في رد فعل مباشر لأحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، التي شارك فيها 15 سعودياً من أصل 19 مهاجماً، كتب أحد أشهر الصحافيين الأميركيين مقالاً لم يخل من وقاحة أميركية، كان أقل ما جاء فيه أن قال: «إن السعودية ليست سوى محطة بنزين بالنسبة إلينا، نأخذ منها ما نشاء من حاجتنا النفطية وقتما نشاء».
بعد ذلك بسنوات، وفي لقاء مع احدى الفضائيات العربية البارزة، سُئل ذلك الصحافي الأميركي عن مقولته تلك، وعما إذا كان يشعر بنوع من الأسف عن عباراته الجارحة، إلا أن اعتذار الرجل كان بأسلوب «عذر أقبح من ذنب» - كما يقال في الأمثال - حين قال: «لم أكن أعبّر عن حال نفسي، حينما كتبت ما كتبت، وإنما كنت أعبّر عن شعور الغالبية العظمى من الأميركيين»!
وعلى رغم ما في هذا الأسلوب من تبجح غير لائق، يتناسب مع غرور العقلية الأميركية، إلا أن واقع الأمر يُنبئ أن هذا هو المفهوم الذي بُنيت عليه السياسات الأميركية في التعامل مع الدول النفطية عموماً، في أنها ليست أكثر من محطات للبنزين، تأخذ الولايات المتحدة منها ما تشاء وقتما تشاء.
اليوم، حيث يوشك سعر النفط أن يصل إلى 150 دولاراً للبرميل الواحد، ربما بات حرياً بالدول المصدرة للنفط أن تراجع سياساتها النفطية مع الدول المستهلكة، لتقف على حقيقة النفع والضرر في ما يتعلق بأسعار النفط عالمياً ومحلياً، لكي لا تخدع بالدعاية الغربية الزاعمة أن ارتفاع أسعار النفط يضرّ بالاقتصاد العالمي ومن ذلك اقتصادات الدول المصدرة للنفط ذاتها، تلك الدعاية التي طالما خُدعنا بها!
ذلك أنه قبل عقد من الزمان، كان الزعم الذي يردده الغرب هو أنه لكي تبقى نسبة التضخم عند الحد المعقول عالمياً، ولتجنب أي انهيارات اقتصادية تضر بمصالح الاقتصاد العالمي، ومنها اقتصادات العالم الثالث، فإنه يجب أن تبقى أسعار النفط بين 22 و25 دولاراً للبرميل. بيد أن الاقتصاد الغربي استطاع أن يستفيد من زيادة أسعار النفط، حيث لا يزال الناتج القومي في عموم الدول الغربية يحقق نمواً متزايداً عاماً بعد عام، على رغم الارتفاع غير المسبوق لأسعار النفط في الأعوام الخمسة الأخيرة! فأين خبراء الاقتصاد العالميون الذين طالما حذّرونا من خطورة ارتفاع أسعار النفط فوق حاجز الـ25 دولاراً للبرميل؟! أليست الاقتصادات الغربية هي المستفيد الأكبر من ارتفاع أسعار النفط الأخيرة هذه؟
واقع الأمر أن اقتصادات الغرب بسبب مرونتها استطاعت في كل مرة يرتفع فيها سعر النفط أن تستغل ذلك الارتفاع في نهاية الأمر لمصلحة اقتصاداتها. بل إنه حتى قبل حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، ظل سعر برميل النفط الخام تحت دولارين لفترة جاوزت ربع قرن من الزمان، إبان سيطرة شركات النفط العالمية على الموارد النفطية، أو العلاقة التي وصفها أحمد زكي يماني بـ «الزواج الكاثوليكي» بين شركات النفط العالمية والدول المنتجة له. وعلى رغم ذلك، فحين قفزت أسعار النفط بعد حرب 1973، من 3 إلى 12 دولاراً للبرميل، كان الاقتصاد الغربي هو المستفيد الأكبر في نهاية الأمر.
فضلاً عن ذلك، فإن المضاربين بأسعار النفط الآجلة كانوا ولا يزالون هم المستفيد المباشر الأول من أية زيادة للنفط على رغم رفض الدول الغربية تحمليهم أية مسؤولية عن ذلك. وقد أشار خادم الحرمين الشريفين في خطابه أمام مؤتمر مستهلكي ومنتجي النفط في جدة الأسبوع الماضي، إلى أن عبث المضاربين بأسعار النفط الآجلة هو أحد أهم أسباب الارتفاع الحاد الأخير في أسعار النفط.
في هذا الخصوص، تأتي خطة مرشح الحزب الديموقراطي باراك أوباما لسدّ ثغرات قانونية في التشريعات الأميركية تتيح حالياً لشركات النفط جني أرباح قياسية على حساب المستهلكين. فبحسب قانون سنّه الكونغرس الأميركي عام 2000، تُعفي التشريعات الأميركية الحالية، نشاط الاتجار بالعقود الآجلة من أي تقييد قانوني. وبسبب أنانيتها، تستغل شركات المضاربة الأميركية هذه التشريعات لزيادة أرباحها، إذ تحقق هذه الشركات أرباحاً تعادل ثلاثة أضعاف ما تدفعه، حيث تذهب 3 من كل 4 دولارات من القيمة التي يدفعها المستهلك الأميركي لكل غالون من البنزين إلى شركات المضاربة الأميركية. وإذا ما أخذنا هذا العامل المهم في الاعتبار، فإن زيادة أسعار النفط التي يشكو منها الغرب هي زيادة مزيفة في حقيقة الأمر، ولا تذهب كلها الى الدول المنتجة كما يعتقد البعض.
إضافةً إلى ذلك، فإذا ما قارنا أسعار النفط ببعض المنتجات الاستهلاكية التي يصدرها الغرب، ربما تبين لنا الغبن الذي نخدع به حقيقةً. فعلى سبيل المثال - ومع التقدير الكامل للفرق بين سعر البرميل الخام والمواد المصنعة، إلا أنه من باب المعرفة المفيدة فقط - حين نقارن سعر برميل النفط بسعر مقدار برميل من بعض المنتجات الأخرى، نجد أن سعر برميل من الحليب يعادل 163 دولاراً، وسعر برميل من قهوة فانتي لاتيه تعادل 954 دولاراً، وسعر برميل من زيت زيتون نوعية بيرتولي تعادل 2370 دولاراً، وسعر البرميل من قطرة منظف العين من نوع visine A.C. تعادل قرابة 40 ألف دولار، وسعر البرميل من عطر شانيل يعادل 1.6 مليون دولار!
من هذه المقارنة يتضح أن «الزيادة الجنونية» في أسعار النفط التي يشكو منها الغرب، قد لا تكون كذلك لو كان النفط منتجاً غربياً صرفاً، بل إنه ليس من المبالغة القول إنه لو كان النفط منتجاً غربياً صرفاً، ربما وصل سعر برميل النفط إلى 500 دولار أو أكثر.
وغني عن القول إن الغرب بصفة العموم حين يتعامل مع مسائلنا التي تثير اهتمامه، ينظر إليها بعين مصلحته هو وليس بحثاً عن مصلحتنا نحن. وتبعاً لذلك، فإن الغرب حين يتعامل مع مسألة إنتاج النفط يتعامل معها بازدواجية غير منصفة وبأسلوب ينفعه ويضرّ غيره. فعلى سبيل المثال، في منتصف الثمانينات، حين طلبت السعودية من الولايات المتحدة التدخل لإنقاذ أسعار النفط التي تدنّت إلى أدنى سعر لها عند 13 دولاراً للبرميل، كان الردّ الأميركي أن أسعار النفط تعتمد، كما تعتمد أية سلعة أخرى، على «العرض والطلب» وأن الولايات المتحدة لا تستطيع التدخل لتغيير الأمر الواقع. في الوقت ذاته قبل ذلك وبعده حين تشمّ الولايات المتحدة رائحة ارتفاع أسعار النفط، تسارع الى مطالبة الدول المنتجة لزيادة الإنتاج، لينخفض سعر النفط، من دون أدنى مراعاة لمصالح الدول المنتجة.
من أجل ذلك، ربما كان الأولى بدول «أوبك» التي سبق للكونغرس الأميركي أن هدّد بمقاضاتها داخلياً بسبب سيطرتها على إنتاج وأسعار النفط، ربما كان الأولى بها ألا تكترث كثيراً بالنداءات الغربية الملحّة لزيادة الإنتاج، وأن تتركه للعرض والطلب كما تعلمنا النظرية الرأسمالية!
ولعله من نافلة القول إن أحد أهم أسباب ارتفاع أسعار النفط في الفترة الأخيرة هو السياسة الخرقاء للولايات المتحدة، التي تطلب من أعضاء «أوبك» زيادة إنتاج النفط للمساعدة على انخفاض السعر، ثم ما تلبث أن تهدّد إيران بضرب مفاعلاتها النووية، فتستجيب السوق لهذا التهديد أضعاف ما تستجيب للطلب الاول! فضلاً عن الحروب التي تخوضها إدارة بوش في العراق وأفغانستان، والتي تسببت في عجز الموازنة الأميركية وهبوط قيمة الدولار الذي تتعامل به الأمم في بيع منتجاتها النفطية.
وعلى رغم ذلك، فإن الولايات المتحدة التي لديها أكثر من 700 مليون برميل من المخزون الاحتياطي الاستراتيجي، والذي سبق أن اشترته بأسعار زهيدة، تستطيع أن تسهم في خفض أسعار النفط في حال اللجوء إلى هذا المخزون بشكل أكبر، ولست أدري لماذا لا تطلب الدول المنتجة للنفط من الولايات المتحدة ذلك بقوة؟
خاتمة القول إن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة - التي لا تنتهي مطالبها - لم ولن يبحث في يوم من الأيام عن مصالحنا القومية. بل إنهم لن يدّخروا كل ما في وسعهم لسلب ونهب ثرواتنا النفطية وغيرها، بكل أسلوب قانوني وغير قانوني. يدل على ذلك التهديد الذي صدر من الكونغرس الأميركي بمقاضاة «أوبك» لتحكمها في الإنتاج والأسعار.
وإذا كانت الحال كذلك، فإنه ربما آن لنا أن نحاسب الولايات المتحدة والغرب بما نراه يتناسب مع مصلحتنا، ليس فقط في الحد من الإنتاج والضغط لزيادة سعر النفط، بل وفي اتخاذ خطوتين أساسيتين قد تعيدان إلى «أوبك» هيبتها المفقودة، فأما الخطوة الأولى فهي استبدال عملة الدولار بسلة من العملات الأخرى، إذ قد يؤدي مجرد التهديد باللجوء إليها، إلى انهيار العملة الأميركية.
وأما الخطوة الثانية، فإنه إذا كانت التشريعات الأميركية تحمي شركات المضاربة الأميركية، فإنه ربما آن لدول «أوبك» المتهمة ظلماً بالتلاعب بالأسعار أن تقاضي هذه الشركات في بلدانها، من باب «كما تدين تدان»، لأن من يتحكم بسعر البنزين في نهاية الأمر يجب أن تكون هي محطات البنزين وليس المستهلك!
"الحياة"
التعليقات