31/10/2018 - 17:37

قراءة في نتائج انتخابات الناصرة 2018

نظرة سريعة لنتائج الانتخابات في الناصرة، والتي كانت متوقعة جدا من أي شخص استطاع الوقوف على نفس البعد من كلا المرشحين، كلا المعسكرين، كلا الخطابين، تحتم علينا أن نرى الصورة الأوسع للانتخابات في بُعدها الأساسي: استفحال هيمنة المستعمِر في علاقته

قراءة في نتائج انتخابات الناصرة 2018

نظرة سريعة لنتائج الانتخابات في الناصرة، والتي كانت متوقعة جدا من أي شخص استطاع الوقوف على نفس البعد من كلا المرشحين، كلا المعسكرين، كلا الخطابين، تحتم علينا أن نرى الصورة الأوسع للانتخابات في بُعدها الأساسي: استفحال هيمنة المستعمِر في علاقته مع المستعمَر.

أنّى لنا أن ننسى أنّها انتخابات تدور في ساحة المستعمِر، وتجري بحسب قوانين لعبته وتحت سيادته على شعب يرزح تحت المنظومة الاستعمارية. الانتخابات في الوضع الطبيعي تعتبر واحدة من أبرز آليات ممارسة الديمقراطية، ولكنها في دولة تشكل العنصرية فيها أساس وجودها تصبح الانتخابات أداة استعمارية غير ديموقراطية بالضرورة. لقد صممت ما يعرف بالانتخابات المحلية لتكون أداة تفتيت للداخل الفلسطيني، وتفكيك لمصادر قوته كجزء من الشعب الفلسطيني. وليس أدلّ على ذلك من ملاحظة الصدع الذي تتركه كل انتخابات. مثل تهميش جمهور الخاسرين من قبل الرابحين، أو تسخيف الرابحين من قبل الخاسرين، الأمر الذي يزيد الانقسام والتشرذم. أو التوترات الناشئة عن مكافأة المؤيدين وعزل غير المؤيدين ما يترك مجالا للمستعمر للنفاذ من خلالها لتعزيز الجريمة أو حالة الاستقطاب لتصب في خدمته في نهاية المطاف.

ولأنها انتخابات تدور في فلك المستعمِر المؤسّس على العنصرية، فسيبقى جلّ اهتمام "الدولة" هو سلخ المستعمَرين عن كونهم جزءا من شعب معظمه لاجئ في بقاع الأرض المختلفة. وعليه، يكون من المفرح جدا للمستعمِر رؤية المستعمَرين ينساقون في المنظومة ليتعاملوا مع أنفسهم على أنهم أقلية تحارب من أجل حقوقها المدنية. ولا ضير إن توهموا أكثر، فرفعوا شعارات المطالبة بالمساواة المستحيلة.

عندما يختفي البعد الوطني الجامع من إدراكنا، ويتم تغييب هويتنا الوطنية، تصبح الطريق معبدة أمام المستعمِر لإشغال الناس بالهمّ اليومي والجري المستمر نحو لقمة العيش، وسلخ اليومي المحلي عن الوطني السياسي. من منا يستطيع إنكار انتشار ثقافة "انسى فلسطين وانسى شعبك وفكر بعيلتك وأولادك"، وكأن السبيل الوحيد إلى الحياة الكريمة تكون بالانسلاخ عن الذات والتماهي مع المستعمِر؟!

يبدو أننا غرقنا في المنظومة ففقدنا القدرة على قراءة البوصلة، وما علينا إلا أن نعود إلى الأساس. الأمم المتحدة نفسها في أكثر من وثيقة دولية تقرّ بأن حق تقرير المصير أساس لممارسة الحقوق الأخرى. ولعل هذا يفسر لماذا جاء "قانون القومية" الأخير ليؤكد أن تقرير المصير حق حصري لليهود في فلسطين. التنكر للحقوق السياسية للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حق تقرير المصير والعودة، ليس عبثيا، إنما سياسة استعمارية يراد منها المحافظة على سموّ المستعمِر ودونية المستعمر. كل الشعوب، وحتى الأقليات، أدركت منذ زمن بعيد أنه يستحيل فصل الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية عن الحقوق السياسية. وهذا الفصل، على خطورته، تبنته الأحزاب والقيادات عندما تقوقع عملها في الكنيست واختفت من الشارع فبعُدت عن الناس وتراجع تفاعل الشارع معها لتعود إليه قبيل كل انتخابات لكسب صوته.

عندما تفصل القيادات والأحزاب ما بين السياسي والمدني اليومي لتلاءم ذاتها مع متطلبات منظومة المستعمِر، فإنها تكون قد خسرت الشعب. وعندما تبتعد القيادات والأحزاب عن نبض الشارع وتركن فكرها في مقرّاتها وتغير رؤيتها لتحظى برضى المستعمِر، أو لتتجنب الغرق في هموم الناس من باب الاستعلاء أو الانشغال في قضايا أكبر، فإنها تخسر معركة الحقوق المدنية. وعندما لا تعمل لحل مشاكل الناس على مدار السنوات وتستيقظ فجأة قبل الانتخابات، لا يكون لحضورها ببعده الوطني عمق أو أثر. فعندما يختفي البعد الثقافي والاجتماعي والخدماتي من أجندتها الوطنية، وتبقي على خواء شعاراتها، فإن البديل يكون الأقرب من الناس، لأن البشر بفطرتها ترفض نهج العنجهية والاستعلاء ومن يستخدمهم للمناسبات. الناس تتوق إلى من يخاطبها بصدق، ببساطة، وبشفافية وليس باستغفال أو استغباء. الناس تجلّ من يواجه من يشعِرونهم أنهم غير مرئيين، أو حتى أسوأ من ذلك، غير آدميين، وقطيع يسهل قيادته.

ليس صحيحا تهنئة الذات بانتصارات وهمية، ولا استمرار الطريق إلى المقصلة بمكابرة فارغة. على الأحزاب محاسبة نفسها. على كوادر الأحزاب تحديدا تقع مسؤولية التقييم والمحاسبة، لأن القيادات عندنا لا تحاسب نفسها، تفشل ثم تفشل ثم تفشل وتبقى في مواقع القيادة.

نريد قراءة موضوعية لواقعنا. وما بعد المحاسبة، نريد ممن عمل قبل الانتخابات، أن يعمل بعدها بين الناس، حتى وإن لم يختاروه اليوم. نريد ممن يحب البلد بهويته الوطنية وحاجاته اليومية والتنموية أن يعمل من أجل البلد على مدار العام والأعوام، أن يلتحم مع وجع وصعوبات الناس في الأحياء المهمشة والمنسية في برامج تراهم كبشر، كأبناء شعب واحد فعلا، يتجسّد فيها تكامل النضال الوطني والحقوقي. ومن هنا تكون الطريق معبدة نحو انتماء وطني وطرح وطني سياسي ومحلي يصغي له الناس، لأن الطرح الوطني أذا لم ير الإنسان الفرد فهو شعاراتي وناقص ولا يعوّل عليه. والطرح المدني إذا لم يقترن بالطرح السياسي الأشمل فهو مبتور ولا يخدم إلا سياسة المستعمر. ليس هذا من فانتازيا أفكار، فكلنا يدرك في قرارة نفسه أن المستعمِر يريد لنا أن نظل نرى أنفسنا أفرادا، وعائلات، وجماعات تتناحر على فضلاته، وأن نرى أنفسنا "أقلية" في مستعمرته منقطعين عن باقي أبناء شعبنا الفلسطيني في غزة والضفة والشتات.

انتهينا من انتخابات أخرى، أظهرت لنا أكثر من أي وقت مضى عبر صورة الجولان السوري المحتل، كيف يحفظ الإنسان كرامته، والكرامة قوة ما بعدها قوة، لا يوازيها كل فتات المستعمر مهما كثُر. لنلملم خيباتنا وانتصاراتنا على الآخر الذي منا، ولننتصر لذاتنا وفلسطيننا. المتنافسون في الانتخابات – أكانوا من الخاسرين أم الرابحين- ليسوا هم الأعداء؛ العدو من اختطف منا فرح الحياة الكريمة، من مزّقنا إلى شتات، وطوائف وحمائل، من جعلنا غرباء في وطننا وعن هويتنا، من يوغل في تفتيتنا ويستمرئ تناحرنا على فتاته منذ سبعين عاما وما زال يختطف كل حقوقنا بخبث وعنجهية لا مثيل لهما.

التعليقات