع عبارة واضحة تشير بقوة إلى المجازر الاسرائيلية في القطاع وتدينها، بما في ذلك كلمات المتحدثين العرب. ولم يطالب أي من المتحدثين اسرائيل بدفع قيمة اعادة اعمار ما دمرته، بل استجداء لها بأن لا تعيد تدمير ما سيتم اعادة بنائه.

كنت اتمنى لو وقف زعيم أو مسؤول عربي وقال للرئيس الفرنسي أو الايطالي أو السيدة كلينتون الذين اشترطوا على "حماس" الاعتراف باسرائيل وحل الدولتين، ماذا ستقدمون لهم في مقابل الاستجابة لكل هذا، وهل ستفرضون على نتنياهو الذي يرفض هذا الحل، ويعلن أن رفضه هذا هو سبب عدم دخول حزبي "كاديما" و"العمل" في اي حكومة يشكلها، وكم من الوقت ستحتاجون لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ثماني سنوات اخرى ام ثمانين عاماً؟

انهم يبيعون "الوهم" لأبناء فلسطين، وباتت المعادلة الجديدة المنبثقة عن مؤتمر شرم الشيخ "الإعمار مقابل التهدئة الدائمة"، مما يعني التخلي عن مجرد التفكير بالمقاومة، والاستمرار في الدوران في مفاوضات عبثية حتى تكمل حكومة اسرائيل الاستيطان في كل انحاء الضفة الغربية. فلهذا نحذر من عملية اعمار تريد خلق "فتنة" اضافية للفلسطينيين، وكأنهم بحاجة الى المزيد من الفتن وتقسيم الصفوف، ومن اجل تحقيق الاهداف نفسها التي فشل الحصار والعدوان في تحقيقها.

فلو كان الهدف من الاعمار تخفيف معاناة الفلسطينيين فلماذا يجري تسييسه من خلال شروط تعجيزية، ومن خلال سلطة لا تملك سلطة في القطاع؟ هناك حلول أخرى لتجنب الكثير من المشاكل، ابرزها تسليم الاموال والاشراف عليها الى هيئة الامم ومنظماتها المتخصصة للقيام بهذه المهمة، والزام الجميع بالتعاون معها، ولكن الهدف ليس الاعمار وانما تركيع الشعب الفلسطيني واذلاله، ودفعه الى نسيان ثقافة المقاومة.

النغمة الجديدة التي يكررها القادة والمسؤولون العرب هذه الايام هي ان المبادرة العربية للسلام لن تبقى موضوعة على المائدة الى الابد.. هذا كلام طيب، ولكن قولوا لنا متى ستسحبونها، وهل هناك سقف زمني، سنة سنتان عشر سنوات؟ وفي حال سحبها هل هناك خطة بديلة؟ المنطق يقول بأن هناك "الخطة ب" في حال فشل "الخطة أ"، فهل يتعامل النظام الرسمي العربي بهذا المنطق؟ لا نرى مؤشرا يفيد بالايجاب.

لم يأتنا من شرم الشيخ ومؤتمراته ما يسرنا كعرب ومسلمين، فهذا المنتجع اصبح مطبخاً للخطط التآمرية والتدميرية ونصب الافخاخ والمصائد للامة العربية، ولا نعتقد ان مؤتمر شرم الشيخ الاخير سيكون استثناء، ولذلك لا بد من الحذر الشديد في التعامل مع نتائجه تقليصاً للخسائر اذا لم يتأت منع الكوارث المترتبة عليه.

التعليقات