كم تمنيت ألا أصل إلى مرحلة أضطر فيها أن أكتب هذه الكلمات.. كم منيت النفس بأني على خطأ، وبأن ما نسمعه حول خضوعكم للضغوطات والتخلي عن القدس هو مجرد إشاعات لا أساس لها من الصحة... ولكن بعد أن طفح الكيل لم نعد نستطيع السكوت عما يجري للقدس من إهمال متعمد - وأشدد هنا على كلمة متعمد - بعد أن لم يعد هناك من شك لدينا بأن هذا هو الواقع المرير الذي حاولنا أن نغمض أعيننا عنه مراراً وتكراراً على أمل بأنه مجرد أوهام في عقولنا..
سمعنا الكثير الكثير وتأملنا الكثير الكثير بأن تجد القدس اهتماماً حقيقياً وليس مجرد وعودات زائفة وتعهدات لم يتحقق منها شيء على أرض الواقع.. انتظرنا وانتظرنا على أمل أن نجد ولو لفتة واحدة تجاه القدس ومؤسساتها ومواطنيها الذين قلت كثيراً في مقالات عديدة بأنهم يعانون الأمرين بل وإنهم الآن أمام خيارين أحلاهما مر.. إما التخلي عن القدس والهجرة إلى خارجها.. أو التخلي عن هويتهم الفلسطينية واللهث وراء الجنسية الإسرائيلية ليضمنوا بقاءهم في هذه المدينة وعدم تهجيرهم عنها.. خياران ليس من سبيل لسواهما بعد أن تخلى عنهم الجميع، وبعد أن فشلت كل جهودهم في البحث عن حل لمشكلاتهم ومعاناتهم ومحاولات تهويدهم وتهويد مدينتهم، فوجدوا أنفسهم يُدفعون دفعاً باتجاه القبول بالأمر الواقع والرضوخ لما يريده الإسرائيليون.. فمن سيلومهم لو اتخذوا أحد هذين الخيارين؟! بل هل سيجرؤ أحد على لومهم وقد قصّر الجميع بحقهم ابتداء من سلطتنا الوطنية الفلسطينية وانتهاء بالدول العربية الذين تخلوا عنهم وعن قدسهم في وقت هم بأمس الحاجة فيه إلى أحد يقف معهم ويساندهم في صمودهم وتحديهم للضغوطات الكثيرة.
في العدد الماضي تعرضت في مقالي لموضوع الاستفتاء الذي تعد السلطات الإسرائيلية العدة لإجرائه لمواطني القدس وحذرت من مغبة إجراء مثل هذا الاستفتاء الذي ستكون نتائجه وخيمة فيما لو تم، وبخاصة وأن إسرائيل تمهد الأجواء بين المقدسيين لتضمن نتائج الاستفتاء لصالحها، ولكن لا حياة لمن تنادي وكأنني أصرخ في بئر عميق لا أحد يسمع ما أقوله.. ألهذا الحد وصلنا يا أخوتنا.. ألهذه الدرجة بلغ بنا الأمر من التخاذل والتقصير بحق القدس؟!...
يا جماعة إنني أتحدث عن القدس.. نعم القدس وليس عن أي مدينة أخرى.. القدس التـي رضعنا انتماءنا إليها مع حليب أمهاتنا.. القدس التـي منذ وعينا على الدنيا ونحن نسمع بأنها قلب عروبتنا وعنوان صمودنا، بل عنوان قوميتنا العربية، بل عنوان انتمائنا الوطنـي لفلسطين، بل عنوان لانتمائنا الدينـي..
أليست هذه هي العاصمة الأبدية لدولتنا العتيدة؟!...
أليست هي عنوان كرامتنا؟!!..
هل تخلينا عن انتمائنا الوطنـي والدينـي ؟!
هل تخلينا عن عاصمتنا، بل هل تخلينا عن كرامتنا؟؟!
آه وألف آه على ما يجري.. فكم نتألم ونحن نرى ونغمض عيوننا عما نراه، نسمع ونغلق آذاننا لئلا نسمع حقيقة أننا في طريقنا إلى التخلي الكامل عن القدس.. عن كرامتنا.. عن كياننا.. عن عروبتنا.. عن قوميتنا.. عن انتمائنا.. ونحن نلهث وراء أمنيات وآمال وبحث عن منقذ في عصر عزّ فيه أن نجد المنقذ لنا من الضياع..
كيف سنبرر لأبنائنا هذا الإهمال المتعمد للقدس ولهم وبخاصة وبأن العديد من شبان وشابات المدينة تائهون يشعرون بفقدان الهوية والانتماء لافتقار القدس إلى المرجع الوطني والقيادة المحددة التي تدعم انتماءهم وتقويهم وتشد من عزيمتهم في مواجهة التحديات.. مغريات كثيرة يتعرضون لها كل يوم.. مغريات ستجعلهم يلهثون وراءها إن لم يجدوا من يقف معهم، من يرشدهم.. من يساعدهم على تخطي هذه المرحلة الصعبة من حياتهم..
قلتها سابقاً وسأظل أقولها.. أبناؤنا في خطر.. مؤسساتنا في خطر.. مقدساتنا في خطر.. قدسنا في خطر.. بل لقد تعدت مرحلة الخطر بكثير.. تجاوزنا حتى الخط الأحمر الذي كثر الحديث عنه مؤخراً... فلم يعد هناك من خط أحمر، فالقدس أصبحت مشاعاً لكل من هب ودب.. أصبحت مشاعاً وأرضية خصبة للتهويد.. وكما يقول المثل : المال السائب يعلم الناس الحرام.. وقدسنا أصبحت مالاً سائباً من السهل الاستيلاء عليه بكل بساطة ومن دون حتى أدنى اعتراض من أي كان..
يا أخوتنا بحسب خبر نشر في "هآرتس" الأسبوع الماضي "أن اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء في القدس صادقت هذا الأسبوع على مشروع بناء جديد في شرقي المدينة من أكبر المشاريع في حجمها في العاصمة في السنوات الأخيرة. وحسب الخطة، ستبنى 1,300 وحدة سكن في اطراف الحي الأصولي رمات شلومو، على حدود الحي العربي بيت حنينا.... المستشار القانوني لجمعية "عير عميم" داني زايدمان قال إن الحديث يدور عن وتيرة سريعة لم يشهد لها مثيل في السنوات الاخيرة. في أعوام 2002 – 2006 صودق بالإجمال على نحو 1,600 وحدة سكن". كما أعلن عن مخطط لبناء 40,000 وحدة سكنية خلال السنوات العشر القادمة في شطري المدينة.
فهل كانت هذه القرارات ستتخذ لو لم تكن القدس مالاً سائباً.. والله أعلم ماذا يخططون أيضاً.. فإلى متى الصمت على ما يجري إلى متى؟!!
يا أهل القدس.. ما حك جلدك مثل ظفرك.. فان كانوا تخلوا عنا وعن قدسنا دعنا نحن أيضاً لا نتخلى عن أنفسنا.. وان كانوا لا يسمعون ويصمّون آذانهم فلنجبرهم على فتح آذانهم وعيونهم.. لم يعد هناك من مجال للسكوت.. فالقدس قدسنا وعلينا وعليهم واجب الدفاع عنها وعن هويتنا.. فأنتم لا تطلبون منة أو شفقة، بل هو حقكم كمقدسيين وواجب عليهم تجاه المدينة وتجاهكم.. فكم من أموال رصدت للقدس وذهبت إلى غير أهل القدس رغم أنها من حق كل فرد من أبناء هذه المدينة ومؤسساتها.. إن صمتنا فهذا يعنـي أن ندفن رؤوسنا بالتراب ونرضى بما يُملى علينا وبما يخططون لنا.. فهل نفعل ذلك أم نستنهض أنفسنا ونرفع صوتنا عالياً ليسمع من لا يسمع بأن هناك تقصيراً بل تخاذلاً واضحاً تجاه القدس وبأن كل ما نسمعه هو دعاية إعلامية ليس إلا.. وأتحدى من يقول غير ذلك وبأن هناك فعلاً دعماً للقدس ولصمود مواطنيها، بل وأقولها بكل صراحة بأنهم يريدون لنا أن نستسلم ونخضع للأمر الواقع تماماً كما خضعوا هم للأمر الواقع.. بأن القدس ليست لنا وإنما العاصمة الأبدية الموحدة لدولة إسرائيل.. فماذا ستفعلون يا أبناء القدس حيال هذا الأمر، هل تنتظرون لأن يتحقق ما يريدونه لنا ؟!
التعليقات