08/03/2019 - 20:18

حدثٌ لم يأخذ حقَّه... مسيرة العودة الكبرى! 

كثيرةٌ هي الأحداث الميدانية العسكرية والشعبية التي شهدتها ساحة المواجهة مع المستعمر على أرض فلسطين، في السنوات العشر الأخيرة، أي بعد قمع الانتفاضة الثانية الكبرى.

حدثٌ لم يأخذ حقَّه... مسيرة العودة الكبرى! 

كثيرةٌ هي الأحداث الميدانية العسكرية والشعبية التي شهدتها ساحة المواجهة مع المستعمر على أرض فلسطين، في السنوات العشر الأخيرة، أي بعد قمع الانتفاضة الثانية الكبرى.

ومن هذه الأحداث، أيضًا، الحراك الثقافي النوعي والإنتاج الأكاديمي النقدي المستمر على مدار اللحظة، الذي يطمح إلى التعويض عما أفسده السياسي وإلى لملمة شظايا الرواية، التي طالها الكثير من التشوه والتآكل في مرحلة التيه السياسي. 

العام الماضي، تفتقت عن أذهان ثلة من طلائع الشباب الفلسطيني في قطاع غزة فكرة تنظيم مسيرة عودة تقتحم الحدود سلميًا، بعد أن بدا لهم أن أهالي قطاع غزة، سيموتون موتًا بطيئًا وبالمجان دون أن يعير أحدٌ صوتهم أهميةً، تحت حصار استعصى دحره بالمقاومة العسكرية وبأساطيل الحرية وبغيرها من النشاطات الثقافية والإعلامية، وبعد أن بان تواطؤ ما يسمى بالمجتمع الدولي مع هذا الحصار، بل مع الجريمة الصهيونية الممتدة في التاريخ والحاضر.

هي فكرة قديمة نسبية، ترافقت مع انطلاق ثورات الشعوب العربية، قبل ثمانية أعوام. وجرت محاولة لتطبيقها على شكل السير على الأقدام، نحو قراهم وبيوتهم التي طردوا منها، عبر حدود غزة وعبر حدود الدول العربية المحيطة بفلسطين. غير أنّه، لأسباب عدة، لم يكتب لها الديمومة، فاختفت تماما بعد وقت قصير. ومن بين الأسباب، عدا عن عدم اختمار الفكرة آنذاك وعدم التهيئة لها بما يكفي، كان حمام الدم الذي أغرقت فيه أنظمة الطغيان العربية شعوبها، والانقسام الفلسطيني الكارثي.

 كل هذه الأسباب، وخاصّة الانقسام وتجذر سلطتين فلسطينيتين تحت الاحتلال، حالت دون تحول هذه الفكرة/المبادرة إلى فعل فلسطيني شعبي خلاق، يأخذ طابع المقاومة المدنية السلمية التي وسمت ربيع الشعوب العربية في الأشهر الأولى.

مع ذلك، كان لافتًا، وإن بتأخر طويل، أن تنطلق مسيرة شعبية سلمية من داخل قطاع نحو السياج الحدودي، الذي يتمركز فيه جنود المستعمر في الثلاثين من آذار العام الماضي، وأن تنتظم كل يوم جمعة، وتتمكن من الاستمرار حتى اليوم.

كان هدف المنظمين إعادة حق العودة إلى الوعي العالمي، والقول لهذا العالم المتبلد، إنّ المحاصرين في مدن ومخيمات قطاع غزة، هم في أغلبيتهم الساحقة لاجئون طردتهم إسرائيل عام 1948 من أراضيهم وقراهم ومدنهم حيث يستوطن فيها اليوم اليهود، وكانت فلسفة المنظمين تقوم على نشر ثقافة المقاومة الشعبية بين عامة الناس، والوعي بحق العودة بين الأجيال الشابة، خاصة بعد أنّ دأبت إسرائيل على وصف مقاومة حركة حماس بالإرهاب، وشيطنة الحركة في نظر حكومات المجتمع الدولي المتواطئة مع الكيان الإسرائيلي والداعمة له بهدف تبرير إبقاء الحصار الإجرامي.

وجاء انطلاق مسيرات العودة، أيضًا، في سياق التحضير لمؤامرة تصفية القضية الفلسطينية، التي باتت تعرف بـ"صفقة القرن" الترامبيّة. 

وكان رد الفعل الإسرائيلي صاعقًا، إذ أعملت القنص والإعدام ضدّ كل من يقترب من السياج. فقد سقط في اليوم الأول لوحده عشرات الشهداء ومئات الجرحى.

كان الهدف من قتل الناس هو قتل الفكرة قبل أن تنمو وقبل أن تصبح جزءًا من ثقافة شعبية راسخة تُظهر إسرائيل دولةً مسلحة قاتلة، في مواجهة شعب محاصر ومطرود من وطنه، يحاول العودة بسلام ودون حمل السلاح إلى المكان الذي طرد منه بوحشية بالغة. كان الثمن، وما زال، باهظًا، ومع ذلك واصل الناس التوافد إلى السياج كل يوم جمعة. 

مراجعة نقدية 

أشعلت مسيرة العودة الكبرى، في الأشهر الثلاثة الأولى، المشاعر ولفتت الأنظار والاهتمام بشكل كبير في جميع أنحاء العالم. وحقق الفلسطينيون فوزًا في معركة الوعي ضد إسرائيل، غير أن هذا الاهتمام تراجع بصورة حادة في الأشهر الأخيرة، وذلك لأسباب كثيرة تطرّق إليها العديد من الكتاب، بما فيهم بعض منظمي المسيرة وأصحاب فكرتها، في سياق المراجعات النقدية التي بدأت مبكرًا.

لقد كان مخيّبًا ومؤلمًا أن لا تلاقي فكرة المسيرة انتشارا عمليا في عموم الضّفة الغربية، وكذلك داخل فلسطين المحتلة عام 1948، فقد كان طابعها السلمي ومطالبها العادلة وفِي مقدّمتها حق العودة المعترف به دوليا، ناهيك عن كونه أصلا حقًا طبيعيًا. هذا بطبيعة الحال، يعود إلى قرار رسمي من سلطة رام الله، التي ترفض النضال بشكل مبدئي، وتشارك إسرائيل في الحصار، من خلال فرض العقوبات على غزة.

ولو حصل هذا الانتشار، لكان واقع النضال الفلسطيني مختلفًا كليا عما هو عليه الآن.

ويسجّل أحمد أبو رتيمة، وهو أحد أبرز مبدعي فكرة العودة من الشباب، سببين رئيسيين لتراجع مكانة مسيرة العودة في المشهد الإعلامي العالمي؛ الأول أن منظمي المسيرة رفعوا سقف آمال الناس بإمكانية تحقيق اختراق فوري للحدود، والوصول إلى بلداتهم، والثاني تصدّر حركة حماس المشهد أكثر مما ينبغي، والتي كان عليها أن تمنح الفرصة للمجتمع المدني لتصدر المشهد وقيادته نحو مراحل متقدمة.

أعتقد أن مراجعات نقدية جديدة ستجري عشية الذكرى الأولى للمسيرة، وفِي سياق عملية التحضير للمليونية التي تتحدث عنها اللجنة العليا لمسيرة العودة الكبرى، ومن المهم أن تأتي هذه المراجعات على ضرورة تخفيف التكلفة البشرية التي يدفعها شعبنا عند السياج. 

تعميم التجربة في أنحاء فلسطين 

من الواجب أن تتهيأ الأطر الشبابية والطلابية والشعبية، منذ الآن، لإحياء ذكرى هذا النشاط، ليس باعتباره نشاطًا مضى، بل باعتباره نشاطًا مستمرا يحمل في طياته رسائل وطنية وسياسية وثقافية وتربوية وأخلاقية هامة.

إن ثقافة حق العودة والمقاومة المدنية ووحدة الشعب والرواية، هي ثقافة تبني وعيًا، وتبني أجيالًا فاعلة ومنتجة، لقد أبدع الحراك الشبابي الفلسطيني داخل الخط الأخضر، الذي خاض ثلاث مواجهات مع قوات القمع الإسرائيلية في مدينة حيفا في الأسابيع الأولى بعد انطلاق مسيرة العودة، ولكن ذلك الحراك لم يدم. ومن المهم إضافة أنواع مختلفة من النشاطات الفكريّة والسياسيّة والثقافيّة والفنيّة إلى التظاهرات والمظاهرات، تفاعلا مع مسيرة العودة، بهدف تجديد التفاعل، ومن أجل المساهمة في تعميم الفكرة والتلاحم بين أبناء الشعب الواحد، خاصّةً في ظل التآكل الأخلاقي والتجزئة والابتعاد عن النضال والفعل السياسي الحقيقي الناجع.

التعليقات