21/09/2018 - 15:27

لماذا ننسخ تجربة رام الله؟

إن المقاومة الشعبية ليست موجهة فقط إلى الخارج، بل إن أحد جوانبها موجه إلى الداخل، أي أن أحد أوجه المقاومة هو تنظيم الناس، وتعزيز قيم التضامن الداخلي وفق تصور متكامل، ورؤية جامعة عصرية ومهنية.

لماذا ننسخ تجربة رام الله؟

هل صدفة أننا نشهد ازدياد التشابه في المغالاة في الاعتماد على الخارج واستعطافه، بين المؤسسات الفلسطينية القيادية داخل الخط الأخضر (لجنة المتابعة والقائمة المشتركة)، والمؤسسات الفلسطينية الرسمية (سلطة رام الله تحديدًا)؟ هذا الاعتماد الذي أضحى بديلا عن الاعتماد على الذات. لمن اليد الطولى في عملية التنسيق الذي يجري بين الحين والآخر مع مؤسسات سلطة رام الله، أو مع ما تبقى من منظمة التحرير الفلسطينية المعتقلة تحت الاحتلال والملحقة بسلطة التنسيق الأمني؟ هل نلقي بأنفسنا في أحضان المؤسسات المهترئة والفاقدة للحياة، والفاقدة للقيم التي تأسست عليها حركة الثورة الفلسطينية؟

لقد أدمنت سلطة رام الله على الدبلوماسية الدولية التي لم توقف جرافة استعمارية واحدة عن الفتك بالأرض الفلسطينية، ولم تمنع جريمة احتلالية واحدة. لقد واظب الشخص المتفرد بالسلطة، السيد أبو مازن، على الانزواء داخل جدران المقاطعة، وعلى التجول في دول العالم لاستعطافها، تاركا جرافات الاستعمار وجيوشه تعبث بالوطن وتُنكل بالشعب، الذي يوعد منذ أكثر من عقدين بأن العالم سينصره، ليس بفعل شعبي عارم، بل بفعل عملٍ جبار وخارق يقوم به رئيس المقاطعة. هكذا أقعد الشعب عن العمل، وعن الحراك، وعن العطاء، باستثناء فئات شعبية محدودة، تخرج بين الحين والآخر عن الطوق وتتحدى الاستعمار.

ليس جديدًا لجوء شعبنا الفلسطيني إلى المؤسسات الدولية، وإلى حركات التحرر العالمية، وكذلك لجوء فلسطينيي الداخل إلى المؤسسات الدولية وإلى أصدقاء الشعب الفلسطيني، لتعريفهم بوجود فلسطينيين داخل "إسرائيل"، هو قديم أيضا. أيامها، كان طعم التواصل مختلفا، كانت أفكار الثورة والتحرر والحريّة والقامة المرفوعة، هي مرجعيات الشعوب. وقد حقق شعبنا ككل، إنجازات هامة على الصعيد الدولي، منذ انطلاق ثورته، إلا أن هذا الحراك الدولي بات يحتاج إلى إستراتيجية مختلفة تتوجه إلى الشعوب في الأساس، وليس إلى الحكومات فقط. 

كما كسر فلسطينيو 48 حاجز الخوف منذ أواخر الثمانينات، وخاضوا غمار تجربة العمل الدولي، وهنا أيضًا تلح الحاجة إلى بلورة إستراتيجية مختلفة في كيفية التوجه إلى العالم، بعد التحولات العاصفة التي نشهدها مؤخرًا.

إن التواصل مع الخارج والتفاعل مع الشعوب وحركاتها التقدمية والديمقراطية هو أمر ضروري، وهو ركن واحد فقط من أركان النضال، لكن التعويل عليه وحده خطير، لأنه يعوّد على الكسل والاسترخاء، خصوصًا في ظل السقوط الأخلاقي للنظام العالمي الحالي.

ربما قرأ العديد من السياسيين، دون أن يذوتوا ما يقرأون، بأن تجارب حركات التحرر علمتنا أن الاعتماد على الذات هو الأساس، أما التحرك على المستوى الدولي فهو عامل مكمل، وليس بديلا لنضال الداخل. لا يجوز أن نواصل الهرب إلى الخارج بدل الانشغال في تنظيم المجتمع. فالمقاومة الشعبية لا تشمل المظاهرات الاعتصامات فحسب، بل أيضًا تنظيم المجتمع، مؤسساته، تعليميا، تثقيفيا، نقابيا، وبناء شخصية الآلاف من طلائع الجيل الجديد وتدريبهم على النضال، وعلى كيفية تنظيم النضالات المتواصلة، والاعتصامات الطويلة.

أدمن أبو مازن على التعويل على الخارج منذ سنوات طويلة، ولم يحقق سوى إنجازات رمزية، وهمية. كل ذلك كان على حساب النزول إلى الشارع، بل أكثر من ذلك، ضاعفت إسرائيل لصوصيتها، وجرائمها عدة مرات. لقد تبين الآن بعد تعمق المشروع الكولونيالي في الوطن كله، أن الحضور الدولي كان أشبه بملهاة، ملهاة خطيرة، قادت إلى هجرة ساحة المواجهة طوعًا، وترك المستعمر يفعل ما يشاء. ورفض أبو مازن القاطع لـ"صفقة القرن"، من دون برنامج كفاحي ورفع عقوباته عن فقراء غزة، وتوحيد الحركة الوطنية، لا تجدي. فالصفقة يجري تنفيذها على الأرض بتسارع مخيف.

في داخل الخط الأخضر تبدو الصورة وكأننا نقوم بنسخ هذه التجربة الرديئة. فبعد أن غادرنا الشارع وترفعنا على الشعب، خصوصًا بعد تجربة مقاومة مخطط برافر، وفضلنا العمل الناعم، وعجزنا بسبب فقر فكري وقيادي مضافة إلى ظاهرة الفساد المتجلية بالالتصاق بالكراسي، عن تنظيم الناس وحشدهم في الفعل الشعبي، المدني السلمي، ضد هدم بيوتنا وتدمير قرانا ونهب ما تبقى لنا من أرض، ومواجهة التحريض وإطلاق غول العنف الداخلي (وهو بالأساس خارجي). بعد كل ذلك هربنا إلى الخارج مجردين من قوة شعبنا.

للنضال الشعبي قوانينه ونظرياته، منها ما اكتسب بالتجارب العملية، ومنها ما دُوّن في كتب ومجلدات، فهل قيادات المنابر قرأت ذلك؟ وهل إذا قرأته، استوعبته؟ وهل إذا استوعبته، تطوعت في التخلي عن بعض راحتها واسترخائها؟

لقد بات النضال الشعبي محصورًا في مظاهرة هنا وهناك، فقط لرفع العتب، أو كأن الهدف هو تنظيم المظاهرة وليس تحقيق مطالب، أو إسقاط سياسات. هذا النهج، وهذا القصور في الرؤية، لا يعكس جدية القيادات إطلاقا.

ليس مطلوبا إعلان الحروب، ولا إعلان الانتفاضات العارمة، المطلوب هو النظر من تحت لفوق، من الشعب، الذي يحتاج إلى من يبدأ في تنظيمه وبناء لجانه الشعبية وتوفير الثقافة الثورية، والتفكير الحر.  بعدها تولد أو تتوالد ديناميات تؤدي إلى حراكات شعبية مدروسة ومعقلنة، وتتقدم بفعل العامل التراكمي. هكذا يعاد بناء الشعب، بناء المجتمع، وهكذا تتطور لديه آليات حمايته من عنف المستعمر، ومن العنف الداخلي. بل هكذا يتكون لدينا مجتمع المستقبل، الفاعل والدينامي والآمن.

إن المقاومة الشعبية ليست موجهة فقط إلى الخارج، بل إن أحد جوانبها موجه إلى الداخل، أي أن أحد أوجه المقاومة هو تنظيم الناس، وتعزيز قيم التضامن الداخلي وفق تصور متكامل، ورؤية جامعة عصرية ومهنية.

ما يجب أن ندركه، أنه ليس لدى سلطة رام الله ما نتعلمه. هذه السلطة لن تضيف غلى تجربتنا شيئا سوى الفساد والإفساد والتشوه. وللأسف، فإن هذا ما بتنا نراه في سلوك المؤسسات العربية التمثلية التي تمثل فلسطينيي 48؟ علاقاتنا يجب أن تتوجه أكثر نحو القوى الشعبية في الأرض المحتلة عام 1967، مع اللجان الشعبية الفاعلة والمثقفين وطلائع الشباب الأكثر وعيا، الذين يحملون فكرا نقديا للحالة الفلسطينية الراهنة، ويجتهدون على الأرض لخلق النموذج البديل، نموذج المقاومة الشعبية والثقافية والفنية. معًا نفكر، ومعًا  نكتب، ومعًا نعمل، ومعا نكافح ونبني.

التعليقات