31/10/2010 - 11:02

مزايدة الشعارات وسطوة الإحصاءات/ ماجد كيالي

مزايدة الشعارات وسطوة الإحصاءات/ ماجد كيالي
اتسمت الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، عموما، بالتجريبية والعفوية، وغلبت عليها الروح الشعاراتية والمبالغة بالجوانب المظهرية. وقد فاقم من هذه المشكلات تكلس بنى هذه الحركة، وغياب علاقات المؤسسة والديمقراطية والمشاركة فيها وفيما بين مكوناتها، وخصوصا وضعها في مواجهة عدو يفوقها في الإمكانيات والعلاقات والإدارة وفي توفر الوسائل والقدرة على السيطرة.

برغم كل ذلك فإن هذه التجربة استمرت وتطورت بفضل روح التضحية والعناد لدى الشعب الفلسطيني، أولا؛ وبفضل الأهمية التاريخية والرمزية للقضية الفلسطينية، ثانيا؛ وبحكم طابعها الدولي والإقليمي، ثالثا. ومشكلة الفلسطينيين، أيضا، أن قيادتهم بطبيعتها ظلت تنبذ ما تسميه التنظير (التفكير) السياسي، وتنحو نحو العملية، وأن إسهام هذه القيادة بالتربية السياسية لجماهيرها (بمعنى الكلمة) ضعيف جدا، ويكاد يكون محدودا، بسبب اعتمادها على الخطاب الشعبوي العفوي، الذي يثير العواطف ويدغدغ الغرائز، وهو خطاب شعاراتي إرادوي، ليس له علاقة بحقائق الصراع ومعطياته، ولا بموازين القوى.

هكذا لم تعتد القيادة الفلسطينية على مصارحة شعبها بحقائق السياسة وبالمعطيات المحيطة به، خصوصا أن هذا الشعب، في ظل الأوضاع التي يرزح تحت ثقلها، يمحضها كل ثقته، وأنه في بذله لعظيم التضحيات لا يسأل عن الإنجازات؛ فالتضحية عنده في سبيل الوطن شيء مقدس، والسياسة بالنسبة له شأن من شأن الخاصة، أو النخب الحاكمة، شأنه في ذلك شأن المجتمعات العربية!

ولعل هذا الواقع يفسر أن الساحة الفلسطينية، ومنذ أربعة عقود، مرت بما يشبه السلام الداخلي، رغم كل الهزات والقلاقل الخطيرة والكبيرة التي تعرضت لها، سواء في تجربتها الأردنية أو اللبنانية وفي تجربتها الفلسطينية الحالية (في الداخل)؛ كذلك فإن هذه الساحة لم تجر أية مراجعة أو محاسبة نقدية، لا تجربتها في العمل السياسي ولا في العمل العسكري، ولا في العمل الإداري، برغم كل الإشكاليات والالتباسات والتعقيدات المحيطة بهذه التجارب.

معلوم أن الصراع ضد المشروع الصهيوني، كما تجسّد في إسرائيل، استهلك أكثر من نصف قرن من عمر الناس في العالم العربي، ورصدت له مئات مليارات الدولارات، وذهب ضحيته مئات الألوف من العرب، من الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين والسوريين والأردنيين والعراقيين وغيرهم؛ شهداء وجرحى وأسرى ومنكوبين. وهذا الصراع أعاق التطور السياسي والاقتصادي والثقافي في العالم العربي، بشكل مباشر وغير مباشر، كما أنه ساهم في تسهيل مصادرة الحياة السياسية وتقييد الديمقراطية، وترسيخ «السلطات» القطرية.

وبما أن المعطيات والتحليلات ربما تشي بنوع من اللبس، فإن الإحصاءات قد تكون أكثر مباشرة وشفافية، لحقائق الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وللثمن الذي جباه من الفلسطينيين على حساب حياتهم وتطورهم، ومختلف أوجه نشاطهم.

مثلا، فقد ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت (21/4/2005) أن عدد القتلى الإسرائيليين الذين سقطوا، منذ 29/11/1947 (أي منذ صدور قرار التقسيم)، جراء الحروب العربية ـ الإسرائيلية، وجراء كفاح الفلسطينيين (من المقاومة إلى الانتفاضة) بلغ 368,20 إسرائيليا. وبالطبع فإن هذا العدد هو جد ضئيل، قياسا بالحروب والمعارك والصراعات التي واجهتها إسرائيل، مع العرب وضمنهم الفلسطينيون، وخصوصا بالقياس لخسائر العرب والفلسطينيين، البشرية والمادية والسياسية، إذ إن المعدل السنوي للقتلى من الإسرائيليين، بلغ حوالي 350 شخصا، وهو عدد بإمكان أية دولة أو مجتمع، في حالة حرب، تحمله؛ وللعلم فإن إسرائيل تخسر في حوادث الطرق سنويا ضعف هذا العدد تقريبا!

أما بالنسبة لتقييم كفاح الفلسطينيين، فبحسب آفي ديختر، رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي، فقد «أصيب جراء الإرهاب (المقاومة الفلسطينية لوحدها) في السنوات الأربع الأخيرة 356,11 شخصا من الإسرائيليين (قتلى وجرحى)، مقابل 319,4 شخصا أصيبوا بين 1947 ـ 2000». (هآرتس 9/8/2004) والمعنى من ذلك أن عمليات المقاومة التي حصلت خلال الأربعة أعوام الأولى من الانتفاضة كلفت إسرائيل أكثر، بمقدار ثلاثة أضعاف، مما كلفتها تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني، طوال الأعوام 1965 ـ 2000!

مقابل ذلك معلوم أنه ثمة عشرات الألوف من الفلسطينيين سقطوا شهداء في سبيل هذا الكفاح، إن ضد إسرائيل، أو في أحداث سبتمبر في الأردن (1970)، وإبان الحرب الأهلية اللبنانية، وثمة أكثر من مئة ألف جريح ومصاب، وحوالي 500 ألف فلسطيني دخلوا السجون الإسرائيلية، لفترات متفاوتة، منذ احتلال الضفة والقطاع في العام 1967؛ والأنكى أنه ثمة أطنان من البيانات، الصادرة عن مختلف المنظمات، حول العمليات التي تكبد فيها العدو الإسرائيلي خسائر فادحة بالأرواح والمعدات!

أما في الانتفاضة الأولى (1987 ـ1993)، التي استمرت ستة أعوام، فقد لقي 383 جنديا ومستوطنا إسرائيليا مصرعهم، وبالمقابل فقد استشهد 1600 من الفلسطينيين، وأصيب 135 ألفا بجروح، ودخل إلى المعتقلات حوالي 112 ألفا، لفترات متفاوتة؛ بمجموع يقارب ربع مليون. وفي الأعوام الخمسة الماضية، استشهد حوالي خمسة آلاف من الفلسطينيين، وأصيب 60 ألفا منهم بجروح، واعتقل حوالي 30 ألفا، وتم تخريب 66 ألف منزل.

هكذا يتبين لنا أن المعضلة في صراع الفلسطينيين ضد المشروع الصهيوني لا تكمن في استعداد الشعب الفلسطيني للتضحية وتحمل المعاناة، وإنما تكمن في معنى هذا الكفاح وطريقة إدارته، والقدرة على استثماره والمراكمة عليه، وأيضا في الثمن الباهظ جدا، الذي يجري دفعه من دون تحقيق أي إنجازات ملموسة.

ورغم معرفتنا بتعقيدات الصراع، وتفوق إسرائيل، لاسيما في المجالين العسكري والاقتصادي، والقوة المضافة التي تتمتع بها بنتيجة انتمائها للغرب وعلاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة، فإن كفاح الفلسطينيين كان يمكن له، ربما، أن يكون أكثر جدوى، لو أدار الفلسطينيون كفاحهم بنوع من العقلانية والواقعية، ولكن ما يمكن تأكيده أن خسائر الفلسطينيين كان يمكن أن تكون أقل بكثير، في هذه الحال.

اللافت أن الفلسطينيين، في كفاحهم الطويل، لم يحظوا بهذه الميزة، حيث اتسم كفاحهم، كما قدمنا، على الأمنيات والشعارات، وبنوع من التقديس للتضحيات والبطولات، بحد ذاتها، في صراع تحكمت به العواطف والغرائز والرموز والروح القبلية. وهذا ما يفسر أن الشعب الفلسطيني لم يسأل طوال تاريخ صراعه ضد المشروع الصهيوني، عن النجاحات أو الإنجازات.

طبعا ليس المقصود هنا تحميل الفلسطينيين، لوحدهم، مسؤولية الإخفاق في هذه المعركة الممتدة، فثمة قسط كبير من المسؤولية يقع على عاتق الظروف الموضوعية (الدولية والإقليمية) التي ساعدت إسرائيل على النشوء والاستقرار والتفوّق، إضافة إلى تمتّعها بضمانة الدول الكبرى (بريطانيا ثم الولايات المتحدة) لأمنها وتفوقها العسكري والاقتصادي والعلمي.

على ذلك يتضح أن الفلسطينيين، بعد كل التجارب التي مروا بها، لم يعودوا بحاجة للإثبات بأنهم شعب شجاع ومضحّ وصاحب كرامة، بقدر حاجتهم، أيضا، إلى الإثبات لأنفسهم ولغيرهم، بأنهم شعب قادر على تحويل بطولاته وتضحياته ومعاناته، إلى إنجازات سياسية، أي إلى وقائع على الأرض، سواء في مواجهة عدوهم أو في إطار بناء المجتمع الفلسطيني.

يستنتج من ذلك أن القيادات الفلسطينية معنية بترشيد كفاح شعبها وإدارته بأنجع وأقوم ما يمكن، لوضعه على سكة تقلل من خسائره، وتزيد من خسائر عدوه، سكة تؤدي إلى تحقيق الإنجازات وتراكم النجاحات، في صراع يفترض أنه طويل وممتد، في الزمان والأشكال. وهذا هو جوهر العمل القيادي والسياسي الذي يرتبط بموازين القوى والتفاعلات والمعطيات السياسية.

التعليقات