31/10/2010 - 11:02

وكان قد بدأ حياته الشعرية بمدح باعة البصل والباذنجان../ هيفاء زنكنة*

وكان قد بدأ حياته الشعرية بمدح باعة البصل والباذنجان../ 
هيفاء زنكنة*
طافت بأذهان الكثيرين منا خواطر الشعر العراقي. لعله رحيل الشاعر محمود درويش المفاجىء هو الذي استدعى المقارنة. أليس هو القائل في احدى قصائده: كن عراقياً لتصبح شاعراً. أو لعله الهاجس، المخفي عمدا في تلافيف الدماغ، الممنوع من الظهور الى الخارج، خشية خيبة الأمل المريرة. خيبة قد تؤدي الى تكسر القلب حزنا وكمدا. أو لعلها ضفيرة الشعر والسرد والدم والبحث السيزيفي عن العدالة، في عصر اغتيالها، تربطنا نحن العراقيين بقضيتنا، فلسطين. أو ربما المسألة ابسط من ذلك بكثير. اذ لايستدعي الالم غير الالم، ولايشفي ألم رحيل شاعرمتميز غير حضور شاعرمتميز. وكأن حالة الفراغ الجسدي، في حالات الحزن القصوى، لاتطاق ولو لدقائق. في تلك الوهلة المتمطية مثل ساعة سلفادور دالي، السائلة دقائقها على سطح الذاكرة المحروق يوم حرق الغزاة البرابرة بغدادنا، بحثت عن شاعرنا المتميز، الحامل لسيفه أو صليبه دفاعا عن حرية واستقلال ووحدة العراق، المتسامح مع اهله، الغاضب على عدوه، الذي يرى أبعد مما يرى ابناء شعبه لكنه يشدو باصواتهم، الذي ان توقف عن كتابة الشعر، في الزمن الرديء، فلأنه مثل بابلو نيرودا، شاعر تشيلي الكبير، عاجز عن الكتابة عن الازهار حين يعيش في العراق فيرى من كل منزل ميت يخرج الحديد الملتهب، ودماء الصغار في الشوارع تجري مثل الأطفال.

نعرف ان العراق هو موطن الشعراء وأن ارض العراق منحتنا الشعر قبل رز العنبر وآبار النفط. أعطتنا، نحن ورثة الارض وحاملي امانتها في اعناقنا، أول الحروف واول الشعراء. ففي أكد، كتبت اول قصيدة دَوًنها انسان.

وكانت قصيدة للشاعرة والاميرة وكاهنة المعبد أنخيدونا، ابنة الملك سرجون الأكدي حوالي 2700 عاما قبل الميلاد. فهل ستدلنا الحروف والقصائد الى الشاعر الذي يتعالى صوته حين تخفت بقية الاصوات خشية الخطر، ليكون صوت الشعب كله وليس صوت حزب واحد او فئة واحدة، ان يكون امتدادا للتاريخ وتحديا للحاضر ومستشرفا للمستقبل، ان يكون صوتا متعدد الطبقات الا انه، قبل كل شيء آخر، صوتا عراقيا مستقلا؟ فهل من الممكن هذا في العراق المحتل اليوم؟ لئلا اطلق الحكم جزافا، عدت الى التاريخ من خلال قراءة كتاب التكسب بالشعر للدكتور الراحل جلال الخياط، الذي تناول فيه وكما يدل عنوانه استعداد الشعراء لاستخدام الشعر كوسيلة للعيش، موضحا في مقدمة الكتاب: (والشعراء ينقسمون طبقا لهذا البحث الى فريق رفض ان يمدح، وفريق صدر في اماديحه عن عاطفة صادقة، وفريق كان المديح عندهم نوعا من الالتزام الديني او السياسي، وهؤلاء لاعلاقة لهم بالشعراء المتكسبين الذين نافقوا وزيفوا الوقائع وبالغوا كثيرا ليحصلوا على المال، واصبح المديح والرثاء عندهم حرفة منها يتكسبون وعليها يتكلون في معيشتهم، فكانوا من بائعي المواهب ومشوهي الحقائق ومبتزي الاموال ومرتزقة في كتائب الممدوحين، ولايهمنا ان نجد لهم اعذارا بيئية أو شخصية، فهذا الامر ليس من شأن المعنيين بالأدب).

ويساعدنا الخياط، عبر الامثلة الموثقة، على النظر الى الشاعر كما هو، مجردا من الكثير من الاوهام التي طالما تعودنا على احاطته بها ومن تورم الأنا المصاب به بعضهم. فيخبرنا طه حسين في كتابه (من حديث الشعر والنثر) بانه ( ليس بين الشعراء والممدوحين الا ما يكون بين المشتري والبائع). ويقول ابن رشيق عن الأعشى، الذي يقال بانه كان اول من تكسب بالشعر ( ان الاعشى اتخذ الشعر متجرا يطوف به البلاد)، مما يذكرني بمثقفي الاحتلال، من الليبراليين الجدد، وهم يدورون في المؤتمرات الممولة خارج العراق، وهم يحملون حقيبة تحتوي أوراقاً جاهزة، يغيرون عناوينها حسب الطلب، فيتكسبون من خلالها بميزانيات مراكزهم للدراسات الاستراتيجية والديمقراطية والسلام.

هنا لا يعود هو ( ضمير الامة )، كما يقول البعض، او كما اريد منه في مواصفاتي شبه المستحيلة، بل انه اقرب ما يكون الى صورة السياسي البراغماتي المتقن لفن الممكن اليوم مع بعض التلوين حسب الممدوح أو صاحب التمويل، كأي تاجر يبيع بضاعته لمن يدفع سعرها.

وكان الحطيئة، صريحا في موقفه، فعندما نهاه الخليفة عمر بن الخطاب عن الهجاء قال: (اذن يموت عيالي جوعا، هذا مكسبي ومنه معاشي). وكان ابو تمام لايقل عن صراحة حين قال: الشعر بضاعة.

اما البحتري (الشاعر العباسي الكبير الذي عاش ثمانين عاما، قضاها كلها في سفر دائب وتنقل مستمر وسعي وراء الممدوحين واعطياتهم، في كل بقعة من ارجاء الامبراطورية العباسية المترامية الاطراف ... يسهر الليل في صياغة فنه ليبيعه في نهاره بالمال الوفير.. وكان قد بدأ حياته الشعرية بمدح باعة البصل والباذنجان).

هكذا كان حال معظم الشعراء العرب تاريخيا، وأطل علينا القرن العشرون فخرج الشعراء من القصر رمزيا وبقوا فيه فعليا، كما كان أحمد شوقي في مديح الخديوي، وغيره كثر.

وبرر عدد من النقاد المعاصرين سلوكهم، حيث قال زكي مبارك جاذبا ايانا اكثر فأكثر الى ارض الواقع: (ان اولئك الشعراء كانوا يؤدون لدولهم خدمات اجتماعية وسياسية ومن حقهم ان يعيشوا بفضل تلك الخدمات لانهم لم يخلقوا بلا معدة). وهي تبريرات تصح على الشعراء والكتاب وصنوف المثقفين المحتاجين ماديا او الطامعين في المال، فماذا عمن يعيشون في ظل سلطة قمعية، هل يمتلكون خيارا غير مديح السلطان؟ يخبرنا الدكتور جلال الخياط: (ان امام الشاعر سبيلين: الذل او الانعزال، ولا اظن ان الحاكمين قد اجبروا المداحين على النفاق، وما كان لهم ان يعكروا صفو الشعراء الذين لم يمدحوا ولم يشكلوا خطرا على السلطة). وقال عن الممدوحين: (انهم باغداق الاموال قد شجعوا على التزييف والنفاق والكسل العقلي والجسدي).

ويضيف عالم الاجتماع د. علي الوردي موضحا العلاقة النفعية المتبادلة بين الحاكم الفاسد والشاعر، قائلا: 'ساعد الشعر على تدعيم الحكومة السلطانية، حيث كان السلطان ينهب اموال الامة كما يشاء وينفقها على ما يشتهي، ولكنه يأخذ قسطا مما نهب فيعطيه للشعراء، وهؤلاء لا يترددون عند ذاك عن جعل السلطان امير المؤمنين وظل الله في العالمين'. وكانت العلاقة النفعية المتبادلة بين النظام السابق والشعراء قد إمتدت الى الجواهري في مديحه لإحمد حسن البكر، ثم تجاوزت حدود العراق الى بقية الدول العربية، حيث أصبح مهرجان المربد الشعري، سوقا لبيع البضاعة أو الشعر بينما هاجر من هاجر وصمت آخرون. وشهدنا شعراء عرباً كنزار قباني وسعاد الصباح يكتبون شعر مديح مرسلة، وكانت قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد ذات النفس الكلاسيكي (ياعالي المرتقى) في افتتاح المربد لعام 1995 لاتقل مدحا عن اي شاعر عباسي قائلا ( يازاهي الخطو ياصدام ... يانسبا لكل ميراثنا ...بوركت من نسب).

ثم جاء برابرة الحضارة الامريكية ومن معهم بحجة رفع المظلومية وتحرير الناس من هيمنة السلطان واطلاق حرية التعبير. وسارع عدد من المثقفين السذج يتغنون باستعادة المثقف - الشاعر لحرية ابداعه واطلاق سراح النص - القصيدة من سجن النفاق والزيف. فما الذي جرى؟ في ديمقراطية الاحتلال، صار تعيين وزير الثقافة ووكلائه وفق المحاصصة الطائفية والعرقية وبلا ثقافة. حيث تم تعيين ضابط شرطة كوزير للثقافة ثم تلاه تعيين وكيل (شاعر) من المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، ارتبط اسمه باهانة صحافي شاعر حاول حضور مهرجان المربد لهذا العام فمنعه حراس الوكيل من دخول القاعة واصفين اياه بمفردات بذيئة ثم اعتدوا عليه بالضرب واقتادوه إلى غرفة حجز بعد أن كبّلوا يديه وهدّدوه بوضع الكيس الأسود على رأسه. وجاء رد فعل الوكيل الشاعر بالفاظ لاتليق الا بشرطي تذوق لتوه طعم السلطة.

وعاد الشعر مع مهرجان المربد خائفا من القتل من قبل ميليشيات الاحتلال الطائفية والعلمانية سواء بسواء ومهانا من قبل مسؤولين بمستوى العسس في عهد بلا سلطان مغلفا بصمت مثقفين اشترتهم، بدلا من السلطان، منح السيد المحتل للكتابة بالقطعة للتغني بانجازاته. ولم يعد مسؤولو ثقافة الاحتلال يخجلون من اهانة المثقفين والشعراء علانية وكان مهرجان المربد لعام 2006 نموذجا لما سيجلبه المستقبل من عار التعامل مع سلطة الاحتلال والامثلة كثيرة تضيق بها المساحة. أحدها حين ذكر المدير في مكتب وزير الثقافة عقيل المندلاوي (من التيار الصدري) ان ( الأدباء غير راضين عن أداء الوزارة، لكنهم حين يتسلمون الدنانير سيتغير موقفهم)، في اشارة الى ذل الأدباء أمام الدنانير، فثارغضب الحاضرين، وهدد الجميع بترك القاعة، إذا لم يعتذر المندلاوي.

هل هذا يعني ان الشاعر والمثقف المقاوم لاحتلال بلده، الذي طالما تغنينا بملامحه وجبلنا على توقع وجوده بيننا، بات جنسا منقرضا؟ لا اظن ذلك وان طغت صورة الشاعر المثقف المستخدم للشعر كوسيلة للانتفاع المادي والتعيين الوظيفي ومن اجل الطائفة والعرق . وما كنا سنهتم بهذه النوعية من المثقفين والشعراء خصوصا لو كانوا يتحدثون علانية، كما فعل أبو تمام، عن تعاملهم مع الشعر باعتباره بضاعة، الا ان تغليفهم للزيف والاستخذاء بديمقراطية المحتل في العراق هو الذي يستحق التعرية.
"القدس العربي"

التعليقات